التوحيد حق الله على العبيد
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله، إمام الموحدين، الداعي إلى الله تعالى على بصيرة هو ومن اتبعه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
عن ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ؛ فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ».
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه، في كتاب التوحيد، باب (ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى) برقم (7372)، وأطرافه في (1395، 1458، 1496، 3448، 4347، 7371)، وأخرجه كذلك الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب (الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام)، برقم (19)، كما أخرجه الترمذي في جامعه في الزكاة برقم (62)، وكذا النسائي في المجتبى في الزكاة برقم: (2437)، وابن ماجه في السنن في أبواب الزكاة برقم (1783)، والدارمي في سننه في كتاب الزكاة برقم: (1614).
توحيد الله تبارك وتعالى أول الأمر وآخره
إن التوحيد هو أول دعوة الرسل، وهو أول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تبارك وتعالى، وآخر ما يخرج به المسلم من الدنيا.
أما أنه أول دعوة الرسل؛ فقد بيَّن الله سبحانه ذلك في كتابه، فقال جل وعلا: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65]، وقال جل ثناؤه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73]، وقال تبارك وتعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 75].
وبيَّن سبحانه في الرسل أجمعين أن أول دعوتهم التوحيد، فقال تباركت أسماؤه: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]. وقال في عموم دعوة الرسل التي تبين أن أهم ما في دعوتهم هو الدعوة إلى التوحيد: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم دعوته منذ اللحظة الأولى، وأنها تسير على منوال ما دعا إليه رسل الله السابقون عليه، فقال أول ما قال: «يا أيها الناس؛ قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» [رواه الإمام أحمد في المسند 15593، وصححه الألباني في صحيح السيرة 1/143]، وفي رواية له وللطبراني عن ربيعة بن عباد الديلي يقول: يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول: «يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا».[رواه الإمام أحمد في المسند 15595].
وقال صلى الله عليه وسلم: « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ». [متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنهما وغيره من الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، البخاري 25، ومسلم 20].
وأما أنه أول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى ربه عز وجل، فإنه إذا حقق التوحيد بالنطق بالشهادتين واعتقادهما فقد وضع قدمه على أول الطريق الموصل إلى الله تبارك وتعالى، وحينئذ ينطلق إلى فعل بقية أركان الإسلام؛ ففي حديث معاذ رضي الله عنه قال صلوات الله وسلامه عليه: «فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات...»، وفي رواية: «فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات...». إلخ.
فلا يسلك في الصلاة ثم الزكاة وما بعدهما إلا بعد أن يشهد شهادة الحق، شهادة التوحيد، وهما شهادتان في الحقيقة؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث معاذ: «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله»[البخاري 1395]. فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله، هو معرفة حق الله تعالى على عباده، واعتقاده والعمل بمقتضاه، وألا يكون هناك إخلال بشيء منه، وإلا استحقوا عذابه وعقابه.
ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله؛ العلم اليقيني أن محمدًا رسول الله؛ كلَّفه أن يبلِّغ عبادَه أوامرَ الله ونواهيه، وطاعته في كل أمر، واجتناب ما نهاهم عنه وزجَر، وألا يُعْبَدَ اللهُ سبحانه إلا بما جاء به، وأن من سلك طريقًا غير طريقه وسنته فمصيره إلى النار؛ لأن الله تعالى سدَّ كل طريق إليه وإلى جنته إلا طريقه صلوات الله وسلامه عليه، وأنه قد بلَّغ العباد ما أُرْسِلَ به، وبيَّن لهم دينهم أتم بيان، ولم يفارق الدنيا إلا بعد أن كملت الرسالة، وتم دين الله تبارك وتعالى، وأنه عَبْدُ اللهِ أكرمه ربه بالرسالة، وليس له من العبادة شيء يصرف له صلى الله عليه وسلم، بل العبادة كلها لله رب العالمين.
وهاتان الشهادتان متلازمتان، لا تُقبل إحداهما إلا مع الأخرى؛ فمن شهد أن لا إله إلا الله، ولم يشرك به شيئًا، ولم يشهد أن محمدًا رسول الله: فهو كافر بالله وخالد مخلد في النار، وإن جاء بعبادة أهل الأرض كلهم، ومن شهد أن محمدًا رسول الله، وأشرك بالله شركًا كبيرًا، فهو كافر مخلد في النار، فلا بد إذن من اجتماع الشهادتين في العبد حتى يكون موحدًا.
وأما مجرد النطق بالشهادتين، مع عبادة غير الله تعالى، وتعلق القلب بمن يعتقدهم أولياء، وطلب الحاجات منهم التي لا يقدر عليها إلا الله وحده، ومع مخالفة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتكاب ما نهى عنه، فإن ذلك لا يفيده شيئًا، ولا يكون الإنسان به مسلمًا.
وأما كون التوحيد آخر ما يخرج به المسلم من الدنيا؛ فإنه قد ثبت من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله». رواهما مسلم في صحيحه (916، 917)، ومن حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة». [أخرجه أبو داود (3116)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، وصححه في غيره بشواهده].
حق الله على عباده
أورد الإمام البخاري حديث ابن عباس رضي الله عنهما في بعث معاذ إلى اليمن مفتتحًا به كتاب التوحيد من صحيحه، تحت باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، ثم أورد بعده حديث مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ». [متفق عليه: البخاري 7373، ومسلم 30].
فحق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أي يوحِّدوه في عبادتهم، فكما أنهم يعرفون ويقرون أنه الخالق وحده، وأنه الرازق وحده، وأنه بيده ملكوت كل شيء وحده، وأنه يدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض وحده، وأن السماء والأرض تقومان بأمره، وأنه المحيط بكل شيء، فكذلك يجب أن تُصرف العبادات كلها له وحده، فلا يُدعَى إلا الله، ولا يُرجَى غيرُه ولا يُخشى سواه، ولا يُستغاث إلا به، ولا يُستجار إلا به، ولا يُلجأ إلا إليه، ولا يُعلق القلب إلا به، ولا يُرجى النفع إلا منه سبحانه، فهو مالك الملك المتصرف في ملكه مدبِّر خلقه، فيجب إخلاص العبادة له سبحانه.
وهذا هو التوحيد الذي أُرسلت به الرسل، ومن أجله أرسلت، وأُنزلت به الكتب وبسببه أنزلت، فهو حق ربنا سبحانه وتعالى علينا، وهو أول واجب علينا وأعظم ما أمر الله به، وضده الشرك وهو أعظم ما نهى عنه رب العالمين سبحانه، وآيات القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين وخاتمهم خاصة بذلك.
السبيل إلى معرفة التوحيد
السبيل إلى معرفة التوحيد هو كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على ما وقر في فطرة الإنسان التي فطره الله عليها، والاهتداء بوحي الله سبحانه كما قال سبحانه وتعالى: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [سبأ: 50]، وقال جل وعلا: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى: 52].
وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».[مسلم 22].
ولقد أجاد الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صنيعه في ترتيب صحيحه؛ لما ابتدأه ببدء الوحي ونزوله الذي يحصل به الهداية والنور، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بالوحي والانقياد له، ثم أتبعه كتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفقهه، فهذا هو الترتيب الحق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد عُلم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، واتفقت عليه الأمة، أن أصل دين الإسلام وأول ما يُؤمَر به الخلقُ: شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلمًا، والعدو وليًّا، والمباح الدم والمال معصومهما، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان. [نقلاً من كتاب تيسير العزيز الحميد].
والإمام البخاري – رحمة الله عليه – في إيراده هذا الحديث (حديث بعث معاذ إلى اليمن) في بداية كتاب (التوحيد والرد على الجهمية) كما عَنْوَنَ الكتاب، يشير إلى الرد على المتكلمين الذين جعلوا العقل – وإن شئت فقل: أهواءهم – العمدة في إثبات ما يثبتون ونفي ما ينفون.
قال الشيخ الغنيمان في شرح كتاب التوحيد:
فهذا الحديث دلَّ على أن أول ما يجب على العبد هو عبادة ربه تعالى؛ بامتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه، وأن المقصود من الدعوة: وصول العباد إلى ما خُلِقوا له، من عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
توحيد الله تعالى بين هداية الوحي وبين كلام المتكلمين
قال القرطبي في المفهم في شرح حديث: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»[البخاري 2457، ومسلم 2668]، وهو في أوائل كتاب العلم من صحيح مسلم]: هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشُّبَه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطريق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية، ينشأ بسببها على الآخذ فيها شُبَه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالاً عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها.
ثم إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعًا من المحال لا يرتضيها الْبُلْهُ ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر والألوان والأحوال، فأخذوا فيما أمسك عنه السلف الصالح، بل نُهوا عن الخوض فيه؛ لعلمهم أنه بحث عن كيفية ما لا تُعلم كيفيته بالعقل؛ لكون العقول لها حدّ تقف عنده.
ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات وكيفية الصفات، ومن توقف في هذا فليعلم أنه إذا كان قد حُجِب عن كيفية نفسه، وعن كيفية إدراك ما يُدرِك به؛ فهو عن إدراك غيره أعجز، وغاية علم العالم أن يقطع بوجود خالق لهذه المصنوعات، منزَّه عن الشبيه، مقدس عن النظير، متصف بصفات الكمال.
ثم متى ثبت النقل عنه بشيء من أوصافه وأسمائه قبلناه واعتقدناه، وسكتنا عما سواه، كما هو طريق السلف، وما عداه لا يأمن صاحبه من الزلل، ويكفي في الرد عن الخوض في طريق المتكلمين ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، والشافعي، فمن رغب عن طريقهم فكفاه ضلالاً.
ثم قال: وأفضى الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع، وتطلّبهم حقائق الأمور من غيرها، وقد رجع كثير من أئمتهم عن طريقهم، حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال: «ركبت البحر الأعظم، وغصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فرارًا من التقليد، والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف». هذا كلامه أو معناه، وجاء عنه أنه قال عند موته: «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغت ما تشاغلت به».
وقال الغزالي (كما في فتح الباري): أسرفت طائفة فكفَّروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر، فضيَّقوا رحمة الله الواسعة، وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين.
وقال القرطبي: لو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقًا بالذم: إحداهما قول بعضهم: إن أول واجب الشك؛ إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر. ثانيتهما قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله بالطريق التي رتبوها، والأبحاث التي حرروها، لم يصح إيمانه، حتى لقد أُورِد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك؟ فقال: لا تُشنِّع عليَّ بكثرة أهل النار، قال: والقائل بالمسألتين كافر شرعًا، لجعله الشك في الله واجبًا، ومعظم المسلمين كفارًا حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة.