باب الخطب المنبرية بإشراف فضيلة الشيخ / أحمد سليمان


عناصر الخطبة :[ فضل الجود والنفقة في رمضان ]

1- مقدمة بين يدي الخطبة
2- فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله
3- صور من حياة الأسخياء
4- من أنواع السخاء
5- دعوة إلى أصحاب الهمم العالية

" name="description">

فضل الجود والنفقة في رمضان

2012-07-20

هاني الشيخ

فضل الجود والنفقة في رمضان

 

1- مقدمة بين يدي الخطبة

2- فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله

3- صور من حياة الأسخياء

4- من أنواع السخاء

5- دعوة إلى أصحاب الهمم العالية

 

المقدمة

فإن رمضانَ شهرُ الجود، وشهر السخاء؛ فالنفوس في هذا الشهر تقترب من مولاها، وتنبعث إلى ما يزكيها ويطهرها من شحها، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: من الآية 9) .

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» . صحيح البخاري (1/ 8)

هكذا وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: من الآية 21) .

الجود والنفقة في القرآن والسنة

يقول الله تعالى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272]، وقال عز وجل: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].

وما من شيء أشق على الشيطان وأبطل لكيده وأقتل لوساوسه من إخراج الصدقات والإنفاق في سبيل الله، ولذلك فالشيطان يقذف الوهن في النفوس حتى يثبطها ويبعدها عن البذل والعطاء، ويفتح لها أبوابًا ووساوس ليعلقها بالحطام الفاني.

واستمع إلى هذا المثل الذي ضربه الله عز وجل لعباده المؤمنين، حيث بدأهم بالحض والتأليف واستجاشة المشاعر لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله عز وجل وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فهو يضاعف لمن يشاء وهو الواسع العليم، لا يضيق عطاؤه ولا ينضب، عليم بالنوايا ويثيب عليها، ولا تخفى عليه خافية، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، أي: ينفقون أموالهم في طاعة الله وفي الجهاد في سبيل الله وإعداد السلاح والقوة لمجاهدة أعداء الله ورسوله، فلهم بكل درهم سبعمائة درهم إلى أضعاف مضاعفة، فضرب الله المثل بالحبة التي أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة؛ ليكون أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة.

ومن العبادات المهجورة في هذا الشهر عبادة الصدقة والإنفاق، وهي من أرجى الطاعات عند السالكين، والفقه فيها عظيم أثرهُ في النفس.

قال الشافعي رحمه الله: أُحبُّ للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم وتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.

وليس المقصود كثرة المُنفق، بل كثرة الإنفاق أي فعله وإن قل المال، ورب درهم ينفقه امرؤٌ من درهمين يملكهما أحب إلى الله من مائة ينفقها مّنْ يملك الآلاف، قال - صلى الله عليه وسلم -: "سبق درهم مائة ألف درهم: رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدق بها" رواه النسائي وغيره وهو حديث حسن.

وقد خرج أبو بكر من ماله كله وترك لأهله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج عمر من نصف ماله، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بقافلة قدمت المدينة بأحلاسها وأقتابها.

وأدبُ المتصدق أن يعلم منةَ الله عليه إذ رزقه المال ثم وفقه للصدقة ويسر له من يقبل منه صدقته ثم تلقاها منه ربه وقبل منه ما رزقه.

وأن يتصدق بأفضل ما عنده {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وأن يتلطف في إعطائها للفقير أو المحتاج حتى لا يشعر بمنة العبد فيها، فيعمل على إخفائها أو إرسالها مع قريب له.

وكان بعض السلف إذا أعطى الصدقة وضعها على كفه وناولها للفقير على يد مبوسطة حتى يتناولها الفقير بنفسه، فقيل له في ذلك! فقال حتى تكون يده هي اليد العليا، يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واليد العليا خير من اليد السفلى" وهذا من لطيف ما يقوم به أولئك الأكابر.

وقضية الجُودِ - في رمضان وغير رمضان - من القضايا المهمة التي ينبغي أن يفهمها المؤمنون، وهذا الفَهْم يَنبني على مسألة واحدة، وهو أن هذا الدِّين لا تَصْلُح له، هذه النفوس الشحيحة، هذه النفوس البخيلة الحريصة غير الصالحة في نفسها لا تصلح لإقامة الدين في غيرها، فهذه النفوس التي تَشِحُّ بالبذل، والوقت، والمال، والجهد على الله، إنما هي في الحقيقة تَشِحُّ على نفسها:

{وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ  [محمد: 38].

وهذه هي النقطة المهمة التي يستوعبها المؤمنون؛ أنهم يجب أن يكونوا في البذل كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].

حيثُ أعطاهم هذه النفوسَ، وتلك الأموال، وذلك الوقتَ، وذلك الجهدَ، وفَتَحَ عليهم جاهًا، وسلطانًا، ومَنْصِبًا، وولدًا، كلُّ ذلك أعطاهم، ثم طَلَب منهم أن يُنْفِقوا من ذلك الذي أعطاهم ليس من ملكهم؛ فعندما يَبْخَلون إنما يبخلون بما أعطاهم ويبخلون على أنفسهم؛ لأنه أمرهم - سبحانه وتعالى - أن يُنْفِقوا مما جَعلهم مُسْتَخْلَفِين فيه من المالِ الذي آتاهم، ليس من أموالهم على الحقيقة، هم فقراء كما قال: { أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر: 15] وقد كان هذا الموضوع من أطول موضوعات القرآن التي أمر الله تعالى بها أن يَبْذُلُوا أنفسَهم وأموالَهم لله جل وعلا، فمن أَنْفَق مالًا فإن كَرَمُ اللهِ تَعالَى أفضلُ وأعلى وسيُعْطِيه أكثر مما أَنْفَق، وسيُخْلِف عليه أكثرَ مما أنفق؛ الحسنة بسبعمائة ضعف، ويَزِيد - سبحانه وتعالى - , وكذا إذا أنفق وقتًا بارَك له فيه، أَنْفق من جاهَه وسُلطانه لِيُوَسِّعَ على عباد الله تعالى، أَنْفق نفسَه لله كما كان هؤلاء يَبْذلون أنفسَهم لله تعالى حَفِظَها عليهم، وكَرَّمَهُمْ بِها في الدنيا والآخرة - سبحانه وتعالى -.

إن الذين يمسكون ويحبِسون ويبخلون؛ يفعلون ذلك لِظَنِّهم أن ذلك سيُنْقِص مالَهم، ويُنْقِص وقتَهم، ويُنْقِص جهدَهم كَلَّا: « مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ) سنن الترمذي ت بشار (4/ 140)

ما يَنْقُص أبدًا إنَّما هي النظرة المادِّية التي يَنْظر بها الناس، نعم ينقص المال، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يَنقص بل يَزيد؛ لأنَّ الحقَّ - سبحانه وتعالى - يقول في الحديث القدسي: «أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» صحيح البخاري (7/ 62) فهو الذي يُنْفِق عليكَ ما دُمْتَ تُنْفِق؛ ويُنْفق هو عليك الإنفاق الزائد؛ ذلك كله مُلْكُه، وذلك كلُّه رِزْقُه، ولا تَنْفُد خَزائِنُه، فلو اجْتَمَعوا في صعيدٍ واحدٍ؛ إِنْسُهم وجِنُّهم، ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة، ثم سَأَلَ كلُّ واحدٍ مسألتَهُ؛ بل سأل كلُّ واحدٍ الدنيا من أولها إلى آخرها، ما نَقَصَ ذلك من مُلْكِه شيئًا، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: من الآية38] , وهذه المسألة إنما تَرْتبط بأمرين وهما:

1 - التَّوَكُّل على الله.

2 - حُسْنُ الظَّنِّ في الله.

فقضية التوكل وحُسْن الظن بالله تعالى هي التي كانت تَحْمِلُهم؛ فما أن يَحْرِص المرء، إلا وقد ساء ظنُّه بربه، وقَلَّ توكلُه عليه، وضَعُفَ يَقِينُه في الله تعالى، أن يُعَوِّضَه كما ذَكَر، وأن يُخْلِف عليه، وأن يُوَسِّع عليه كما وَعَدَهُ - سبحانه وتعالى -.

لذلك كانت هذه النفوس الشحيحة، البخيلة، لا تَصْلُح لنفسها، ولا لغيرها؛ لأنها قد أساءت الظنَّ بالله تعالى، وكذلك ضَعُفَ توكلُها ويقينُها على الله، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]. ويقول أيضا: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 122] , فقد أَمر بالتوكل، ووَصف به المؤمنين؛ لأنهم هم المتوكلون على الله تعالى.

لذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس؛ كما قال أنس: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ، وأَشْجَعَ النَّاسِ، وأَجَوْدَ النَّاسِ» صحيح البخاري (4/22)

وَكَانَ فِي رَمَضَانَ يَتَضَاعَفُ جُودَهُ اتِّباعًا لِتَضَاعف جُودِ الرب؛ لأن الرب - سبحانه وتعالى - يضاعَف جُودَه، وفَضْلَه، وكَرمَه، وإحسانَه في هذه الأزمنة المشرَّفة لِيُوَسِّعَ على عباده بأنواع المغفرة والرحمة والعتق من النار؛ فمن استَحَقَّ شيئًا من ذلك زاد عليه الإقبال، وزاد عليه العطاء، وتَنَوَّعَتْ له أنواعُ الأفضال من الله جل وعلا.

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الحال المشرَّف؛ أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ) صحيح البخاري (1/ 8) لأنه عندما يُنْفِق إنما يُنْفِق من مال الله الذي لا ينفد، وعندما يُنْفِق يَعْلَم أن الذي أعطاه سيعطيه عندما يُنْفِق، ويزيده من ذلك: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] , ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أجودَ الناس، فكان لا يَمنع شيئًا، و لا يحرص على شيء لنفسه فما دونها - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك بعُلُوِّ يَقِينِه بربِّه، وحُسْنِ توكُّلِه عليه - سبحانه وتعالى)

وهذا البُخْل عندما يَتَصدَّر قلبَ المرء ويتقدَّم فيه، تَجِدُه بَخِيلًا في عبادته، يَتَمَلْمَل من القيام، ويتململ من الصيام، ويتململ من النفقة، ويتململ من الصدقة، ويَشِحُّ بها، ويَشِحُّ بنفسه أن يَقِفَ بين يَدَيِ الله تعالى، أن يُتْعِب نفسَه لله - جل وعلا - شيئًا؛ فإذا أَحَسَّ بهذا، ووصل إلى هذه الحالة؛ أن يَتضايَق، وأن يتألم، وأن يَحِسَّ بالمشقة في أن يَبْذُل وقتًا لله يَقِف فيه - ليناجي ربه، وليأخذ حظَّه من جنة الدنيا المُعَجَّلة للمؤمنين - فمتى يَقِفُ بنفسه، ويَبْذِلُها لله تعالى؟ ومتى يَتَحَمَّل ذلك في جَنْبِ الله جل وعلا؟ وأي نفس هذه التي تتململ وتتأفف من الوقوف بين يدي الله؟

لذلك كان من شأنُه المشَرَّف أَنَّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما سُئِلَ على الإسلام شيئًا فقال: لا. لم يحدث ذلك أبدا, بل على العكس فقد أعطى - صلى الله عليه وسلم - رجلًا واديًا من غَنَم - غنمًا بين جبلين - ما يعطيها أحدٌ؛ فرَجَع الرجل إلى قومه فقال: " أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُنْفِقُ إِنْفَاقًا، أو: يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ ", نعم، لا يَخْشى الفقرَ، لا يَخْشى أنْ يَبْذُل فيَفْتَقِرَ، لا يَخشى أن يَبْذُلَ جُهْدًا فيَضِيعَ، لا يَخشى أن يَبْذُل وقتًا ما مَشْيًا فيذهب سُدًى، {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ  [التوبة: 121].

«مَا سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا» صحيح البخاري (8/ 13)

لذلك يقول صفوان بن أمية «لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَي» صحيح مسلم (4/ 1806)

لقد أعطاه واديًا من أبلٍ ونَعَمٍ حتى قال: «أَشْهَدُ أَنَّهُ مَا تَطِيبُ بِذَلِكَ إِلَّا نَفْسُ نَبِيٍّ» - صلى الله عليه وسلم -؛ ما تَطِيب نفسٌ أن تعطي هذا العطاء على كثرته، وتَسْتَيْقِن أنَّ بهذا العطاء لا يَنْفُذ المال إلا نفسُ نبي.

لذلك ذكروا عنه أَنَّه كان ينفق - صلوات الله وسلامه عليه - وهو لا يَمْلِكُ شيئًا؛ أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ شَمْلَةٌ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَجُلٌ لَهُ: اكْسُنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ - أعطني هذه الشملة - فَلَامَهُ أَصْحَابُهُ، قالوا: تَعْلَمُ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، وَتَسْأَلُهُ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ كَفَنِي؛ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَادَ إِلَى شَمْلَتِهِ القَدِيمَةِ. مسند أحمد (37/ 482)

والخصيصة التالية كما قال العلماء: علاوة على أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَرُدُّ أحدًا، ولا يَرُدُّ سائلًا، وكان يعطي عطاءَ من لا يَخْشى الفقرَ، وكان يعطي على الإسلام - صلى الله عليه وسلم - لا يقول لا، وفي نفسه - صلوات الله وسلامه عليه - مع هذا العطاء الذي لا يستطيعه الملوك ككسرى وقيصر، كان يعيش في نفسه عيشة الفقراء، وكان يمر عليه الشهر والشهران لا يُوقَد في بيته نارٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكان إنفاقه في وجه الله تعالى، وفي سبيله - سبحانه وتعالى -؛ فيعطي المال لفقير، أو محتاج، أو مَنْ يَتأَلَّفه على الإسلام.

وكان - صلى الله عليه وسلم - يُؤْثِرُ على نفسه وأهله أيضا, فقد جاءَهُ - صلى الله عليه وسلم - سَبْيٌ مرةً، وجاءته فاطمةُ ابنته رضي الله عنها تَشْكِي له عملَ بيتها؛ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ» صحيح البخاري (7/ 65)

ولم يُعْطِها شيئًا، ، أي: لا يعطيها خادمًا مع شدة احتياجِها لهذا الخادم، ويقول: «لَا أُعْطِيكِ»، وهو في نفسه يعيش عيشةَ الفقراء، ولا يُوقَد في بيته نارٌ, وكان بَذْلُه - صلى الله عليه وسلم - متنوعًا لا يَقِفُ على المال، بل كان يبذل نفسَه ووقتَه، وكان يَبْذُل العِلْمَ كذلك يُعَلِّم جاهِلَهم، ويُرْشِدَ ضَالَّهُم، ويعطي مُحتاجَهم ومِسْكِينَهم - صلى الله عليه وسلم -.

فكل أنواع البذل الذي ورد ما كان يتخلف عنها - صلى الله عليه وآله وسلم - لحظةً، كان هو المسارع إليها؛ الأعلى على جميع البشر فيها.

لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] , إذا بالصحابة يسارعون إلى أحسن أموالِهم فيِنْفِقُونها، ليس إلى الرَّدِيء ولا إلى الذي صار لا يحتاجون إليه

فينفقونها، ويرسلونها إلى المسجد، أو غير ذلك مما نراه اليوم. لا, لماذا لقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].

«كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، .. فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّه» صحيح البخاري (2/ 120)

لَمَّا نزلت تلك الآيات، وهي المسارعة، والمنافسة في أعمال الخير عَلِم الصحابة أنهم هم المُخْتَصُّون بذلك، هم المخاطبون بذلك، هم المخاطبون بأن يسارعوا إلى الله، وأن يتنافسوا، وأن يتسابقوا إلى هذه المعالي؛ فسابق بعضُهم بعضًا، حتى أنهم - كما ذكرنا - من لم يستَطِع كان يجلس ليبكي على أنْ لا يستطيع الإنفاق، ثم أنه إذا لم يَسْتَطِع أن يُنْفِق في بابٍ، إذا به يحاول أن يُعَوِّض ذلك الباب, لَمَّا قام الأغنياء يُنْفِقون من أموالهم في الصدقة، والصِّلة، والجهاد، وغيرها. هل جلس الفقراء يبكون فقط؟ لا. انتقلوا إلى درجة أعلى من المنافسة، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقولوا له: «ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ - إذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يُوَجِّهُهم إلى عمل من الأعمال يُعَوِّض لهم هذا الإنفاق الذي لم يستطيعوا - قَالَ: أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟! إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -.

فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله

أيها الصائمون الكرام: للصدقة والسخاء فضائلُ، لا تُحصى كثرة؛ فالصدقة تطفئ غضبَ الرب، وتدفعُ ميتةَ السوء، وتدل على الإيمان بالله، والثقة به، وإحسان الظن به -عز وجل-.

والصدقة دليل على الرحمة، والشعور بالآخرين، كما أنها سبب لتيسير الأمور، وتفريج الكربات، وإعانة الرب -جل وعلا- فالله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه.

والصدقة مدعاة لزيادة المال، ونزول الخيرات، وحلول البركات، وهي سبب للاستظلال في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، كما أن لها تأثيرًا في دفع البلايا.

قال ابن القيم رحمه الله: (وللصدقة تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر، أو ظالم، بل من كافر، وهذا أمر معلوم عند الناس، وأهل الأرض مُقِرُّون بذلك) اهـ.

والصدقة تشرح الصدر، وتفرح النفس.

قال ابن القيم رحمه الله: (المتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح لها صدره، وقوي فرحه، وعظم سروره. ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة لكان العبد حقيقًا بالاستكثار منها، والمبادرة إليها) .

أيها الصائمون الكرام: ومن فضائل الصدقة: أنها سبب للخلف من الله -عز وجل- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح فيه العباد، إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا» متفق عليه.

ثم إن للسخاء أثرًا في صيانة الأعراض، ونباهة الذكر، وائتلاف القلوب، وتأكيد رابطة الإخاء.

وللسخاء أثرٌ في القضاء على كثير من الأخلاق المرذولة، كالحسد من الفقراء للأغنياء، وكالكبر من الأغنياء على الفقراء.

وللسخاء أثرٌ في ستر العيوب، قال الشافعي رحمه الله:

وإنْ كثرت عيوبُكَ في البرايا ... وَسرَّك أن يكون لها غطاءُ

تَسَتَّرْ بالسخاء فكلُّ عيبٍ ... يُغَطِّيه كما قيل السخاءُ

ثم إن السخيَّ قريبٌ من الله، ومن خلق الله، ومن الجنةِ، والبخيلُ بعكس ذلك.

والسخاءُ مُتَّصِل بفضائلَ أخرى؛ فالسخيُّ في أغلب أحواله يأخذ بالعفو، ويتحلّى بالحلم، ويجري في معاملاته على الإنصاف، ويؤدي حقوقَ الناسِ من تلقاء نفسه.

ولتجدنّ السخيَّ بحق متواضعًا، لا يطيش به كبر، ولا تستخفه خيلاء، ولتجدنَّه أقربَ الناس إلى الشجاعة وعزة النفس؛ وإنما يخسر الإنسانُ الشجاعةَ والعزةَ بشدَّة حرصه على متاع الحياة الدنيا.

ولقد جَرَتْ سُنةُ اللهِ بأن السخيَّ بحقٍّ يفوز بالحياة الطيبة، ولا تكون عاقبتُه إلا الرعايةَ من الله والكرامة؛ فلما كان رحيمًا بالفقراء، والمساكين، والمحتاجين، حريصًا على إسعادهم، وإدخال السرور والبهجة على نفوسهم - كان جزاؤه من جنس عمله.

هذا، وإن السخاء ليس مقتصرًا على بذل المال فحسب، بل إن مفهومَه أوسعُ، وصورَهُ أعمُّ وأشمل.

فمن صور السخاء: أن يكونَ للإنسان دَيْنٌ على آخر؛ فيطرحَه عنه، ويُخْلِيَ ذمته منه، وهو يستطيع الوصول إليه، دون عناء ولا تعب.

صور من حياة الأسخياء

أما عن أحوال سلفنا الصالح في الإنفاق فهي أكثر من أن تحصى فهذا

أبو بكر رضي الله عنه يتصدق بماله كله ويسأل ما أبقيت لهم قال أبقيت لهم الله ورسوله

وهذا عمر يتصدق بنصف ماله - وهذا عثمان يجهز جيش العسرة وجاء بألف دينار فصبها في حجر النبي (ص) فجعل النبي يقلبها وهو يقول " ما ضر ابن عفان ما فعل بعد اليوم "

وهذا أبو الدحداح يتصدق بحديقته كلها في سبيل الله وكانت حديقته بها ستمائة نخلة وهنا قال النبي (ص) " كم من عزق رداح لأبى الدحداح في الجنة.

وكان قيسُ بنُ سعدِ بنِ عبادة - رضي الله عنهما- من الأجواد المعروفين، حتى إنه مرض مرة، فاستبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم فقيل له: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدَّيْن، فقال: أخزى الله مالًا يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديًا ينادي: من كان لقيس عليه مالٌ فهو منه في حِل؛ فما أمسى حتى كُسِرتْ عتبةُ بابِه من كثرة من عاده.

ويدخل في قبيل الأسخياء مَنْ يستحق على عمل أجرًا؛ فيترك الأجر من تلقاء نفسه.

ويدخل في قبيلهم مَنْ يسعى في قضاء حوائج الناس، وتفريج كرباتهم، فعن الحسن رحمه الله قال: (لأنْ أقضيَ حاجةَ أخٍ لي أحبُّ إلي من أن أعتكفَ سنة) .

وقيل لابن المنكدر رحمه الله: (أي الأعمال أحب إليك؟ قال: إدخال السرور على المؤمن، وقيل: أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان) .

وقال الشافعي رحمه الله:

وأفضلُ الناسِ ما بينَ الورى رجلٌ ... تُقضى على يدهِ للناسِ حاجاتُ

من أنواع السخاء

ويدخل في السخاء سخاوة الإنسان بجاهه؛ بحيث يبذله في سبيل الخير، والشفاعات الحسنة: من إحقاق حق، ونُصْرِة مظلوم، وإعانة ضعيف، ومَشْيٍ مع الرجل إلى ذي سلطان، قال - تعالى -: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} (النساء: من الآية 85) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا» رواه البخاري ومسلم.

ومن السخاءِ سخاءُ الإنسان برياسته؛ فيحمله سخاؤه على امتهانها، والإيثار في قضاء حاجات الملتمس.

ومن السخاءِ سخاءُ الإنسانِ براحته، ووقته، ونصحه؛ في سبيل نفع الناس.

ومن أعلى مراتبِ السخاء سخاءُ الإنسان بالعلم؛ فذلك أشرف من السخاء بالمال.

ومن السخاءِ سخاءُ الإنسانِ بِعِرضه؛ بحيث يعفو ويصفح عمن ناله بسوء.. مر الشعبيُّ رحمه الله بقوم يذكرونه بسوء، فتمثَّل بقول كُثَيِّر عزةَ:

هنيئًا مريئًا غيرَ داءٍ مخامرٍ ... لِعَزَّةَ من أعراضنا ما استحلتِ

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ... لدينا ولا مقليةً إن تقلَّتِ

وفي هذا السخاءِ من سلامة الصدر، وراحة القلب، والتخلُّص من معاداة الخلق ما فيه.

ومن السخاءِ السخاءُ بالصبر، والاحتمال، والإغضاء، وهي مرتبةٌ شريفةٌ لا يقدر عليها إلا النفوسُ الكبار.

ومن السخاءِ السخاءُ بالخلق، والبشر، والتبسم، والبشاشة، والبسطة، ومقابلة الناس بالطلاقة؛ فذلك فوق السخاء بالصبر، والاحتمال، والعفو، وهذا هو الذي بلغ بصاحبه درجةَ الصائم القائم، وهو أثقلُ ما يوضع في الميزان، وفيه من أنواع المسارّ والمنافع والمصالح

يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: 

وإني لأكسو الخلَّ حُلَّةَ سُندسٍ ... إذا ما كساني من ثياب مداده

ويدخل في السخاء حَضُّ الناس على الخير، ودِلالتهم عليه، وشُكْرُ الأسخياءِ، والدعاءُ لهم.

ومن صور السخاء الخفية المحمودة سخاء النفس بترفُّعها عن الحسد، وحبِّ الاستئثار بخصال الحمد، وذلك بأن يحب المرء لإخوانه ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، فيفتح لهم المجالات، ويعطيهم فرصة للإبداع، والحديث، والمشاركة، ونحو ذلك؛ فيفرح لنجاحهم، ويحزن لإخفاقهم؛ فهذه من الصور الخفية للسخاء، وقلَّ من يتفطَّن لها، ويأخذ نفسه بها.

ومن جميل السخاءِ سخاءُ المرء عما في أيدي الناس، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرَّض له بحاله ولسانه.

وأروع ما في السخاء، سخاء المرء بنفسه، وأروع ما في ذلك ما كان في سبيل الله

دعوة إلى أصحاب الهمم العالية

أيها الإخوة الكرام: يتفاضل الناس بالسخاء، على قدر هممهم، وشرف نفوسهم.

فيتفاضلون من جهة الإنفاق؛ فالذي ينفق في السر أكمل من الذي لا ينفق إلا في العلانية.

ويتفاضلون من جهة استصغارِ ما يُنْفَق واستعظامِه؛ فالذي ينفق في الخير، وينسى أو يتناسى أنه أنفق، هو أسخى ممن ينفق ثم لا يزال يذكر ما أنفق، ولا سيما إذا كان في معرض الامتنان.

ويتفاضل الناس في السخاء من جهة السرعة إلى البذل، والتباطؤ فيه؛ فمن يبذل المال لذوي الحاجة لمجرد شعوره بحاجتهم، يَفْضُل مَنْ لا يبذل إلا بعد أن يسألوه.

ومن يقصد بالبذل موضع الحاجة - عرفه أو لم يعرفه - يكون أسخى ممن يَخُصُّ بالنوال من يعرفهم ويعرفونه.

ومن يعطي عن ارتياحٍ، وتلذُّذٍ بالعطاء يعد أسخى ممن يحسن وفي نفسه حرجٌ.

ومن علامات الرسوخ في السخاء ملاقاةُ السائلين بأدب وحفاوة؛ حتى يحفظ عليهم عزتهم.

وأبلغ ما يدل على أصالة الرجل، ورسوخ قدمه في فضيلة السخاء - أن يرقَّ عطفُه، حتى يبسط إحسانه إلى ذي الحاجة، وإن كان من أعدائه؛ فذلك من كِبَر النفس، وضروب العزة، والترفع عن العداوات.

ومن علامات الرسوخ في السخاء أن يتألمَ المرءُ، وأن يتأسف أشد الأسف إذا سئل شيئًا وهو غيرُ واجدٍ له، قال الشافعي رحمه الله:

إن اعتذاري لمن قد جاء يسألني ... ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات

ومن الأسخياء من تَسْمُو به الحال، فيرى أن الفضل والمنَّة إنما هي لمن جاء يستجديه ويسأله؛ حيث أحسن الظنَّ به، وتكرَّم عليه؛ فهذا من غرائب السخاء.

وأرفع درجات السخاء أن يكون الإنسان في حاجة ملحَّة إلى ما عنده؛ فيدع حاجته، ويصرف ما عنده في وجوه الخير؛ وذلك ما يسمى بالإيثار.

قال رسول الله (" ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول احدهما اللهم أعط منفقاً خلفا ويقول الأخر اللهم أعط ممسكا تلفا "

ثم اعلم أن المؤمن يستظل بصدقته يوم القيامة

قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " صحيح البخاري (1/ 133).

عدد المشاهدات 48205