بسم الله الرحمن الرحيم
العفو سبيل المحسنين
المقدمة
الحمد لله، الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فإن العفو عن المخطئين من أخلاق الإسلام الضائعة، عند كثير من المسلمين، إلا من رحم الله، فالعفو عن الناس من الأخلاق الإسلامية الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلمون، من أجل ذلك قُمت بإعداد هذه الرسالة الموجزة والتي قد تناولت فيها الحديث عن معنى العفو والفرق بين الغفران والصفح، وأنه وصية من رب العالمين، ونبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد ذكرت بعضاً من النماذج المشرقة لعفو النبي وكذلك الصحابة والتابعين. أسأ ل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به طلاب العلم في كل مكان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صلاح نجيب الدق
بلبيس – مسجد التوحيد
معنى العفو:
العَفْو: هو التَّجاوزُ عن الذَّنْب وتَرْكُ العِقَاب عليه وأصلُه المَحْوُ والطَّمْسُ وهو من أبْنيةِ المُبَالغة. يقال: عفا يَعْفُو عَفْواً فهو عافٍ وعَفُوٌّ. ( النهاية لابن الأثير جـ3 صـ265 )
العفو من أسماء الله الحسنى:
قال الله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) (النساء:149)
وقال سبحانه: ( ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (الحج:60)
وقال جَلَّ شأنه: ( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (المجادلة:2)
الفرق بين العفو والغفران:
يظهر الفرقُ بين العفو والغفران في أمور عديدة أهمها:
1 – أن الغفران يقتضي إسقاط العقاب ونَيْلُ الثواب، ولا يستحقه إلا المؤمن ولا يكون إلا في حق الله تعالى،
أما العفو فإنه يقتضي إسقاطَ اللَّومِ والذم، ولا يقتضي نيل الثواب ويُستعملُ في العبد أيضاً.
2 – العفو قد يكون قبل العقوبة أو بعدها، أما الغفران، فإنه لا يكون معه عقوبة البَتَّة ولا يُوصفُ بالعفو إلا القادرُ عليه.
3 – في العفو إسقاط للعقاب، وفي المغفرة سَتْرٌ للذنب وصون من عذاب الخزي والفضيحة. (نضرة النعيم جـ7 صـ2892 )
الفرق بين الصفح والعفو:
الصفح والعفو متقاربان في المعنى فَيُقالُ: صَفَحْتُ عنه أَعْرَضْتُ عن ذنبه وعن تَثْرِيِبِهِ, إلا أن الصفح أبلغ من العفو, فقد يعفو الإنسان ولا يصفح، وصَفَحْتُ عنه: أَوْلَيْتُهُ صَفْحَةً جَمِلَةً. (نضرة النعيم جـ7 صـ2892 )
العفو عن المسيئين وصية رب العالمين:
حثنا الله تعالى في كتابه العزيز على العفو عن المخطئين وذلك في مواضع عديدة، وسوف نذكر بعضاً منها:
(1) قال الله تعالى: ( إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) (النساء:149)
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة: إن تظهروا -أيها الناس-خيرًا ، أو أخفيتموه، أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم. ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }.
( تفسير ابن كثير جـ4 صـ330 )
(2) وقال الله تعالى لنبيه: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)
(3) وقال سبحانه: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40)
قال ابن جرير الطبري: عند تفسيره لهذه الآية: فمن عفا عمن أساء إليه، إساءته إليه، فغفرها له، ولم يعاقبه بها، وهو على عقوبته عليها قادر ابتغاء وجه الله، فأجر عفوه ذلك على الله، والله مثيبه عليه ثوابه. ( تفسير الطبري جـ25 صـ38 )
(4) وقال سبحانه لنبيه (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)
قال ابن جرير: خذ العفو من أخلاق الناس، واترك الغلظة عليهم, وقد أُمر بذلك نبيّ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المشركين. ( تفسير الطبري جـ9 صـ155 )
روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ. ( البخاري حديث 7378 )
(5) وقال سبحانه في وصف عباده المتقين: (( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:133: 134 )
قال ابن كثير: قوله: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أي: لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل.
ثم قال تعالى { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي: مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم مَوجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } فهذا من مقامات الإحسان. ( تفسير ابن كثير جـ3 صـ191: صـ192 )
نبينا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يحثنا على العفو عن المخطئين:
إن نبينا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قد حثنا على العفو عن المخطئين في كثير من أحاديثه الشريفة وسوف نذكر بعضاً منها:
(1) روى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ إِنَّ الْأَنْصَارَ كَرِشِي وَعَيْبَتِي ( جماعتي وخاصتي الذين أثق بهم ) وَإِنَّ النَّاسَ سَيَكْثُرُونَ وَيَقِلُّونَ فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ. ( مسلم حديث 2510 )
(2) روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ تَعَافُّوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ. ( حديث صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 3680 )
(3) روى أبو داود عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ نَعْفُو عَنْ الْخَادِمِ فَصَمَتَ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ فَصَمَتَ فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً. ( حديث صحيح ) ( صحيح أبي داود للألباني حديث 4301 )
(4) روى الترمذي عن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ. ( حديث صحيح ) ( صحيح الترمذي للألباني حديث 1133 )
(5) روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ. ( مسلم حديث 2588 )
أقوال السلف الصالح في العفو عن المخطئين:
سوف نذكر بعضاً من أقوال سلفنا الصالح في العفو عن المخطئين:
(1) أبو الدرداء:
سُئل أبو الدرداء عن أعز الناس ؟ قال: الذي يعفوا إذا قدر، فاعفوا يعزكم الله. ( إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ284 )
(2) على بن أبي طالب:
قال علي بن أبي طالب: إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه، شكراً للقدرة عليه. (المستطرف للأبشيهي صـ254 )
(3) معاوية بن أبي سفيان:
قال معاوية بن ابي سفيان: عليكم بالِحلْم والاحتمال حتى يُمْكِنُكُمُ الفُرصةُ، فإذا أمكنكم فعليكم بالصفح والإفضال. (إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ286 )
(4) الحسن البصري:
قال الحسن البصري: أفضلُ أخلاق المؤمن العفو. ( الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي جـ1 صـ71 )
(5) سعيد بن المسيب:
قال سعيد بن المسيب: ما من شيء إلا والله يُحبُّ أن يُعفَى عنه ما لم يكن حداً. ( موطأ مالك – كتاب الأشربة حديث 4 )
(6) الأحنف بن قيس:
قال الأحنف بن قيس: إياكم ورأي الأوغاد. قالوا، وما رأى الأوغاد ؟ قال: الذين يرون الصفح والعفو عاراً. ( المستطرف للأبشيهي صـ262 )
نبينا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هو القدوة في العفو عن المخطئين:
إن الله تبارك وتعالى قد أمر نبينا محمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بالعفو عن الناس فامتثل أمره، وكان (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هو القدوة في العفو عن المُسِيئِين بقوله وفعله، وسوف نذكر بعضاً من ذلك:
(1) روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَزْوَةَ نَجْدٍ فَلَمَّا أَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ وَهُوَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَاسْتَظَلَّ بِهَا وَعَلَّقَ سَيْفَهُ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الشَّجَرِ يَسْتَظِلُّونَ وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجِئْنَا فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاخْتَرَطَ سَيْفِي فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي مُخْتَرِطٌ صَلْتًا قَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قُلْتُ اللَّهُ فَشَامَهُ ثُمَّ قَعَدَ فَهُوَ هَذَا قَالَ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ( البخاري حديث 4139 )
(2) روى الشيخان عن عُرْوَةَ بن الزبير أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. ( البخاري حديث 3231 / مسلم حديث 1795 )
(3) روى الشيخان عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. ( البخاري حديث 6929 / مسلم حديث 1792 )
(4) روى الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ ( جذب ) جَبْذَةً شَدِيدَةً قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. (البخاري حديث 6088 / مسلم حديث 1057 )
(5) روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ( مسلم حديث 2328 )
(6) عفو الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عن ثُمامة بن أُثال:
روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ فَقَالَ أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ صَبَوْتَ قَالَ لَا وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ( البخاري حديث 4372 )
(7) عفو الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عن لبيد بن الأعصم اليهودي:
روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ قَالَتْ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ جَاءَنِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ أَوْ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ قَالَ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ قَالَ وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَتْ فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ قَالَ لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللَّهُ وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ. ( مسلم حديث 2189 )
(8) عفو الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عن المرأة اليهودية:
روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ أَلَا نَقْتُلُهَا قَالَ لَا فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ( البخاري حديث 2617 )
(9) عفو الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عن أهل مكة:
لما فتح الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مكة، اجتمع له أهلها عند الكعبة ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟ قَالُوا: خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ. ( سيرة ابن هشام جـ4 صـ412 )
صور من عفو الصحابة:
لقد ضرب أصحاب نبينا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أمثلةً رائعةً في العفو عن المسيئين، وسوف نذكر بعضاً من ذلك:
(1) أبو بكر الصديق:
كان أبو بكر ينفق على مِسْطح بن أُثاثة لفقره وقرابته منه، وكان مِسْطح من الذين خاضوا في حادث الإفك، وتكلم في عِرض عائشة، فلما عَلِمَ أبو بكر بذلك، أقسم ألا ينفق عليه بعد ذلك، فأنزل الله تعالى: ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:22) فقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَعَادَ لمسطح بِمَا كَانَ يَصْنَعُ. ( البخاري حديث 4757 )
(2) عمر بن الخطاب:
روى البخاري عن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-{ خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. ( البخاري حديث 7286 )
(3) عبد الله بن مسعود:
جلس عبد الله بن مسعود في السوق يبتاع ( يشتري ) طعاماً فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد سُرقت فقال لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على مَن أخذها، ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهم إن كان حَمَلَه على أَخْذِها حاجةٌ فبارك له فيها، وإن كان حَمَلتْهُ جَرَاءَةٌ على الذنْب فاجعلها آخر ذنوبه. ( إحياء علوم الدين للغزالي جـ3 صـ286 )
(4) أبو ذر الغفاري:
قال أبو ذر لغلامه: لم أرسلت الشاة على علفِ الفرس ( أي تأكل من طعام الفرس ) ؟ قال: أردت أن أغيظك. قال أبو ذر لأجمعن مع الغيظ أجراً، أنت حَرٌ لوجه الله تعالى. (المستطرف للأبشيهي صـ260 )
(5) حذيفة بن اليمان:
روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ صَرَخَ إِبْلِيسُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي النَّاسِ يَا عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ حَتَّى قَتَلُوا الْيَمَانِ ( والد حذيفة ) فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَبِي أَبِي فَقَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ وَقَدْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ حَتَّى لَحِقُوا بِالطَّائِفِ. ( البخاري حديث 6883 )
(6) معاوية بن أبي سفيان:
كان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أرض وكان له فيها عبيد يعملون فيها، وإلى جانبها أرض لمعاوية بن أبي سفيان وفيها أيضاً عبيد يعملون فيها، فدخل عبيد معاوية في أرض عبد الله بن الزبير، فكتب عبد الله كتاباً إلى معاوية يقول له فيه: أما بعد، يا معاوية، إن عبيدك قد دخلوا في أرضي، فانههم عن ذلك، و إلا كان لي ولك شأن، والسلام. فلما وقف معاوية على كتابه، وقرأه ودفعه إلى وَلَدِه يزيد، فلما قرأه قال له معاوية: يا بني ما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إليه جيشاً يكون أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه، فقال: بل غير ذلك خير منه يا بني، ثم أخذ ورقة، وكتب فيها جواب كتاب عبد الله بن الزبير، يقول فيه: أما بعد، فقد وقفت على كتاب وَلَدِ حَوَاري رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها هَيِّنةَ عندي في جنب رضاه، نزلت عن أرضي لك فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال والسلام. فلما وقف عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على كتاب معاوية رضي الله عنه، كتب إليه: قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام. فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله بن الزبير، وقرأه رمى به إلى ابنه يزيد، فلما قرأه تهلل وجهه، وأسفر، فقال له أبوه: يا بني من عفا ساد، ومن حَلِمَ عَظُمَ ، ومن تجاوز استمال إليه القلوب، فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء، فداؤه بمثل هذا الدواء. ( المستطرف للأبشيهي جـ1 صـ325: صـ326 )
صور من عفو التابعين:
لقد ضرب التابعون أروع الأمثلة في العفو عن المسيئين، مقتدين بنبينا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، وسوف نذكر بعضاً من ذلك:
(1) عبد الملك بن مروان:
طلب الخليفة عبد الملك بن مروان رجلاً ( أمر بالقبض عليه )، فأعجزه، ثم ظفر به، فقال رجاء بن حَيْوَة: يا أمير المؤمنين: قد صنع الله ما أحببتَ من ظفرك به، فاصنع ما أحبَّ الله من عفوك عنه، فعفا عنه. ( بهجة المجالس لابن عبد البر جـ1 صـ371 )
(2) الخليفة المأمون:
أُحضرَ إلي المأمون رَجُلٌ أذنب ذنباً، فقال له: أنت الذي فعلت كذا وكذا ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا ذاك الذي أسرف على نفسه واتكل على عفوك، فعفا عنه وخلى سبيله. (المستطرف للأبشيهي صـ255 )
(3) ميمون بن مهران:
جاءت جارية ميمون بن مهران ذات يوم بصَفْحة ( وعاء ) فيها مرقة حارة وعنده أضياف، فعثرت، فصبت المرقة عليه فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي: استعمل قول الله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) قال لها قد فعلت، فقالت: اعمل بما بعده: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) فقال: قد عفوت عنكِ، فقالت الجارية: ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال ميمون: قد أحسنت إليكِ، فأنت حرة لوجه الله تعالى. ( تفسير القرطبي جـ4 صـ219 )
(4) الأحنف بن قيس:
سَبَّ رجلٌ الأنف بن قيس وهو يسير معه في الطريق، فلما قرب الأحنف من منزله، وقف وقال للرجل: يا هذا: إن كان بقي معك شيء فهات وقُلْه ها هنا، فإني أخاف أن يسمعك فتيان الحي فيؤذونك، ونحن لا نحب الانتصار لأنفسنا. ( المستطرف للأبشيهي صـ262 )
(5) الفضل بن الربيع:
زَوَّرَ رَجُلٌ ورقةً عن خط الفضل بن الربيع، تتضمن أنه أطلق له ألف دينار ثم جاء بها إلى وكيل الفضل، فلما وقف الوكيل عليها لم يشك أنها خط الفضل فشرع في أن يزن له الألف دينار، وإذا بالفضل قد حضر ليتحدث مع وكيله في تلك الساعة في أمر مهم فلما جلس أخبره الوكيل بأمر الرجل وأوقفه على الورقة فنظر الفضل فيها ثم نظر في وجهه الرجل فرآه كاد يموت من الوجل والخجل فأطرق الفضل، بوجهه ثم قال للوكيل: أتدري لم أتيتك في هذا الوقت؟ قال: لا، قال: جئت لاستنهضك حتى تعجل لهذا الرجل إعطاء المبلغ الذي في هذه الورقة، فأسرع عند ذلك الوكيل في وزن المال وناوله الرجل فقبضه وصار متحيراً في أمره فالتفت إليه الفضل وقال له: طِبْ نَفْسَاً وامض إلى سبيلك آمناً على نفسك فقبل الرجل يده وقال له: سترتني سترك الله في الدنيا والآخرة، ثم أخذ المال ومضى. ( المستطرف للأبشيهي صـ264 )
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يجعلنا من العافين عن الناس. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين.