النهي عن الشحناء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين
وبعــد
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة باب النهي عن الشحناء والتهاجر، برقم، كما أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب حُسن الخُلق باب ما جاء في المهاجرة، برقمي، كما في الاستذكار لابن عبد البر، وأخرجه الإمام أحمد في المسند برقم،، من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الإمام أبو داود في سننه في كتاب الأدب في هجرة الرجل أخاه، برقم، وأخرجه أيضًا الإمام الترمذي في جامعه في كتاب البر والصلة باب ما جاء في المتهاجرين، برقم، كما أخرجه الإمام ابن ماجه في سننه في كتاب الصيام باب صيام الاثنين والخميس، برقم، وأخرجه الإمام الدارمي في السنن كتاب الصوم باب صيام يوم الاثنين والخميس، برقم
شرح الحديث
بيّن النبي في هذا الحديث أن أبواب الجنة تفتح يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع لرفع الأعمال وقبولها وإعطاء الثواب الجزيل عليها، وكثرة الصفح والغفران ورفع الدرجات والمنازل فيها، وقد قال ذلك كما جاء في بعض روايات الحديث ردًا على مَن سأله عن صيامه ذينك اليومين، وإكثاره من الصيام فيهما
وجاء في رواية مسلم بن أبي مريم عند الإمام مسلم وغيره (تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين)، وفي رواية له أخرى (تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين؛ يوم الاثنين ويوم الخميس) والروايات يفسر بعضها بعضًا، فتفسير فتح أبواب الجنة بعرض الأعمال وقبولها واضح من روايات الحديث
وقوله (فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا)، فيه بيان خطورة الشرك، وأنه محبط للأعمال لا يقبل معه عمل، ولا تغفر معه خطايا ولا سيئات، ولا آثام ولا زلات، فضلاً عن عدم غفران الشرك نفسه، ولقد بين الله عز وجل خطر الشرك وأنه أعظم الذنوب وأنه لا يغفر أبدًا، كما في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) النساء، و، وقال تعالى (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) الحج، وقال تعالى في أول وصايا لقمان لابنه (يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لقمان، بل إن الله عز وجل خاطب خاتم أنبيائه وسيد أصفيائه وإمام أتقيائه بقوله تعالى بأسلوب القسم المؤكد (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الزمر، وقال بعد هذه الآية مباشرة (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الزمر، آمرًا نبيه بتوحيده وعدم الإشراك به بتقديم لفظ الجلالة المفعول به على الفعل، وهذا أسلوب يدل على الاختصاص، وقد أُمِرْنا أن نقرأ في كل ركعة من ركعات صلاتنا سورة الفاتحة، ولا تقوم صلاة بغيرها؛ وفيها (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي نخصُّك وحدك بالعبادة، ولا نشرك بعبادة ربنا أحدًا ولا شيئًا، ونخصك وحدك بالاستعانة فنستعينك وحدك ولا نستعين غيرك من أحد ولا شيء
وإن بعض المسلمين يتوجهون إلى بعض أهل القبور بالاستغاثة والاستعانة وطلب الشفاء وكشف البلوى، إلى غير ذلك، وهذا فيه شرك في الألوهية بطلب ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من المخلوق الذي لا يملك ضرًا ولا نفعًا، وفي الحقيقة إن من يطلب من مخلوق أن يمده بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى قد أشرك ذلك المخلوق في ربوبية الله تعالى؛ لأنه لم يطلب منه إلا وقد اعتقد أنه يملك له ما يطلبه منه، وإلا لو كان يعلم علم اليقين أنه مخلوق مثله لا يملك نفقعًا ولا ضرًا ما طلب منه قضاء حاجته ولا دفع مضرته، وكذلك قد أشرك في أسماء الله تعالى وصفاته حيث أعطاه بعض صفات الخالق؛ لأنه يعلم أن غيره كثيرون يستغيثون بهذا المخلوق الذي يستغيث به في اللحظة نفسها فهو يعتقد أنه لا يشغله سمعه إياه عن سمع غيره، وأنه يقدر على عطاء الكل في وقت واحد، وأن خزائنه لا تغيض، وهذا ليس إلا لله تبارك وتعالى، وبعض هؤلاء يغالي في وصف الرسول ومدحه بمنحه بعض صفات الله تعالى، وفي حقيقة الأمر قد لا يقصدون الوقوف بذلك عند شخص رسول الله، وإنما يريدون أن يتوصلوا من وراء ذلك لإعطاء أوليائهم هذه الأوصاف، ويزعمون محبة رسول الله، وهم أبعد الناس عن سنته
ومن المعلوم أن المحب لمن يحب مطيع، ولكنهم يرمون أهل السنة المتمسكين بهدي رسول الله بعدم محبة الرسول، وهم بذلك يفترون على الله الكذب، ووراء عوام المسلمين وجهلتهم أناس ينتمون إلى العلم يزينون لهم الباطل، ويحسنون إليهم الشرك بالله تعالى ويهونون من خطره، ونخشى على هؤلاء أن يصدق فيهم قول الله تعالى (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ) الشعراء، فيقول الذين أشركوا عمن أضلوهم وزينوا لهم الشرك (وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ)
وقد جاء في بعض روايات الحديث (فيغفر لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا) وفي رواية أخرى (فيغفر لكل عبد مؤمن) وهناك أحاديث كثيرة في بيان عظم الشرك وأنه أعظم الذنوب؛ منها ما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)
وقوله (إلا عبدًا كانت بينه وبين أخيه شَحْنَاءُ) وفي رواية (إلا امرءًا كانت بينه وبين أخيه شحناء) فأما العبد والمرء فهما بمعنى واحد، ويشمل الذكر والأنثى من كل عبد مؤمن بالله تعالى موحد لا يشرك به أحدًا، وأما الشحناء؛ فقال في النهاية العداوة وفي المعجم الوسيط الشحناء الحقد والعداوة والبغضاء
وأما حديث (يغفر الله لكل عبد ما خلا مشركًا أو مشاحنًا) فقال في النهاية قال الأوزاعي أراد بالمشاحن هنا صاحب البدعة المفارق للجماعة وجاء في بعض روايات حديث أبي هريرة؛ حديثنا هذا (إلا المتهاجرين)، وفي رواية الترمذي (إلا المهتجرين) وقال الترمذي ومعنى قوله (المهتجرين) يعني المتصارمين، وهذا مثل ما روي عن النبي أنه قال (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)
وقوله (أنظروا هذين حتى يصطلحا) ثلاث مرات للتأكيد، وأنْظروا أي أخروا، وفي رواية الترمذي (ردوا هذين) قال الترمذي ويروى في بعض الحديث (ذروا هذين)، وفي رواية لمسلم (أركوا هذين) قال النووي (اركو) هو بالراء الساكنة وضم الكاف، والهمزة في أوله همزة وصل، أي أخروا، يقال ركاه يَرْكوه رَكْوًا إذا أخره، قال صاحب التحرير ويجوز أن يرويه بقطع الهمزة المفتوحة من قولهم أَرْكَيْتُ الأمر إذا أخرته، وذكر غيره أنه يروي بقطعها ووصلها، والشحناء العداوة كأنه شُحِن بغضًا حتى امتلأ اهـ
وفي رواية (اتركوا هذين)، قال أبو عمر بن عبد البر في (الاستذكار (اركوا) معناه اتركوا، وقيل معناه أخروا هذين، يقال أخِّر هذا وأنْظِرْ هذا، وأَرْجِ هذا، وأَرْكِ هذا؛ كل ذلك بمعنى واحد
وقوله (حتى يفيئا) قال ابن عبد البر معناه حتى يرجعا إلى ما عليه أهل المؤاخاة والمصافاة من الأخِلاَّء والأولياء على ما كانا عليه من قبل أن يتهاجرا قال والفيء الرجوع والمراجعة؛ قال الله عز وجل (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) وقال في الذين يؤلون من نسائهم (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي رجعوا إلى ما كان عليه من وطء أزواجهم، وَحَنَّثُوا أنفسهم في أيمانهم اهـ
قال ابن عبد البر وفيه أي في الحديث تعظيم ذنب المهاجرة والعداوة والشحناء لأهل الإيمان، وهم الذين يأمنهم الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، المصدقون بوعد الله تعالى ووعيده، المجتنبون كبائر الإثم والفواحش والعبد المسلم من وصفنا حاله، ومن سلم المسلمون من لسانه ويده؛ فهؤلاء لا يحل لأحد أن يهجرهم، ولا أن يبغضهم، بل محبتهم دين، وموالاتهم زيادة في الإيمان واليقين وفي هذا الحديث أيضًا دليل على أن الذنوب بين العباد؛ إذا تساقطوها وغفرها بعضهم لبعض، أو خرج بعضهم لبعض عما لزمه منها، سقطت المطالبة من الله عز وجل بدليل قوله في هذا الحديث (حتى يصطلحا، فإذا اصطلحا غفر لهما)
هذا، وقد كثر بين بعض المسلمين التباغض والتدابر والهجران، وذلك لأسباب دنيوية، وأمور مادية، بل ربما كان التهاجر بين الأقارب والأرحام وتنعدم بينهم المودة والتراحم، بسبب البعد عن التخلق بأخلاق الإسلام التي يُقتدى فيها برسول، ويسود سوء الخلق، مع أن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية تنص على تحريم التدابر والتخاصم والتقاطع، ومن ذلك قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات، وقوله تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) النساء، فعطف الأقارب على الوالدين، وعطف على الأقارب اليتامى والمساكين، والجيران والزوجات وأبناء السبيل وملك اليمين ليشمل الإحسان المجتمع كله، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فيها الوصية بالوالدين والأولاد وغيرهم حتى يعيش الناس في أمن وأمان وحسن جوار وحسن خلق، وفي أحاديث النبي التصريح بالنهي عن التدابر والتقاطع والتهاجر، ومن ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) متفق عليه وكذا حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله قال (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) متفق عليه
ولقد حث رسول الله على التواد والتعاطف والتراحم بين المسلمين، وأنهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى بَعْضُهُ، اشتكى كله، من ذلك حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) متفق عليه، وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال قال رسول الله (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه، وفي رواية (المؤمنون كرجل واحد؛ إن اشتكى رأسُه، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وفي رواية أخرى (المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عَيْنُهُ، اشتكى كله، وإن اشتكى رأسُهُ اشتكى كله)
ألا فليبادر المسلمون إلى التواصل والتحاب والتواد والتراحم، وليسرع كل متخاصمين متدابرين إلى الصلح؛ لأن الصلح خير، وحتى ترفع أعمالهما مع عباد الله الصالحين، وذلك لقول النبي ص في بعض روايات هذا الحديث (فإذا اصطلحا غفر لهما) ولقول الله تبارك وتعالى في الزوجين (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير) وغير الزوجين يجب عليهم أن يصلحوا حتى تفتح لهم أبواب الجنة لرفع الأعمال وقبولها وإعطاء الثواب الجزيل عليها، وكثرة الصفح والغفران، ورفع الدرجات والمنازل فيها
نسأل الله تعالى أن يشفي صدور المؤمنين، وأن ينزع من قلوب المسلمين الغل والحقد والحسد والبغضاء والعداوة والشحناء، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين