وجوب تفقد الزوجة حال زوجها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها اشترت نُمْرُقةً فيها تصاوير، فلما رآها رسول اللَّه قام على الباب فلم يدخله، فعرفتُ في وجهه الكراهية، فقلت يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ فقال (ما بال هذه النمرقة؟) قلتُ اشتريتها لك لتقعد عليها وتَوَسَّدَهَا، فقال رسول اللَّه (إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم أحيوا ما خلقتم) وقال (إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في ستة مواضع من صحيحه في كتاب البيوع باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء برقم، وكتاب بدء الخلق باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه برقم، وكتاب النكاح بل هل يرجع إذا رأى منكرًا في الدعوة برقم، وكتاب اللباس باب من كره القعود على الصور برقم باب من لم يدخل بيتًا فيه صورة برقم، وكتاب التوحيد باب قول الله تعالى (والله خلقكم وما تعملون) برقم، كما أخرجه الإمام مسلم في كتاب اللباس باب تحريم تصوير صورة الحيوان برقم، وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الاستئذان
شرح الحديث
قوله (نمرقة) قال في النهاية أي وسادة، وهي بضم النون والراء وبكسرهما، وبغير هاء، وجمعها نمارق، وقال النووي في شرح مسلم هي بضم النون والراء، ويقال بكسرهما، وقال بضم النون وفتح الراء ثلاث لغات، ويقال نمرق بلا هاء وهي وسادة صغيرة، وقيل هي مرفقة
قول عائشة رضي الله عنها (فلما رآها رسول اللَّه قام على الباب فلم يدخله) قال الحافظ في الفتح قال الرافعي وفي دخول البيت الذي فيه الصورة وجهان؛ قال الأكثر يكره، وقال أبو محمد يحرم، فلو كانت الصورة في ممر الدار لا داخل الدار كما في ظاهر الحمام أو دهليزها لا يمنع الدخول؛ قال وكان السبب فيه أن الصورة في الممر ممتهنة، وفي المجلس مكرمة، قلت وقصة إطلاق نص المختصر وكلام الماوردي وابن الصباغ وغيرهما أنه لا فرق اهـ من الفتح
قولها رضي الله عنها (فعرفت في وجهه الكراهة، فقلت يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟) فيه أن رسول اللَّه كان إذا غضب لشيء أو كره شيئًا عُرف ذلك ورُؤي في وجهه، وأنه كان يغضب ويظهر على وجهه أثر ذلك إذا رأى مخالفة لأمر الله تعالى، أو رأى ما يكره ولا سيما هذا فإن وجود الصور يمنع دخول الملائكة، والرسول يعرف أهمية دخول الملائكة البيت فإنها تخف الذاكرين الله تعالى، وتتنزل بالرحمة من رب العالمين، وتأتي من الله عز وجل بالبركة، أما من لا يَقْدُرُ هذه الأمور قدرها فإنه لا يبالي دخلت الملائكة أو خرجت، بل وُجِدَت الملائكة أم وُجِدَت الشياطين لا فرق عند كثير من الناس اليوم، فإذا مستهم الشياطين وركبتهم الوساوس والأمراض بحثوا عمن يخرجهم مما هم فيه، فإذا قيل لأحدهم أو لإحداهن الجأ إلى الله، واقرأ القرآن والزم ذكر الله تعالى، فإنه يقول قرأت وقلت الأذكار ولكن لم ينفع ولم يجد، والسبب في ذلك ضعف اليقين وقلة الصبر وانعدام الثقة بالله والتوكل عليه
وفيه أيضًا أن المرأة يجب عليها أن تراعي حال زوجها وتتفقد رضاه وتحرص عليه، وتنأى عما يغضبه، فإذا عرفت أو تبين لها أنه غضب لشيء سارعت بتغييره أو الاعتذار عما بدر منها، وهذا الأدب يظهر في تساؤل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ هذه الزوجة التي يشنع من لا خلق له ولا عقل متبعًا شنشنة أعداء الإسلام يشنع عليها بأنها الصغيرة التي لا يليق أن نأخذ عنها، بل ربما طعن في الحديث وفي قبوله لأنه جاء من طريقها أقول هذا الأدب يجب على نسائنا أن تتأدب به وتعيه وتتفهمه فإنه والله نعم الأدب، وفي قولها رضي الله عنها (اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها) بيان منها للسبب الذي اشترت من أجله النمرقة، وأنه لتكريم رسول اللَّه، ولم تمنَّ عليه، ولم تعاتبه، ولم تقل له أهلكذا تقابل إحساني بالإساءة، كما يحدث من كثير من النساء مع أزواجهن، بل قدمت بين يدي هذا البيان، أي قبل أن تقول اشتريتها لك، أتوب إلى الله وإلى رسوله، وهذا أدب رفيع ممن لقبها الله تعالى مع سائر أزواجه ورضي عنهن بأمهات المؤمنين
قوله (إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون ويقال لهم أحيوا ما خلقتم) قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم وفي الرواية السابقة (أشد الناس عذابًا يقوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله تعالى) وفي رواية (الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم) وفي رواية ابن عباس (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسًا فتعذبه في جهنم)، وفي رواية قال الله تعالى (ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)
ثم قال النووي رحمه الله وأما قوله (ويُقال لهم أحيوا ما خلقتم) فهو الذي يسميه الأصوليون أمر تعجيز، كقوله تعالى ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ))، ثم قال رحمه الله تعالى وهذه الأحاديث صريحة في تحريم تصوير الحيوان وأنه غليظ التحريم، وأما الشجر ونحوه مما لا روح فيه فلا تحرم صنعته ولا التكسب به، وسواء الشجر المثمر وغيره، وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهدًا فإنه جعل الشجر المثمر من المكروه، قال القاضي، لم يقله أحد غير مجاهد، واحتج مجاهد بقوله تعالى (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) ويؤيده حديث ابن عباس المذكور في الكتاب أي في صحيح مسلم (إن كنت لابد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له)
قال النووي رحمه الله وأما رواية (أشد الناس عذابًا) فقيل هي محمولة على من فعل الصورة لتعبد، وهو صانع الأصنام ونحوها فهذا كافر وهو أشد عذابًا، وقيل هي فيمن قصد المعنى الذي في الحديث من مضاهاة خلق الله تعالى واعتقد ذلك فهذا كافر له من أشد العذاب ما للكفار ويزيد عذابه بزيادة قبح كفره، فأما من لم يقصد بها العبادة ولا المضاهاة فهو فاسق صاحب ذنب كبير كسائر المعاصي ولا يكفر
وأما قوله تعالى (فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة)، فالذرة بفتح الذال وتشديد الراء، ومعناه فليخلقوا ذرة فيها روح تتصرف بنفسها كهذه الذرة التي هي خلق الله تعالى، وكذلك فليخلقوا حبة حنطة أو شعير أو غيرها مما فيه طعم يؤكل ويزرع وينبت، وهذا أمر تعجيز كما سبق والله أعلم
قال أبو عمر بن عبد البر هذا الحديث من أصح ما يروى عن النبي في هذا الباب، وهو مخالف لحديث أبي النضر في قوله (إلا ما كان رقمًا في ثوب)؛ لأن هذا قد صرح بأن الصورة في الثوب لا يجوز اتخاذها، ولا استعمال الثوب الذي هي فيه، وذكر فيه من الوعيد ما ترى، وهو غاية عمل الصور في الثياب وغيرها ولم يخص فيها ما يوطأ ويتوسد مما يمتهن وينصب، ثم قال هذا ما يوجبه ظاهر هذا الحديث، وهو أشد حديث روي في هذا الباب وهو أحسنها إسنادًا وأصحها نقلاً
ثم قال أبو عمر رحمه الله تعالى وأما اختلاف العلماء في هذا الباب فعلى حسب اختلاف الآثار فيه وتأويلها، فكان ابن شهاب فيما ذكر عنه معمر وغيره يكره التصاوير في الثياب وغيرها، ما نصب منها وما بسط، على ظاهر حديثه هذا عن القاسم بن محمد عن عائشة
وقالت طائفة إنما يكره من التصاوير ما كان في حيطان البيوت، وأما ما كان رقمًا في ثوب فلا يكره وذلك على حديث سهل بن حنيف، وسواء كان الثوب منصوبًا أو مبسوطًا وقال آخرون لا يجوز استعمال شيء من الثياب التي فيها الصور، إذا كان الثوب ينصب أو يلبس، وإنما يجوز ما كان يوطأ وساق ابن عبد البر رحمه الله عدة آثار على ذلك ثم عقب عليها بقوله هذا المذهب أوسط المذاهب في هذا الباب ثم ساق بعد ذلك قولين آخرين بقوله رحمه الله وقال قوم ما قطع رأسه فليس بصورة، روي ذلك عن ابن عباس وقالت به طائفة
وقال ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يكره من الصور إلا ما له ظل مما له روح، من تمثال النحاس والجواهر كلها والطين، وكل ما إذا صُوِّرَ كان له ظل
ثم عاد رحمه الله تعالى إلى حكاية القول الأول، فقال وذهب غيرهم من أهل العلم إلى أن المكروه من الصور، ما كان له روح من كل حيوان، من أي شيء صنع كان له ظل أو لم يكن ثم ساق حجتهم من الحديث الذي معناه في هذا الباب وهو حديث عائشة المذكور وحديث ابن عباس رضي الله عنهما سمعت رسول اللَّه يقول (من صور صورة فإن الله معذبه يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ) اهـ الاستذكار مختصرًا
وأخيرًا فإننا نسوق هذه الأحكام لمن يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويتحرون سنة نبيهم ليعملوا بها، وأما من ينظرون إلى الصور وهذه النصوص فيها وفي أمثالها على أنها من الأمور الصغار، أو غير المهمة والتي يجب أن تؤجل حتى تجتمع كلمة الأمة على الإسلام أولاً، ثم بعد ذلك نبحث هذه الأمور ونتعلمها أو لا نتعلمها، فإننا نسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية إلى الصراط المستقيم، وإني لا أدري على أي شيء ستجتمع الأمة إذا لم تجتمع على توحيد الله تعالى ومعرفته ثم معرفة أحكامه وذلك من خلال معرفة كتابه وسنة رسوله بكمالها وشمول الإسلام لجميع مناحي الحياة نسأل الله أن يوحد صفوف المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق، وليس على التهاون بالسنة والتقليل من شأنها
وأخيرًا، فإن الإمام البخاري رحمه الله تعالى ساق هذا الحديث في كتاب البيوع باب (التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء مع حديث ابن عمر أرسل النبي بحلة حديد أو سيراء فرآها عليه، فقال (إني لم أرسل بها إليك لتلبسها، إنما يلبسها من لا خلاق له، إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها) يعني يبيعها
وفي ذلك من فقه الإمام البخاري رحمه الله تعالى أن التجارة فيما يكره للرجال أو للنساء أو لكليهما جائزة إذا كانت فيه منفعة، أما ما لا منفعة فيه شرعية فلا يجوز بيعه ولا شراؤه، وفي حديثنا حديث عائشة يستنبط هذا الحكم كما قال الحافظ في الفتح من أن النبي لم يفسخ البيع في النمرقة، قال وسيأتي في بعض طرق الحديث أن النبي توكأ عليها بعد ذلك
نسأل الله أن يبصرنا بالحق وأن يعلمنا من سنة نبينا وأحكام ديننا ما جهلنا وأن يعيننا ويوفقنا للعمل بما علمنا إنه ولي ذلك والقادر عليه
والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله وسلم وبارك على عبده محمد وآله وصحبه أجمعين.