أُمُّ المؤمنين : خديجة بنت خويلد
الحمد لله، الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً. أما بعد:فإن خديجة بنت خويلد، هي أولى زوجات بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأول من آمن به-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهي سيدة نساء الأمة الإسلامية على الإطلاق، وهي إحدى نساء أهل الجنة، فأحببت أن أذكر نفسي وإخواني الكرام بشيء من سيرتها العطرة، لعلنا نسير على ضوئها، فنسعد في الدنيا و الآخرة .
أسألُ اللَه تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العِلْمِِ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى اللهُ وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله، وصحبه، والتابعينَ لهم بإحسان إلى يوم الدين.
صلاح نـجيب الدق
بلبيس ـ مسجد التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
نسَب خديجة رضي الله عنها:
هي خديجة بنت خُوَيلد بن أسد بن عبد العُزى بن قُصي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لُؤي بن غالب بن فهر.
أمها: فاطمة بنت زائدة من الأصم بن رواحة بن حجر بن عامر بن لُؤي بن غالب بن فهر.
(سيرة ابن هشام جـ1صـ 166)
كانت خديجة، رضي الله عنها، تُدعَى في الجاهلية الطاهرة.
(الاستيعاب لابن عبد البر جـ4صـ 271)
زواج خديجة بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
كانت خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، امرأة تاجرة، ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغ خديجة عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما بلغها من صدق حديثه وعِظَمِ أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يُقالُ له مَيْسَرة، فقبله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قَدِمَ الشام، فنزل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال له: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رَجُلٌ من قريش، من أهل الحرم فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيٌ، ثم باع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلاً(عائداً) إلى مكة ومعه ميسرة فلما قَدِمَ مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فربحت الضعف أو قريباً من ذلك، وحدثها ميسرة عن قول الراهب . وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامته، فلما أخبرها ميسرة مما أخبرها به بعثت إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقالت له :يا ابن عم : إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك(شرفك) في قومك وأمانتك وحُسْنِِ خُلُقك وصدق حديثك ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهن شرفاً وأكثرهن مالاً. كل رجلٍ من قومها كان يتمنى الزواج منها، فلما قالت ذلك لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ذَكَرَ ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، حتى دخل على أهلها فخطبها، فتزوجها. وأصدقها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عشرين بكرة(بعير) .
تزوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-خديجة وكان عُمره خمسة وعشرين عاماً، بينما كان عُمر خديجة أربعين عاما.
كانت خديجة هي أول امرأة تزوجها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت رضي الله عنها. أقامت خديجة مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خمساً وعشرين سنة، وهي أقرب نساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليه في النسب. (سيرة ابن هشام جـ1صـ 166:165)(الإصابة لابن حجر العسقلاني جـ4صـ274)
كانت خديجة قد تزوجت قبل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برجلين:الأول:أبو هالة بن زُرارة بن نباش التميمي.والثاني:عَتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. (الاستيعاب لابن عبد البر جـ4صـ 272:271)
أولاد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من خديجة:
وَلَدت خديجة، رضي الله عنها، لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلَّ أولاده، إلا إبراهيم، فمن مارية المصرية، وهم بالترتيب: القاسم، أكبر بنيه(وبه يُكنى)، وعبد الله، ويُلقب بالطيب والطاهر، وأكبر بناته رقية ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة. (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ1صـ 131) (سيرة ابن هشام جـ1صـ 167:166)
إسلام خديجة بنت خويلد:
كانت خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، أول مَن آمن بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الإطلاق وصَدَّقته بما جاءه من عند الله تعالى، ووقفت بجانبه، تناصره، وتدافع عنه بكل ما تملك، فخفف الله بذلك عن نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.فكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يسمع من المشركين شيئاً مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له إلا فَـرَّج اللهُ تعالى عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه وتصدقه، وتهون عليه ما يلقى من قومه.(سيرة ابن هشام جـ1صـ 205:204)
خديجة: الزوجة العاقلة الرشيدة:
روى البخاريُّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (المدثر5:1) فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ. (البخاري حديث:4:3)
قوة إيمان خديجة بنت خويلد:
روى الفاكهي(في كتابه:أخبار مكة) عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم كان عند أبي طالب فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له وبعث بعده جارية له يُقالُ لها نبعة فقال لها انظري ما تقول له خديجة؟. قالت نبعة فرأيت عجباً ما هو إلا أن سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت بأبي وأمي والله ما أفعل هذا لشيء ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك لي. قالت: فقال: لها والله لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبداً، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبداً. (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 7 صـ 167)
خديجة أفضل نساء الأمة مطلقاً:
روى الشيخانِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ. (البخاري حديث 3432ـ مسلم حديث 2430)
قال القاضي أبو بكر بن العربي: خديجة أفضل نساء الأمة مطلقاً لهذا الحديث. (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 6 صـ 543)
خديجة: المرأة الكاملة:
روى الترمذيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.
(حديث صحيح)(صحيح الترمذي للألباني حديث:3053)
أخي الكريم:اعلم أن لفظة الكمال تُطلقُ على تمام الشيء وتناهيه في بابه.
والمقصود بالمرأة الكاملة: هي المرأة التي جمعت جميع الفضائل وخصال البر والتقوى.
(مسلم بشرح النووي جـ8صـ216)
وهذا ينطبق على خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها.
خديجة من أهل الجنة:
روى الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ(قصر) فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ(اللؤلؤ المجوف) لَا صَخَبَ(الصوت المرتفع) فِيهِ وَلَا نَصَبَ(التعب). (البخاري حديث 3820ـ مسلم حديث 2432)
قال الإمام النووي(رحمه الله)
قال السُّهَيْليُّ: استدلَ بهذه القصة أبو بكر بن داود على أن خديجة أفضل من عائشة، لأن عائشة سَلَّمَ عليها جبريل من قِبَلَ نفسه، وخديجة أبلغها السلام من ربها. (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 7 صـ 173)
هدية خديجة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :
كان زيد بن حارثة مملوكاً لخديجة، رضي الله عنها، فلما رأت خديجة حُبَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وميله لزيد، وهبت زيداً له، فكان زيد يُدعى زيد بن محمد، حتى نزل قول الله تعالى بإلغاء التبني، ولذا كانت خديجة، رضي الله عنها هي السبب فيما امتاز به زيد بن حارثة من السبق إلى الإسلام. (الإصابة لابن حجر العسقلاني جـ 4 صـ 275)
غيرة عائشة من خديجة:
روى الشيخانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكَتْ(ماتت)
قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلَاثِ سِنِينَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِيهَا إِلَى خَلَائِلِهَا(أصدقائها). (البخاري حديث 3817ـ مسلم حديث 2435)
وفاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لخديجة بعد موتها:
(1) روى البخاريُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ.
(البخاري حديث:3818)
(2) روى الشيخانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ(أي صفته لشبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك) فَارْتَاعَ(من الرَّوْع بفتح الراء أي فزع والمراد من الفزع لازمه وهو التغير) لِذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَالَةَ. قَالَتْ: فَغِرْتُ، فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ(عجوزٌ كبيرةُ السِّن) هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا.(البخاري حديث:3821ـ مسلم حديث:2437)
قال النووي(رحمه الله) قولها (عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ) معناه : عجوز كبيرة جداً حتى قد سقطت أسنانها من الكبر ولم يبق لشدقها بياض شيء من الأسنان إنما بقي فيه حمرة لثاتها. قال القاضي عياض(رحمه الله): قال العلماء: الغيرة مُسامحٌ للنساء فيها، لا عقوبة عليهن فيها لما جُبِلْنَ عليه مِن ذلك، ولهذا لم تُزجر عائشة عنها. قال القاضي عياض: وعندي أن ذلك جرى مِن عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها. (مسلم بشرح النووي ـ جـ8 صـ 217)
(3) روى أحمدٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ: مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ. (حديث صحيح وهذا سند حسن)(مسند أحمد جـ 41صـ 356 حديث:24864)
(4) روى مسلمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ فَيَقُولُ: أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ. قَالَتْ فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا. (مسلم ـ كتاب فضائل الصحابةـ حديث:75)
قال النووي(رحمه الله):قوله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (رُزِقْتُ حُبَّهَا) فيه إشارة إلى أن حبها فضيلة حصلت.(مسلم بشرح النووي ـ جـ8 صـ 217)
وقال النووي أيضاً:تعليقاً على هذا الحديث وغيره في فضائل خديجة:هذا كله دليلٌ لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته ووفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب.(مسلم بشرح النووي ـ جـ8 صـ 217)
(5) روى مسلمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:لَمْ يَتَزَوَّجْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَاتَتْ.(مسلم حديث:2436)
قال ابن حجر العسقلاني(رحمه الله) تعليقاً على هذا الحديث:
هذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار وفيه دليل على عِظَمِ قَدْرها عنده وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين، لأنه صلى الله عليه و سلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاماً، انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاماً، وهي نحو الثلثين من المجموع، ومع طول المدة فصان قلبها فيها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها، ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان فسنت ذلك لكل مَن آمنت بعدها فيكون لها مثل أجرهن لما ثبت أن رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ.
(فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 7صـ 171)
وفاة خديجة بنت خويلد:
تُوفيت خديجة، رضي الله عنها، في رمضان، في العام العاشر مِن بَعثة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، قبل أن تُفرضَ الصلوات الخمس، ودُفِنت بالحَجُون، جبل بأعلى مكة، عنده مدافن أهل خديجة، ونزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قبرها، ولم تكن صلاة الجنازة قد شُرعت في ذلك الوقت، وكان عمرها خمسٌ وستين سنة.(الاستيعاب لابن عبد البر جـ4صـ 281:280)
رَحِمَ اللهُ خديجة بنت خويلد رحمةً واسعةً، وجزاها عن الإسلام خير الجزاء.
أسألُ اللَه تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العِلْمِِ.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين .
وصلى اللهُ وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله، وصحبه، والتابعينَ لهم بإحسان إلى يوم الدين.