من البيوع المنهي عنها - الحلقة الرابعة- بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها / النجش في البيع

2012-09-02

زكريا حسينى

من البيوع المنهي عنها - الحلقة الرابعة- بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها / النجش في البيع

الحمد لله رب العالمين، نحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، ونصلي ونسلم على خير خلق الله والمصطفى رحمة وهداية للناس جميعًا، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

وبعد:

فنواصل الكلام عن البيوع التي نهى عنها الشارع، والتي سبق الكلام عليها في ثلاثة أعداد سابقة، فنقول مستعينين بالله تعالى:

7- بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها:

أ- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع.

هذا الحديث متفق عليه، أخرجه الإمام البخاري في ستة مواضع من صحيحه ؛ فأخرجه بالأرقام (1486، 2183، 2194، 2199، 2247، 2249)، وأخرجه الإمام مسلم برقم (1534).

ب- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، فقيل له: وما تزهي ؟ قال: “حتى تَحْمَرَّ”. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟”.

هذا الحديث متفق عليه أيضًا ؛ أخرجه الإمام البخاري في خمسة مواضع من صحيحه بالأرقام (1488، 2195، 2197، 2198، 2208)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه برقم (1555).

جـ- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تباع الثمرة حتى تُشْقِحَ. فقيل: وما تشقح ؟ قال: تَحْمَارُّ وتَصْفَارُّ ويؤكل منها.

د- وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الناس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبايعون الثمار، فإذا أَجَذَّ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدُّمَّان، أصابه مُرَاض، أصابه قُشامٌ- عاهات يحتجون بها- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: “فإمَّا لا فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر” كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم، قال أبو الزناد: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا، فيتبين الأصفر من الأحمر.

هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في موضع واحد في باب: بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها برقم (2193).

 شرح الأحاديث

أولاً: المفردات التي في هذه الأحاديث:

يبدو: أي يظهر، الثمار: جمع ثمرة، قال الحافظ في الفتح: وهي أعم من الرطب وغيره. المبتاع: المشتري. تزهو: أي تصير زَهْوًا: وهو الأحمر أو الأصفر من ثمر النخل، ويكون في المرحلة التي بين البلح “الأخضر” وبين الرُّطب.

تُشْقِحُ: من أشْقَحَ ثمر النخل إذا احْمرَّ أو اصْفَرَّ. تحمارُّ وتصفارُّ: قيل المراد بداية التلون باللون الأحمر والأصفر. وأنكر هذا بعض أهل اللغة وقال: لا فرق بين تحمر وتصفر وتحمار وتصفار. قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في احمرارها واصفرارها، كما تقرر أن الزيادة تدل على التكثير والمبالغة.

الدُّمَّان: بفتح أوله، وقيل: بالضم، قال القاضي عياض: وهما صحيحان، وقيل: الأَدَمان، وفسره بأنه فساد الطلع وتعفنه وسواده، وعن الأصعمي: الدمال باللام: العفن. وقال القزار: الدمان فساد النخل قبل إدراكه، وإنما يقع ذلك في الطلع، قال الحافظ: ووقع في رواية يونس الدمار بالراء بدل النون وهو تصحيف كما قال عياض: ووَجَّهَهُ غيره بأنه أراد الهلاك، كأنه قرأه بفتح أوله.

مُرَاضٌ: قال الحافظ: هذا في رواية الكشمهيني والنسفي، ولغيرهما “مَرَضٌ”، فأما مِرُاضٌ فبكسر أوله للأكثر، وقال الخطابي: بضمه، وهو اسم لجميع الأمراض بوزن (الصُّدَاع- والنِّعال)، وهو داء يقع في الثمرة فتهلك، يقال: أَمْرَضَ إذا وقع في ماله عاهة، وزاد الطحاوي في روايته: “أصابه عَفَنٌ”.

قُشَامٌ: زاد الطحاوي في روايته: “والقُشَامُ شيء يصيبه حتى لا يرطب، وقال الأصمعي: هو أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بَلَحًا، وقيل: هو أُكَالٌ يقع في الثمر.

عاهات: جمع عاهة، وهو بدل من المذكورات قبله، والعاهة: العيب والآفة، والمراد بها هنا ما يصيب الثمر مما ذكر.

فإمَّالا: أصلها إنْ الشرطية وما زائدة فأدغمت. وهي مثل قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا}، فاكتفى بلفظه عن الفعل، وهو نظير قولهم: من أكرمني أكرمته ومن لا فلا، أي: ومن لم يكرمني لم أكرمه.

والمعنى: إن لم تفعل كذا فافعل كذا.

قوله: “كالمشُوْرة”: بضم الشين وسكون الواو، وبسكون الشين وفتح الواو ؛ لغتان، قال الحافظ: وزعم الحريري أن الإسكان من لحن العامة، وليس كذلك، فقد أثبتها صاحب الجامع وصاحب الصحاح، وصاحب المحكم وغيرهم.

قوله: “حتى تطلع الثريا” أي: مع الفجر، وقد روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا قال: “إذا طلع النجم صباحًا رفعت العاهة عن كل بلد”. وفي رواية عن عطاء عن أبي هريرة: “رفعت العاهة عن الثمار”. قال الحافظ: والنجم هو الثريا، وطلوعها صباحًا يقع في أول فصل الصيف عند اشتداد الحر في بلاد الحجاز وابتداء نضج الثمار. فالمعتبر في الحقيقة النضج، وطلوع النجم علامة له. وقد بينه في الحديث بقوله: “حتى يتبين الأصفر من الأحمر”.

وروى أحمد من طريق عثمان بن عبد الله بن سراقة: سألت ابن عمر- رضي الله عنهما- عن بيع الثمار، فقال: “نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة، قلت: ومتى ذلك ؟ قال: حتى تطلع الثريا”.

ووقع في رواية ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة عن أبيه: “قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع خصومة، فقال: ما هذا ؟” فذكر الحديث، فأفاد مع ذكر السبب وقت النهي.

ثانيًا: المعنى الإجمالي لهذه الأحاديث:

نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذا النوع من البيع ؛ وهو بيع الثمار قبل بدو صلاحها، لأنها قبل ذلك تكون معرضة للآفات والعاهات التي تصيبها فيصبح فيها نوع من الغرر، ومِنْ أكل أموال الناس بالباطل، وقد حرص الإسلام على إبقاء الألفة والمودة بين الناس ومنع الخصومات والمنازعات بينهم، وعلى ألا يأكل بعضهم مال أخيه بالباطل، فلذلك نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البائع والمشتري، فأما البائع فلئلا يأكل مال المشتري بالباطل إذا وقعت جائحة فاجتاحت الثمرة فبأي حق بأكل مال أخيه ؟ وأما المشتري فلئلا يضيع ماله ويساعد أخاه البائع على الباطل، ومقتضى النهي الذي في هذه الأحاديث جواز بيع الثمار بعد بدو صلاحها مطلقًا سواء اشترط الإبقاء أم لم يشترط ؛ لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وقد جعل النهي ممتدًا إلى غاية بدو الصلاح، والمعنى فيه أن تؤمن العاهة وتغلب السلامة فيثق المشتري بحصولها، فحينئذ يقبل على الثمرة وهو مطئمن بحصول عوضه عن المال الذي يدفعه للبائع، وبمثل هذه الأحكام تتبين محاسن الشريعة الإسلامية التي هي شرعة رب العالمين لعباده، فقد شرع سبحانه ما فيه مصلحة العباد ومنافعهم.

ثالثًا: الأحكام التي في هذه الأحاديث:

1- لا يجوز بيع الثمار قبل بدو صلاحها، فإن بَدَا صلاحها جاز بيعها، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وعن أبي حنيفة إنما يجوز بيعها قبل بدو صلاحها حيث لا يشترط إبقاءها في الشجر، فإن شرط لم يصح البيع.

2- اختلف السلف في بدو الصلاح:

أ- هل المراد به جنس الثمار بحيث لو بدا الصلاح في بستان من البلد مثلاً جاز بيع ثمرة جميع البساتين وإن لم يَبْدُ الصلاح فيها ؟ إلى هذا ذهب الليث بن سعد، وهو عند المالكية بشرط أن يكون الصلاح متلاحقًا.

ب- أو المراد بدو الصلاح في كل بستان على حدة. وهو قول أحمد بن حنبل.

جـ- أو المراد بدو الصلاح في كل جنس على حدة، وهو قول الشافعية.

د- أو المراد بدو الصلاح في كل شجرة على حدة، وهو قول للإمام أحمد أيضًا.

3- فإن بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها ثم تلفت بجائحة أو عاهة فيرجع المشتري على البائع بالثمن.

4- وإن بيعت الثمرة بعد بدو صلاحها، ثم أصابتها عاهة فلا يحل للبائع أن يأخذ الثمن، وذلك لحديث جابر عند مسلم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته عاهة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟”.

رابعًا: بم يعرف بدو الصلاح ؟

ذكر الشافعية ثماني علامات يعرف بها بدو الصلاح:

أحدها: اللون في كل ثمر مأكول ملون إذا أخذ في حمرة أو سواد أو صفرة كالبلح والعناب والمشمش.

ثانيها: الطعم ؛ كحلاوة القصب وحموضة الرمان.

ثالثها: النضح واللين كالتين والبطيخ.

رابعها: القوة والاشتداد كالقمح والشعير.

خامسها: الطول والامتلاء كالعلف والبقول.

سادسها: الكِبَرُ كالقثاء بحيث يؤكل.

سابعها: انشقاق أكمامه كالقطن والجوز.

ثامنها: الانفتاح كالورد.

وقد وضع له كل من الأحناف والمالكية والحنابلة ضابطًا، اختلفت في ألفاظها، وفي طولها وقصرها، ولكن مؤداها أن تصلح الثمرة لتناول بني آدم، وعلف الدواب فيتنفع بها.

وبعد ؛ فإن كثيرًا من تجار الفاكهة يتبايعون الثمر وهو زهر على الشجر، مخالفين بذلك أحكام الشرع فيخسر الواحد منهم لما يصيب الثمرة من التلف، وقد تأتي ريح عاصفة فتنزل الزهر من الشجر فيقلُّ الثمر أو ينعدم بعد أن اشتراه، فتكون خسارته بالغة، والبائع قد باع ولا يرد إلى المشتري شيئًا بحجة أن البيع قد تم عن تراضٍ، وأن البائع لم يجبر المشتري على شراء سلعته، فالله المستعان.

وقد يزيد بعض التجار على ذلك فيشتري ثمر البستان لعدة سنوات، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك ؛ ففي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- : نهى عن بيع السنين. أخرجه مسلم برقم (1536).

والمراد به أن يبيع ما سوف تثمره شجرة البائع سنتين أو ثلاثًا أو أكثر، وذلك لما فيه من الغرر، وهو أَوْلى بالمنع من بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.

فنسأل الله تعالى أن يهدي المسلمين عامة والتجار خاصة وأصحاب الثمار والزروع إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ؛ وذلك بتمسكهم بأحكام دينهم بالأخذ بما أحل الله تعالى والابتعاد عما نهى عنه الله ورسوله، ليسعدوا في الدنيا والآخرة.

8- النجش في البيع

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النَّجْشِ.

هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في موضعين من صحيحه أولهما في كتاب البيوع باب النجش برقم (2142)، والثاني في كتاب الحيل باب ما يكره من التناجش برقم (6963)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في البيوع برقم (1516)، وأخرجه كذلك النسائي في البيوع برقمي (4502، 4509)، وابن ماجه برقم (2173).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “لا تناجشوا”.

هذا الحديث أخرجه أبو داود في باب النهي عن النجش برقم (3438)، وأخرجه الترمذي في ما جاء في كراهية النجش برقم (1304)، والنسائي في باب بيع المهاجر للأعرابي برقم (4496)، وفي باب بيع الحاضر للبادي برقم (4501)، وباب النجش برقمي (4510- 4511)، وابن ماجه في ما جاء في النهي عن النجش (2174).

 شرح الحديثين

قال الإمام الترمذي عقب روايته حديث أبي هريرة رضي الله عنه: وفي الباب عن ابن عمر وأنس، وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا النجش، وقال: والنجش أن يأتي الرجل الذي يبصر السلعة إلى صاحب السلعة فيستام بأكثر مما تَسْوَى، وذلك عندما يحضره المشتري، يريد أن يغتر المشتري به، وليس من رأيه الشِّري، إنما يريد أن ينخدع به المشتري بما يستام، وهذا ضرب من الخديعة.

وأما الإمام البخاري فتحت باب النجش قال: ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن، وهو خداع باطل لا يحل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : “الخديعة في النار، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد”. ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

قال الحافظ في الفتح: قوله: “باب النَّجْشِ” هو في اللغة تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد، يقال: نَجَشْتُ الصيدَ أَنْجشُه نَجْشًا، وفي الشرع الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، سمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة، فإن وقع ذلك بعلم البائع فهما مشتركان في الإثم، وإن وقع بغير علمه فالإثم خاص بالناجش، وقد يختص به البائع وذلك إذا أخبر أنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك. اهـ بتصرف.

قوله: “ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، قال الحافظ: كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق من طريق عمر بن عبد العزيز “أن عاملاً له باع سَبْيًا فقال له: لولا أني كنت أزيد فَأُنَفِّقُهُ لكان كاسدًا، فقال له عمر: هذا نجش لا يحل، فبعث مناديًا ينادي: إن البيع مردود وإن البيع لا يحل. قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر، ورواية عن مالك، والمشهور عن الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة البائع أو صنعه، والمشهور عند المالكية في ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية قياسًا على المصراة، والأصح عند الشافعية صحة البيع مع الإثم، وهو قول الحنفية.

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: النجش أن يَحْضُرَ الرجلُ السلعة تباع فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السُّوَّام فيُعْطُون بها أكثر مما كانوا يُعْطُون لو لم يسمعوا سومه، فمن نجش فهو عاص بالنجش إن كان عالمًا بالنهي، والبيع جائز لا يفسده معصية رجل نجش عليه. اهـ. من الفتح.

قوله: “وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن”. قال الحافظ: هذا طرف من حديث أورده المصنف (أي البخاري) في الشهادات، في باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً}، ثم ساق فيه من طريق السكسكي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: أقام رجلٌ سلعته فحلف بالله لقد أعطى فيها ما لم يعط فنزلت. قال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربًا خائن.

قال الحافظ: وقد اتفق أكثر العلماء على تفسير النجش في الشرع بما تقدم. وقيد ابن عبد البر وابن العربي وابن حزم التحريم بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل، قال ابن العربي: فلو أن رجلاً رأى سلعة رجل تباع بدون قيمتها فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشًا عاصيًا، بل يؤجر على ذلك بنيته، وقد وافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية، وفيه نظر ؛ إذ لم تتعين النصيحة في أن يوهم أنه يريد الشراء وليس من غرضه، بل غرضه أن يزيد على من يريد أن يشتري أكثر مما يريد أن يشتري به، فللذي يريد النصيحة مندوحة عن ذلك أن يعلم البائع أن قيمة سلعته أكثر من ذلك، ثم هو باختياره بعد ذلك، ويحتمل ألا يتعين عليه إعلامه بذلك حتى يسأله لحديث: “دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه”. والله أعلم.

قوله: “وهو خداع باطل لا يحل”. قال الحافظ: هو من تفقه المصنف وليس من تتمة كلام ابن أبي أوفى.

قوله: (قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : الخديعة في النار، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد” قال الحافظ: أما الحديث الثاني فسيأتي موصولاً من حديث عائشة في كتاب الصلح، وأما حديث: “الخديعة في النار” فرويناه في الكامل لابن عدي من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: لولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “المكر والخديعة في النار” لكنت من أمكر الناس، وإسناده لا بأس به.

أقول: إن كثيرًا من المسلمين يعدون المكر والخديعة في البيع والشراء الآن من المهارة في التجارة، وأن التاجر الماهر هو الذي يستطيع أن يبيع سلعته بأكثر مما تستحق، وذلك بطرق شتى أكثرها المخادعة والمخاتلة والحلف الكاذب الماحق للبركة، فيا ليت التجار يتعلمون أحكام الشرع ويرضون بالحلال الطيب، ويبتعدون عن كل ما نهى عنه الشرع، ففي ذلك سعادة الدارين.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

عدد المشاهدات 11037