إثبات كلام الرب تبارك وتعالى
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد بينا في أعداد سابقة في معرض حديثنا عن حديث الشفاعة، وعن عصمة الأنبياء، وبينا أن الخطايا التي نُسِبت إليهم لا تتنافى مع عصمتهم، وفي العدد الماضي بدأنا الحديث عن صفات الله تعالى التي وردت في الحديث؛ فتكلمنا عن إثبات اليدين لله عز وجل، وفي هذا العدد نتكلم عن إثبات الكلام لربنا سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث من قول إبراهيم عليه السلام: «ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة وكلمه تكليمًا». وفي رواية: «وقربه نجيًّا».
بوب الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – في صحيحه أبوابًا لإثبات كلام الله تعالى هي: باب ما جاء في قوله عز وجل: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [الباب 37 من كتاب التوحيد]، أورد فيه ثلاثة أحاديث أولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم (7515): «احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي أخرجت ذريتك من الجنة؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قد قُدِّرَ عليَّ قبل أن أُخلق. فحجَّ آدمُ موسى» . وقد أخرجه الإمام مسلم برقم (2652). وثانيها حديث أنس رضي الله عنه في الشفاعة، وهو حديثنا الذي نحن بصدد شرحه، أورده هنا مختصرًا برقم (7516) وهو مخرَّج في مسلم برقم (193). وثالثها حديث أنس رضي الله عنه – أيضًا – في إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه برقم (7517) وهو حديث طويل والشاهد منه قوله: «وموسى في السابعة – أي في السماء السابعة – بتفضيل كلام الله». وهو في مسلم برقم (162).
وقبل هذا الباب بوَّب «كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم» أورد فيه حديث أنس في الشفاعة مختصرًا مطولاً برقمين وهو في مسلم (193)، وحديث عبد الله قال: «إن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجًا من النار رجل يخرج حبوًا، فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: ربِّ الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات، كل ذلك يعيد عليه، الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرات». برقم (7511)، وهو في مسلم (186).
وحديث عدي بن حاتم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان..» برقم (7512)، وهو في مسلم برقم (1016)، وحديث عبد الله بن مسعود: «جاء حبر من اليهود فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك..» الحديث، برقم (7513)، وهو في مسلم برقم (2786).
وحديث ابن عمر أن رجلاً سأله: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: «يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» برقم (7514) وهو في مسلم برقم (2768).
وقبل هذا الباب بوَّب رحمه الله تعالى «باب قوله تعالى: { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ }. أورد فيه ثمانية عشر حديثًا .
1- حديث (7491) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار». وهو في مسلم برقم (2246).
2- حديث أبي هريرة رضي الله عنه (7492) عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: «الصوم لي وأنا أجزي به ..» الحديث . وهو في مسلم برقم (1151).
3- حديث (7493) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أيوب يغتسل عريانًا خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناده ربه، يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك».
4- حديث أبي هريرة أيضًا (7494) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له». وهو في مسلم برقم (758).
6- حديث أبي هريرة كذلك (7496) قال: قال الله تعالى: «أنفق؛ أنفق عليك». وهو في مسلم برقم (993) .
7- حديثه أيضًا رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» (7497)، وهذا اللفظ برقم (3820)، وهو في مسلم برقم (2432) .
8- حديثه أيضًا (7498) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». وهو في مسلم برقم (2824).
10- حديث عائشة رضي الله عنها برقم (7500) حين قال لها أهل الإفك ما قالوا؛ فبرأها الله مما قالوا، قالت: «ولكن والله ما كنت أظن أن الله يُنزل في براءتي وحيًا يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر يتلى...» الحديث . وهو في مسلم برقم (2770).
11- حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم (7501) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها...» الحديث . وهو في مسلم برقم (128).
12- حديثه أيضًا رضي الله عنه برقم (7502) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فقال: مه، قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك». وهو في مسلم برقم (2554).
13- حديث زيد بن خالد الجهني برقم (7503) قال: مُطِرَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «قال الله: أصبح من عبادي كافر بي ومؤمن». وهو في مسلم برقم (71).
14- حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم (7504) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه». وهو في مسلم برقم (2685).
15- حديثه أيضًا برقم (7505) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: أنا عند ظن عبدي بي». وهو في مسلم برقم (2675).
16- حديثه كذلك برقم (7506) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل – لم يعمل خيرًا قط – فإذا مات فحرقوه وأذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لِمَ فعلت؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم، فغفر له». وهو في مسلم برقم (2756).
17- حديث أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه برقم (7507) قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عبدًا أصاب ذنبًا – وربما قال: أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت ذنبًا، وربما قال: أصبت فاغفر، فقال ربه: أعَلِمَ عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي...» الحديث، وهو في مسلم برقم (2758).
18- حديث أبي سعيد رضي الله عنه برقم (7508) بمعنى حديث أبي هريرة في الرجل الذي أوصى بنيه بحرقه وتذريته بعد موته.
وقبل هذا الباب بوب الإمام البخاري – رحمه الله – أيضًا باب (كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة).
وأورد فيه ثلاثة أحاديث منها:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم (7485) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى إذا أحب عبدًا نادى جبريلَ: إن الله قد أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريلُ، ثم ينادي جبريلُ في السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض». وهو في مسلم برقم (2637).
2- حديثه أيضًا رضي الله عنه برقم (7486) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون». وهو في مسلم برقم (632).
وهذه الأحاديث وغيرها فيها إثبات الكلام لرب العالمين سبحانه وتعالى. والقرآن الكريم فيه آيات كثيرة لإثبات صفة الكلام لله تعالى.
اختلاف الفرق في مسألة كلام الله عز وجل
قال شارح العقيدة الطحاوية:
وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال:
أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معانٍ، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
ثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه، وهذا قول المعتزلة .
ثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبَّر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاَّب ومن وافقه من الأشاعرة .
رابعها: أنه حروف وأصوات مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث.
خامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلمًا، وهذا قول الكرامية وغيرهم.
سادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يُحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في «المطالب العالية».
سابعها: أن كلامه يتضمن معنًى قائمًا بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي.
ثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات، وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه.
تاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديمًا، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة .
صفة الكلام صفة كمال:
قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } [الأعراف: 147]، فكان عُبَّاد العجل – مع كفرهم – أعرف بالله من المعتزلة، فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضًا، وقال تعالى عن العجل أيضًا: { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا } [طه: 89]، فعلم أن نفي رجوع القول ونفي التكلم نقص يُستدل به على عدم ألوهية العجل . اهـ.
قال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة – رحمه الله تعالى – في كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل: باب ذكر تكليم الله كليمه موسى خصوصية خصه الله بها من بين الرسل، وذكر تحت هذا الباب أفرعًا، منها: ذكر آي مجملة غير مفسرة فسرتها آيات مفسرات .
وقال – رحمه الله – نبدأ بذكر الآي المجملة ثم نثني بعون الله وتوفيقه بالآيات المفسرات.
قال الله تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } الآية، فأجمل الله تعالى ذكر من كلمه في هذه الآية فلم يذكره باسم ولا نسب ولا صفة، وكذلك أجمل الجهات التي كلمه الله عليها في قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ }، ثم بين الله سبحانه في قوله تعالى: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } أن موسى صلى الله عليه وسلم هو الذي كلمه ربه تكليمًا، فبين لعباده المؤمنين في هذه الآية ما أجمله في قوله: { مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } . وكذلك في قوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ }، مفسر لما أبهم في الآية الأولى، وأَعْلَمَ في آية أخرى أنه سبحانه اصطفى موسى برسالته وبكلامه، فقال عز وجل: { يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي}، وبين في آي أخر بعض كلامه الذي كلم به موسى، فقال في سورة طه: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى . إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } إلى آخر القصة، وقال في سورة النمل: { إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ } إلى قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } إلى قوله : { يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . وقال في سورة القصص : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } إلى آخر القصة.
فبين الله تعالى في الآي الثلاث بعض ما كلم الله به موسى مما لا يجوز أن يكون من ألفاظ ملك مقرب ولا ملك غير مقرب، غير جائز أن يخاطب ملك مقرب موسى فيقول: { إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }، أو يقول: { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ }، ثم بدأ يسوق بعض الأحاديث التي سقناها فيما سبق وأخرجها الشيخان.
قال الشيخ محمد خليل هراس في تعليقه على هذه الفقرة من كلام الإمام ابن خزيمة: «اتفق القوم على أنه تعالى متكلم، ولكنهم اختلفوا – بعد ذلك – فقالت المعتزلة: معنى كونه متكلمًا أنه خالق الكلام في غيره، فخالفوا اللغة والعقل، وقالت الكُلابية والأشعرية: إن كلامه معانٍ قديمه قائمة بذاته ليست بحرف ولا صوت، وابتدعوا الكلام النفسي، وقال سلف هذه الأمة: إن كلامه تعالى صفة فعل له سبحانه يتكلم بها متى شاء وكيف شاء، وإن كلامه حروف وأصوات يسمعها من يشاء من خلقه، وإن صوته سبحانه بالكلام ليس كصوت المخلوقين، وكلامه سبحانه متعلق بمشيئته واختياره، يتكلم متى شاء وكيف شاء سبحانه وتعالى .
وقال الحافظ في الفتح عند الترجمة التي ترجم بها الإمام البخاري «باب ما جاء في قوله عز وجل: وكلم الله موسى تكليمًا» . قال: قال الأئمة: هذه الآية أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة، قال النحاس: أجمع النحويون على أن الفعل إذا أُكِّد بالمصدر لم يكن مجازًا، فإذا قال: «تكليمًا» وجب أن يكون كلامًا على الحقيقة التي تُعقل، قال الحافظ: وأجاب بعضهم بأنه كلام على الحقيقة لكن محل الخلاف: هل سمعه موسى من الله تعالى حقيقة أو من الشجرة؟ فالتأكيد رفع المجاز عن كونه غير كلام، أما المتكلم به فمسكوت عنه، ورُدَّ بأنه لا بد من مراعاة المحدَّث عنه، فهو لرفع المجاز عن النسبة؛ لأنه قد نسب الكلام إلى الله تعالى فهو المتكلم حقيقة، ويؤكده قوله تعالى في سورة الأعراف: { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي }، ثم نقل كلامًا لبعض أئمة الأشاعرة، إلى أن قال: وأورد البخاري في كتاب «خلق أفعال العباد» أن خالد بن عبد الله القَسْري قال: إني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم؛ فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، وأورد الحافظ أيضًا قول العلماء أن سَلْمَ بن أجوز قتل جهم بن صفوان لأنه أنكر أن الله كلم موسى تكليمًا .
وغاية شبهتهم أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم، فيقال لهم: إذا قلنا: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم؛ لأنهم يتوهمون أن كلامه سبحانه يستلزم أدوات الكلام من لسان وفم وأسنان وحلق إلى غير ذلك . وهذا من تشبيه الخالق بالمخلوق وقياسه عليه، مع أن بعض المخلوقات أثبت الله تعالى أنها تتكلم وليس لها لسان ولا فم ولا أسنان ولا هذه الأدوات، وهي مخلوقة ونحن لا نعرف كيفية كلامها، فهذه مخلوقات.. فما بالك بالخالق جل وعلا، فهو يتكلم سبحانه بكلام يُسمع ويُعلم ويُعرف، لكن نفوض كيفيته إلى الله سبحانه وتعالى.
كلام بعض المخلوقات مما لا نعرف كيفية كلامها
1- قال الله تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44].
2- وقال تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلا لْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت: 11].
3- وقال سبحانه: { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يس: 65] .
4- وقال جل وعلا: { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [فصلت: 21] .
فنحن نؤمن أنها تتكلم، ولا نعلم كيف تتكلم، وكذلك ما ثبت في السنة المطهرة من تسبيح الحصا والطعام وسلام الحجر إلى غير ذلك .
قال الإمام أحمد – رحمه الله -: وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان، أليس الله قال للسماوات والأرض { اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }، أتراها قالت بجوف وفم وشفتين ولسان وأدوات؟! وقال: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ }، أتراها سبحت بجوف وفم ولسان وشفتين؟! والجوارح إذا شهدت على الكفار، فقالوا لجوارحهم { لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أتراها نطقت بجوف وفم ولسان؟. انتهى من كتاب الرد على الزنادقة والجهمية (ص44، 45).
والجواب عن التساؤلات التي أوردها الإمام أحمد هو – لا، ولا جواب غيره، ونزيد فنقول: فهل الذي جعل هذه الجمادات تتكلم ومكَّنها من ذلك يعجز عن الكلام أو يمتنع عليه الكلام؟ كما زعمت الجهمية. لماذا يمتنع عليه؟ هل الكلام نقص؟ أليس المخلوق المتكلم أكمل من غير المتكلم؟ الجواب (بلى) بإجماع العقلاء، فهل تسوغ عقول الجهمية أن يكون المخلوق أكمل من الخالق؟!
استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات الله
قال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة، وهو يحاور الجهمية ليثبت أن كلام الله على تعدده وتنوعه غير مخلوق: «قد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وعَلَّم أمته تلك الاستعاذة، وهي الالتجاء إلى الله من شر خلقه، فهي عبادة عظيمة، فلو كانت كلمات الله مخلوقة لما استعاذ بها صلى الله عليه وسلم، ولما علَّم أمته الاستعاذة بها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ينهى عن ذلك، بل يعده نوعًا من الشرك».
ما يستفاد من هذه الاستعاذة
1- جواز الاستعاذة بأسماء الله وصفاته مثل ما يُستعاذ بذاته، قال صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك..». [مسلم 486].
2- أن كلمات الله ليست مخلوقة؛ لأنها لو كانت مخلوقة ما استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم.
3- أن كلمات الله لا حدّ لها؛ لأنها من كمالات الله تبارك وتعالى، وكمالاته سبحانه لا تنتهي، قال الله تعالى: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف: 109]، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27] .
والكلام في صفة الكلام يطول، ونكتفي بهذا القدر، وفيه الكفاية لمن أراد الله له الهداية، وأما من انحرفت فطرته وانتكس قلبه فلا يكفيه لا هذا ولا أضعافه، كيف ونصوص الكتاب والسنة متضافرة متوافرة على إثبات الكلام لله رب العالمين، ولكن ماذا نقول لمن يقول: إن الله خلق كلامه في الشجرة فقالت لموسى: إني أنا ربك، وقالت له: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني، أو خلق كلامه في النار فخاطبت موسى عليه السلام بهذا الخطاب، كل ذلك ليهرب من إثبات الكلام لله، ومن أعجب ما روي عن بعض المعتزلة أنه قال لأبي عمرو بن العلاء البصري – أحد القراء السبعة: أريد أن تقرأ وكلم الله موسى تكليمًا بنصب اسم الله، ليكون موسى هو المتكلم لا الله . فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ }؟ فبُهِتَ المعتزلي .
نعوذ بالله تعالى من الخذلان، ونسأله الثبات على دينه والدوام على الحق حتى نلقاه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.