الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله …. وبعد …
فإن الهجرة المباركة التي قام بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم تكن حدثًا عابرًا، ولا أمرًا تاريخيًّا قد مضى وانقضى ؛ وإنما كانت دروسًا وعبرًا ، ومثالاً يحتذي ، وقد اشتملت هذه الهجرة العظيمة من مكة إلى المدينة على عدد وافر من الفوائد واللطائف والحِكمِ البالغة والعبر النافعة .
وإن أول شيء يستلفت الأنظار، ويبهر الأبصار هذه الهمَّة العالية ، والعزيمة الصادقة ، والإيمان المتين الذي ملأ قلوب المهاجرين فلم يكن الباعث لهم على الهجرة الخوف على النفس أو الفرار من الأذى الذي أصابهم بمكة ؛ فقد خاضوا بعد الهجرة حروبًا طاحنة ، ونزل بهم بلاء مبين تنوء بحمله الجبال الراسيات ! ولم يهاجروا لدنيا يصيبونها ، أو مغانم يتطلعون إليها ؛ بل على العكس من ذلك جردتهم قريش من أموالهم وأخرجتهم من ديارهم وأرضهم وعاشوا في المدينة غرباء ؛ إما ضيوفًا على الأنصار ، أو نزلاء في صفة المسجد ( يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) !! . [ البقرة : 273] .
إنهم مهاجرون إلى الله ، آثروا محبة الله ورضوانه على البيوت والأموال والأبناء والزوجات، فتركوا ذلك كله وخرجوا مستجيبين لله إذا دعاهم لما يحييهم .
ولقد أثَّرت الهجرة في حياتهم تأثيرًا بليغًا، حتى إنك لتنظر في واقعهم وهجرتهم فتجد أمامك ملائكة من البشر يمشون على الأرض هونًا !! ودونك هذا المثال من واقع حياتهم لترى أين نحن من هؤلاء الأطهار الأبرار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه .
روى البخاري في صحيحه بسنده إلى الأعمش قال : سمعت أبا وائل يقول : عُدنا خبابًا؛ فقال: هاجرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- نريد وجه الله ، فوقع أجرنا على الله ؛ فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئًا ؛ منهم مصعب بن عمير ، قُتِل يوم أحد ، وترك نمرة ، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه ، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه ! فأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نغطي رأسه ، ونجعل على رجليه شيئًا من إذخر !! ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها !!
ومصعب بن عمير رضي الله عنه هو ذلك المثال العجيب الذي تحار فيه العقول؛ فقد نشأ مصعب بين شباب مكة قبل إسلامه؛ فكان أجملهم وأعطرهم، وأكثرهم مالاً وثراءً؛ يحيا حياة ناعمة مترفة؛ لا يراه الناس إلا ضاحكًا مقبلاً على الدنيا يأخذ من متاعها، وقد اجتمع بين يديه أموال كثيرة وفيرة. ويدخل ذلك الفتى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم بن أبي الأرقم فيسمع كلامه، ويعرف حقيقة ما يدعو إليه. فيعلن إيمانه بهذا الدين، ويحوله الإسلام إلى شيء آخر ! فيهاجر إلى الحبشة مفارقًا أهله وعشيرته وماله ونعيم الدنيا الذي كان يتقلب فيه !! ثم يرسله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد بيعة العقبة الأولى مع أهل هذه البيعة إلى يثرب ليعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، وأسلم على يديه خلق كثير بعد أن فتح الله قلوبهم لدعوته بإخلاصه وعلمه، فكان خير داع إلى الله ثم كان من المجاهدين في غزوة بدر الكبرى ومات شهيدًا في غزوة أحد فلم يجد الصحابة له كفنًا يغطي كل بدنه ( إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه ) وذلك لشدة فقره، وخشونة عيشه بعكس ما كان عليه في سيرته الأولى. إنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب!!
وفي حديث القرآن عن الهجرة تحذير شديد ووعيد لأولئك القاعدين عن نصرة الإسلام الذين يخدعون أنفسهم ويزعمون لغيرهم بأنهم عاجزون عن تأييد الدين والعمل لرفع رايته، وما أكثرهم اليوم في مجتمعنا ! يقول الله تعالى في شأنهم : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) [ النساء : 97] ، يقول العلماء : هذه الآية نزلت في قوم أسلموا وكانوا يؤدون صلاتهم ويحافظون عليها ، وكانوا صحيحي العقيدة، غير مقصرين في العبادة ، أما الإثم الذي توعدهم الله عليه بقوله : ( فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ) [النساء : 97] ، هو أنهم لم يهاجروا لله ، وآثروا بيوتهم وأموالهم على ما عند الله !!
ويأتي دور الهجرة في تغيير واقع الأمة المؤلم والمحزن في آن واحد ونضع نصب أعيننا هذه القاعدة النبوية العظيمة الجليلة : ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) .
إنها هجرة القلوب والجوارح التي يحتاج إليها اليوم كل مسلم ومسلمة.
إن الأمة المسلمة بحاجة ماسة إلى أن تهاجر إلى الله شعوبًا وحكومات، أفرادًا وجماعات !
ولا نجاة للأمة ولا فوز ولا فلاح ولا نصر ولا تمكين إلا بهذه الهجرة المباركة ( والمهاجر من هجر ما نهى الله ).
لقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة مع أن مكة أفضل وأعلى منزلة من المدينة !! وهذا يدل على أن الهجرة كان لها تعلق بمعنى آخر !
إنها هجرة من مكان ينتشر فيه الشرك إلى مكان يعلو فيه الإيمان. وهجرة من أرض المعصية إلى أرض الطاعة، وهي هجرة من مجتمع يحارب الله ورسوله إلى مجتمع يحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أيها القارئ الكريم : لقد آن الأوان أن تهاجر مع المهاجرين ، وهذا باب الهجرة مفتوح على مصراعيه، والهجرة إلى الله سنة الأنبياء والمرسلين. فلا تتردد ولا تتأخر ولا تسوّف، فإذا عزمت فتوكل على الله.
هاجر بلسانك من الكذب إلى الصدق .
وهجرة العين من النظر إلى الحرام إلى النظر إلى ما أحل الله لك.
وهجرة اليد والرجل من المعصية إلى الطاعة .
وهكذا هجرة كل جارحة بحسبها .
وأعظم هجرة في البدن هى هجرة القلب.
والقلب المهاجر إلى الله هو الذي يتعلق بالله فلا يلتفت إلى أحد سواه.
والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .