كيف تلقى الصحابة كلام الله
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما كان لنا خمر غير فضيخكم الذي
تسمونه الفضيخ، فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانًا وفلانًا إذ جاء رجل فقال وهل
بلغكم الخبر؟ فقالوا وما ذاك؟ قال حُرِّمت الخمر قالوا أهرق هذه القلال يا أنس،
قال فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في مواضع أولها في كتاب
المظالم باب صب الخمر في الطريق برقم، وفي كتاب التفسير في تفسير سورة المائدة باب
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان) برقم، وباب (ليس على
الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) برقم، وفي كتاب الأشربة باب الخمر
من العنب برقم، وفي باب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر برقم،،، وفي باب من
رأى أن لا يخلط البسر والتمر برقم، وفي باب خدمة الصغار الكبار برقم، وفي كتاب
أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم
والأحكام برقم، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة برقم مكررًا،
وبرقم، وأخرجه الإمام أبو داود في سننه في كتاب الأشربة في باب (تحريم الخمر برقم،
وكذا الإمام النسائي في السنن الصغرى في كتاب الأشربة باب ذكر الشراب الذي أهريق
بتحريم الخمر برقم،،، وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الأشربة باب جامع
تحريم الخمر برقم كما في الاستذكار، والإمام الدارمي في سننه في كتاب الأشربة باب
ما جاء في تحريم الخمر كيف كان برقم، وأخرجه الإمام أحمد في المسند بالأرقام،،،،،
في مسند أنس بن مالك رضي الله عنه
شرح الحديث
في هذا الحديث يبين الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه أن
أصحاب النبي ورضي الله عنهم كانوا يجتمعون على شرب الخمر قبل تحريمه، فاجتمع جماعة
منهم من الأنصار مع النبي، فأخبرهم أن هناك أمرًا قد حدث بالنسبة للخمر وهو أن
الله تعالى حرمها، فلم يتردد القوم في التوقف عن شربها بل أمر أبو طلحة ربيبه
أنسًا أن يريق الخمر التي عندهم في جرارهم وأسقيتهم بمجرد أن علموا الخبر
بالتحريم، وقد وصف أنس هؤلاء الرهط الجالسين للشرب أنهم سارعوا بالاستجابة، ولم
يراجعوا فيها ولم يسألوا عنها بعد ذلك، وهذا موقف الصحابة حين يتلقون الخبر
ويسمعون كلام الله عز وجل يتلى عليهم، فما دام الأمر نازلاً من عند الله تعالى على
رسوله فما على المسلم إلا التسليم والسمع والطاعة والانقياد لله ولرسوله
تعريف الخمر
الخَمْرُ ما أَسْكَرَ من عصير العنب وغيره، والسُّكْرُ هو غيبوبة
العقل واختلاطه من الشراب المسكر
الآيات التي نزلت في تحريم الخمر
قال القرطبي عند تفسير آية البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ ) قال بعض المفسرين إن الله تعالى لم يدَعْ شيئًا من الكرامة والبر
إلا أعطاه هذه الآية، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة،
ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة؛ فكذلك تحريم الخمر وهذه الآية أول ما نزل في أمر
الخمر ثم ساق كلامًا مؤداه أن شارب الخمر يفقد عقله، ويعبث حتى يصير أضحوكة للناس،
وأما منفعتها فربح التجارة فيها
وقال في تفسير آية سورة النساء
حض الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين؛ لأنهم كانوا يقيمون
الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فَخُصَّوا بهذا الخطاب؛ إذ كان
الكفار لا يفعلونها صحاةً ولا سكارى
روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما نزل تحريم الخمر
قال عمر اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر بيانًا شفاءً؛ فنزلت الآية التي في البقرة
(يسألونك عن الخمر والميسر) قال فدعي عمر فقرئت عليه فقال (اللهم بَيِّنْ لنا في
الخمر بيانًا شفاءً، فنزلت الآية التي في النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) فكان منادي رسول الله إذا أقيمت
الصلاة ينادي الا لا يقربَنَّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال اللهم بين
لنا في الخمر بيانًا شفاءً، فنزلت هذه الآية (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال
عمر انتهينا
وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال صنع لنا عبد
الرحمن بن عوف طعامًا فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة
فقدموني فقرأت (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)
ونحن نعبد ما تعبدون قال فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) قال
أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح
وقال في تفسير آية المائدة التي معنا في هذا الحديث
تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها،
وأول ما نزل في شأنها قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) أي في تجارتهم؛ فلما نزلت
هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض
الناس وقالوا نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية (لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى) النساء فتركها بعض الناس وقالوا لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها
بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فصارت حرامًا عليهم حتى صار
يقول بعضهم ما حرم الله شيئًا أشد من الخمر، وقال أبو ميسرة نزلت بسبب عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، فإنه ذكر للنبي عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا
الله في تحريمها، وقال اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت هذه الآيات،
فقال عمر انتهينا انتهينا
الأحاديث الواردة في تحريم الخمر
لقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم الخمر، ولا يمكن حصرها والإتيان
عليها ههنا، وسنقتصر على ذكر بعض الصحيح منها؛ فمن ذلك
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال (من شرب الخمر
في الدنيا ثم لم يتب منها حُرِمها في الآخرة) متفق عليه
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله أُتِيَ ليلة أسري به بإلياء
بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما ثم أخذ اللبن، فقال جبريل الحمد لله الذي هداك
للفطرة، ولو أخذت الخمر غوت أمتك متفق عليه
عن أنس رضي الله عنه قال سمعت من رسول الله حديثًا لا يحدثكم به
غيري، قال (من أشراط الساعة أن يظهر الجهل، ويقل العلم، ويظهر الزنا، وتشرب الخمر،
ويقل الرجال، وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد) البخاري
عن أنس رضي الله عنه قال
حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد يعني بالمدينة خمر الأعناب إلا قليلاً، وعامة
خمرنا البسر والتمر متفق عليه
عن ابن عمر رضي الله عنهما
قال قام عمر على المنبر فقال أما بعد، نزل تحريم الخمر وهي من خمسة؛ العنب والتمر
والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل متفق عليه
عن عائشة رضي الله عنها قالت سُئل رسول الله عن البِتْع فقال (كل
شراب أسكر فهو حرام) والبتع هو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه متفق عليه
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء
أخرجه البخاري في الصحيح
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أهدى لرسول الله راوية خمر،
فقال له رسول الله (هل علمت أن الله قد حرمها؟) قال لا، فسارَّ إنسانًا فقال له
رسول الله (بِمَ ساررته؟) فقال أمرته ببيعها فقال (إن الذي حرم شربها حرم بيعها)
قال ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها مسلم
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يخطب بالمدينة
قال (يا أيها الناس، إن الله تعالى يُعَرِّضُ بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرًا،
فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به) قال فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال النبي
(إن الله تعالى حرَّم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا
يبع) قال فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة، فسفكوها مسلم
عن عائشة رضي الله عنها قالت لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة،
خرج رسول الله فافترأهن على الناس، ثم نهى عن التجارة في الخمر متفق عليه
عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قدم من جَيْشَان وجَيْشانُ من اليمن
فسأل النبي عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المِزْرُ، فقال له النبي (أو
مسكرهو؟) قال نعم، قال رسول الله (كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهدًا لمن
يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال) قالوا يا رسول الله، وما طينة الخبال ؟ قال
(عَرَقُ أهل النار، أو عصارة أهل النار) مسلم
عن أبي موسى رضي الله عنه قال بعثني النبي أنا ومعاذ بن جبل إلى
اليمن فقلت يا رسول الله، إن شرابًا يصنع بأرضنا يقال له المِرْزُ من الشعير وشراب
يقال له البِتْعُ من العسل فقال رسول الله (كل مسكر حرام) مسلم
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله (لعنت الخمر على عشرة
وجوه؛ لعنت الخمر بعينها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها،
ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها) أخرجه الإمام أحمد في المسند
والإمام أبو داود في سننه والإمام ابن ماجه في سننه وصححه الشيخ أحمد شاكر والشيخ
الألباني رحم الله الجميع
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال وأتيت على نفر من الأنصار
والمهاجرين فقالوا تعالَ نُطْعِمْكَ ونَسْقِكَ خمرًا وذلك قبل أن تحرم الخمر قال
فأتيتهم في حَشٍّ والحَشُّ البستان فإذا رأس جزور مشوي عندهم، وزق من خمر قال
فأكلت وشربت معهم قال فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت المهاجرون خير من
الأنصار قال فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح أنفي، فأتيت رسول الله
فأخبرته فأنزل الله عز وجل فيَّ شأن الخمر (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) المائدة مسلم
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت عن عدد كبير من أصحاب
النبي، وسجل المحدثون في دواوين السنة، وفي القدر الذي ذكرناه ما يكفي من كان له
قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
وقد تبين من هذه الأحاديث وغيرها أن الخمر تتخذ من العنب ومن التمر
والبُسر ومن الشعير ومن الحنطة ومن الذرة ومن العسل، وعلى كل حال فكل شراب اتخذ من
هذه الأشياء أو من أي فاكهة من الفواكه وأسكر فهو خمر وهو محرم؛ حرمه الله تعالى
ورسوله فهو محرم إلى يوم القيامة فعلى كل مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر أن يتقي الله تعالى ويخاف عقابه ويقلع عن معاصي الله تبارك وتعالى،
ولا سيما شاربي الخمر ومدمنيها، فإن مدمن الخمر ممن لا يدخلون الجنة كما في حديث
ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم
القيامة العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق
لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى) النسائي والحاكم، وصححه الألباني
في صحيح الجامع
حكم النبيذ إذا لم يسكر
النبيذ نقيع التمر في الماء، أو الزبيب في الماء، أو غيرهما من
الأصناف المذكورة التي يتخذ منها الخمر، فإن شُرِبَ هذا النقيع طازجًا طريًا
جديدًا قبل أن يتخمر، جاز شربه وهو حلال، وقد ثبت أن النبي شربه، فكان ينقع له
التمر ليلاً فيشربه صباحًا، أو أول النهار فيشربه ليلاً ونحو ذلك
فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن أبا أسيد الساعدي رضي الله
عنه دعا النبي لعرسه فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهي العروس، فقالت ما تدرون ما
أنقعت لرسول الله ؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور متفق عليه
وعن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت عن النبيذ، فدعت عائشة جارية حبشية،
فقالت للسائل سلْ هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله فقالت الحبشية كنت أنبذ له في
سقاء من الليل، وأوكيه وأعلقه، فإذا أصبح شرب منه مسلم
انتباذ
الخليطين
عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال نهى النبي أن يجمع بين التمر
والزهو، والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدته متفق عليه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال نهى رسول الله أن يخلط التمر
والزبيب جميعًا، وأن يخلط البسر والتمر جميعًا أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي
وأحمد في المسند
وعن جابر رضي الله عنه قال نهى رسول الله أن ينبذ التمر والزبيب
جميعًا أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال (لا تجمعوا بين الزهو
والرطب، والزبيب والتمر، انتبذوا كل واحد على حدة) مسلم وابن ماجه
قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار روي عن النبي أنه نهى أن ينبذ
التمر والزبيب، والزهو والرطب؛ من طرق ثابتة، عن ابن عباس، وأبي قتادة، وجابر،
وأبي سعيد، وأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهم
ومعنى هذا أنه إذا نبذ كل واحد من الأصناف التي يتخذ منها الخمر على
حدة ثم خلطت هذه الأنواع عند الشرب فإنه لا بأس بذلك ولا حرج فيه، وإنما كره
العلماء أن تخلط عند الانتباذ؛ لأن بعضها يشد بعضًا ويساعد على تخمرها، والآن يضع
الناس هذا النبيذ في الثلاجات حتى لا يتخمر ويشربونه فلا حرج في ذلك، المهم ألا
يترك النبيذ حتى يتخمر سواء كان منفردًا على حدته أو مخلوطًا بغيره
نجاسة الخمر
قال صاحب (التحرير والتنوير) فأما اجتناب مماسة الخمر واعتبارها نجسة
لمن تلطخ بها بعض جسده أو ثوبه فهو مما اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من حمل الرجس
في الآية على معنييه المعنوي والذاتي، فاعتبروا الخمر نجس العين يجب غسلها كما يجب
غسل النجاسة، وهو قول مالك
قلت وهو قول الجمهور، ولم يقولوا بذلك في قداح الميسر ولا في حجارة
الأنصاب ولا في الأزلام، والتفرقة بينها وبين هذه الثلاثة المعطوفات عليها لا وجه
لها من النظر، إلى أن قال وذهب بعض أهل العلم إلى عدم نجاسة عين الخمر، وهو قول
ربيعة بن عبد الرحمن والليث بن سعد والمزني من أصحاب الشافعي وكثير من البغداديين
من المالكية ومن القيروانيين؛ منهم سعيد بن الحداد القيرواني، وقد استدل سعيد بن
الحداد على طهارتها بأنها سفكت في طرق المدينة، ولو كانت نجسًا لنهوا عنه، إذ قد
ورد النهي عن إراقة النجاسة في الطرق قال وأقول الذي يقتضيه النظر أن الخمر ليست
نجس العين، وأن مساق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها إنما القصد أنها رجس معنوي،
ولذلك وصفه بأن من عمل الشيطان، وبينه بعدُ بقوله (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)، ولأن النجاسة تعتمد
الخباثة والقذارة وليست الخمر كذلك، وإنما تنزه السلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها
في النفوس انتهى بتصرف
وقد مال كثير من محققي العلماء إلى عدم نجاسة عين الخمر على مدار
تاريخ الإسلام منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن المعاصرين
الكثيرون منهم الشيخ ابن عثيمين رحمة الله على الجميع
هذا، وقد أطلق القرآن كلمة الرجس على المذمات الباطنة؛ كما في قوله
تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى
رِجْسِهِمْ)، وقوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) فليس بلازم أن يكون الرجس معناه النجس العيني فإنه
يطلق على هذا وذاك
الأشياء المعطوفة على الخمر في الآية
الميسر هو القمار؛ وهو كل لعب فيه مراهنة، وهو قمار العرب بالأزلام،
أو اللعب بالقداح في كل شيء، والميسر أيضًا هو كل شيء فيه قمار حتى لعب الصبيان
بالجوز أو بغيره
والأنصاب أحجار أو تماثيل كانت تنصب لتعبد من دون الله تبارك وتعالى،
وكانوا يذبحون لها وعندها، وعليها واحدها نَصْبٌ
الأزلام جمع زَلْمٍ، وهو السهم الذي لا ريش له، وكان أهل الجاهلية
يستقسمون بالأزلام، وكانوا يكتبون عليها الأمر أو النهي ويضعونها في وعاء، فإذا
أراد أحدهم أمرًا أدخل يده فيه وأخرج سهمًا، فإن خرج ما فيه الأمر مضى لقصده، وإن
خرج ما فيه النهي كفَّ
فأما الميسر ففيه إضاعة للمال، أو الحصول عليها بسهولة بغير حق فهو
أكل للأموال بالباطل، وأما الأنصاب فكانوا يعبدونها من دون الله ويذبحون لها، وأما
الأزلام فكان لها أثر في تسيير أمور حياتهم يتوكلون عليها معرضين عن التوكل على رب
العالمين
لذا جاء في الآية الكريمة الأمر باجتناب هذه الأمور وعدم قربانها،
وعلق الفلاح على ذلك الاجتناب
من فوائد الحديث
مسارعة الصحابة رضي الله عنهم في الاستجابة لأمر الله تبارك وتعالى
ولو كان هذا الأمر على خلاف أهوائهم، وذلك واضح في قولهم انتهينا
إثبات العمل بخبر الواحد؛ فإن الرجل الذي جاء إلى بيت أبي طلحة
ليخبرهم بتحريم الخمر كان رجلاً واحدًا، فاستجاب له الصحابة، وفي ذلك يقول أنس رضي
الله عنه فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل
مبالغة الصحابة رضي الله عنه في الامتثال، فأراقوا الخمر في طرق
المدينة مباشرة عندما سمعوا الخبر، ولم يكتفوا بالانتهاء عن الشرب وينتظروا حتى
يسألوا رسول الله عن هذه الخمر التي عندهم، ولم يقولوا في هذا إضاعة للمال
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من المستجيبين لأمره وأمر رسوله،
وأن يوفقنا والمسلمين لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد
وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين