الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، والصلاة والسلام على رسوله الذي جعله الله للمؤمنين أسوة وقدوة ... وبعد .
فإن السلف الصالح كانوا يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويتواصون بالحق والصبر ، ويتناصحون ، ويخافون على أنفسهم من النفاق !
وكانوا أبعد الناس عن المنكرات والموبقات ، يفرون منها فرار الخائف من الأسد ، حياتهم طاهرة ، وقلوبهم بالإيمان عامرة ، أقاموا حياتهم على منهج الله ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) [الفتح :29] .
وهدفهم الأعلى في الحياة الاستعداد للقاء الله ! كانوا كما وصفهم الله في كتابه : ينفقون في السراء والضراء ، ويكظمون الغيظ ، ويعفون عن الناس .
يستغفرون لذنوبهم ولا يصرون على معصيتهم ، تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، يحبون من هاجر إليهم ! ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .
يحتكمون إلى الشريعة فيما شجر بينهم ، ويعفون عمن ظلمهم .
يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون !! خوفهم من الله أبكى قلوبهم فكان لها أزيز كأزيز المرجل ! وخشيتهم لله أسالت دموعهم حتى جفت مآقي العيون ، وكادت دموع الخشية أن تكون دمًا ! رهبان بالليل فرسان بالنهار .
فأين هم الآن ؟ هل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزًا ؟!
لقد أفضوا إلى ما قدموا ، وانتقلوا إلى الرفيق الأعلى ولم يخرجوا من الدنيا إلا وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه !!
ثم نقص الإيمان في القلوب شيئًا فشيئًا حتى ذهب بهاؤه من الوجوه وحلاوته من القلوب .
وأحاطت بنا خطايانا ، وأصبحنا نعيش في فتن كقطع الليل المظلم ، وكما أن الذي يعيش في الظلمات إذا أخرج يده لم يكد يراها ، فكذلك من أظلم قلبه إذا فعل فاحشة أو قارف منكرًا لم يكد يراه ! ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور .
ثم طال علينا الأمد فقست قلوبنا وتمرَّدت جوارحنا ، وأصبحنا من الذين يحادون الله ورسوله فجعلنا الله في الأذلين ! وأصبحت منكرات الأمس هي عادات اليوم !
فما كان منكرًا عند أجدادنا قد أصبح عادة عندنا ، والدليل على ذلك أمران :
الأول : أن كل مسلم لو نظر في بيته - وهذا واجب عليه - فسوف يرى أن جانبًا من عادات الأسرة اليومية هو في الأصل من المنكرات .
وثاني الأمرين : أن موقف المسلم من المنكر يختلف شرعًا عن موقفه من العادة ، وكلا الأمرين يحتاج إلى مزيد بيان .
فأما الأمر الأول وهو انتشار العادات التي أصلها منكرات ، فإن هذا أمر واقع في داخل البيت وخارجه ونحن عنه غافلون !
- فالجلوس أمام الأفلام والمسرحيات الساقطة والهابطة من المنكرات والموبقات التي يراها الناس ، عادة وتسلية ، وترفيهًا ! وهل يرى المسلم راحة نفسه، وتخفيف آلام ومتاعب بدنه في معصية ربه ؟!
- واختلاط الضيوف بأهل البيت والزيارات العائلية المختلطة بين النساء والرجال من أشد المنكرات الظاهرة، ومع هذا تراها بعض الأسر المسلمة عادة من العادات.
- وما يتخلل هذه الزيارات من مصافحة بين النساء والرجال هو أيضًا من المنكرات الظاهرة التي اعتادها الناس في حياتهم !
- ومجالس الغيبة والنميمة - خاصة بين النساء - لا يتناهى عنها المسلمون في مجالسهم، وقد عدها العلماء من الكبائر !
- وفي كل صباح يخرج كثير من الزوجات والبنات إلى الشوارع متبرجات ، والأزواج والآباء يقرُّون لهذا المنكر ، بل إنهم يشجعون عليه بدفع أموالهم لشرائه ، وقد قال الله لهم : ( وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ )[النساء :5] .
وقد يجبرون عليه بالنهي عن الحجاب الذي أمر الله به !
- والتدخين في البيوت وخارجها قد أصبح أمرًا واقعًا ، وقد ينسى المدخن صلاته وقراءته لكتاب ربه ، ولكنه لا ينسى التدخين في الأوقات التي اعتادها ، فهو ينظم الأوقات التي يفعل فيها المنكرات !
- ومن أعظم العادات خطرًا، وأشدها ضررًا: الجهل بأحكام الدين ومسائله، فإن الجاهل كالأعمى ؛ ولهذا ترى الرجل الجاهل والمرأة الجاهلة : يقضي كل منهما وقته في اللهو والعبث والوقوف أمام المرآة ، ليجمل نفسه القبيحة ، ويخرج على الناس في زينته ، وقلبه هواء !!
* وإذا انتقلنا من البيت إلى الشارع فسنجد أن أعظم المنكرات شرًّا وانتشارًا: الاختلاط في وسائل المواصلات، وهو منكر قبيح موجب لسخط الله ومقته وغضبه على هذا المجتمع.
والعجيب أن كل طبقات المجتمع قد رضيت بهذه الفواحش اليومية وأقرتها حتى أصبحت جزءًا من حياتنا ، فالعلماء لم يقوموا بما أوجب الله عليهم من البيان وعدم الكتمان !
والحكام والوزراء لم يتقوا الله في رعيتهم ويسارعوا إلى حل مشكلة يترتب عليها من المفاسد والقبائح ما الله به عليم .
والمسلمون بعامة لم يتعاونوا تعاونًا صادقًا على حل هذه المشكلة التي هي أعظم مصيبة من الزلازل والسيول وغيرهما من الكوارث !!
- وما يحدث في المؤسسات والشركات ودواوين الحكومة من اختلاط وأقوال فاحشة وكلام ساقط ورشوة مقررة ومكررة ! كل ذلك من المنكرات والموبقات التي يفعلها من يفعلها على أنها عادة وأن سلامة القلوب تجعل المعصية طاعة ! وخلو الجيوب يجعل الرشوة ضرورة !!
* وأما الأمر الثاني : وهو موقف المسلم من المنكرات التي يفعلها الناس في البيوت ووسائل المواصلات ، أو في الأعمال والوظائف ، أو الأفراح والمآتم ، فقد بينت الشريعة أن المنكر يجب تغييره مع القدرة ، فيغيره المسلم بيده إذا وقع ممن له سلطان عليه ، كحاكم ووالد وزوج وقاضٍ ومدير ونحوه ، ويغيره بلسانه مع أقرانه ومن لا يخشى منه أذى على نفسه أو ماله أو عرضه ، ويغيره بقلبه مع أهل البطش والظلم وكل من يعجز أن يغير منكرهم بلسانه.
ومن صور التغيير التي كان السلف الصالح يحرصون عليها غاية الحرص هجر مجالس المعصية امتثالاً لقوله تعالى :( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )[النساء :140] .
وقد كان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وغيره من السلف إذا دعي إلى وليمة عرس ونحوها أجاب الدعوة ، فإذا رأى منكرًا لا يقدر على تغييره رجع ولم يشارك ، وأسقط حق صاحب الدعوة ؛ لأجل هذا المنكر ، ونحن - اليوم - نجامل أصحاب المنكرات ونرضيهم بسخط الله !
ولك أن تتصور أيها القارئ الكريم ماذا يفعل صاحب الوليمة لو رأى الناس قد هجروه وقاطعوه لأجل منكره ، وصاحب السرادقات الفخمة في المآتم وقد هجره الناس لأجل بدعته ، والمجلات الخليعة والمحاربة للإسلام وقد هجرها المسلمون لما فيها من منكر القول وقبيح الأخلاق ؟!
وقس ما تركناه على ما ذكرناه فسترى أنك أنت من أهم أسباب انتشار المنكرات عندما تكون مشاركًا أو راضيًا أو ساكتًا !
وبإمكانك أن تكون سببًا في إزالتها عندما تنصح أهلها أو تهجرهم .
وعندها تكون ممن يقتدي بسلفه الصالح ويأتسي .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .