التربية بين الأصالة والتجديد
(الحلقة الثالثة)
بيانات المقال | |
السنة | 11 (1403هـ) |
العدد | 124 (ربيع الآخر) |
الصفحات | 30: 33 |
التاريخ الميلادي | 1983م |
كلنا يسمع بالصيحات تتعالى منذرة بالمشكلات الاقتصادية داعية للإصلاح وإلى مؤسسات الأمن الغذائي ومظلة التأمينات إلى غير ذلك - والمجتمع الذي عاش فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاصة في سنوات ما بعد الهجره يصل في فقره إلى درجة عجيبة من شواهدها :
(1) ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ( إنا كنا لننظر الهلال ثم الهلال ثلاثة أهله في شهرين وما يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار - قال عروة قلت يا خالة فما كان يعيشكم ؟ قالت الأسودان : التمر والماء …).
(2) روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال إني
لأول العرب رميًا بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر (1) حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط (ما له خلط بكسر الخاء أي لا يختلط بعضه ببعض من شدة جفافه وتفتته )
(3) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال والله الذي لا إله إلا
هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من شدة الجوع …)
(4) روى البخاري عنه أيضًا أن سائلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
عن الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ( أو لكلكم ثوبان ) ؟.
تأمل هذه الحياة العجيبة في فقرها من تلك العبارات اليسيرة فماذا أحدثت دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذا المجتمع لقد بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في عالم أصيب بزلزال شديد هزه هزًا عنيفًا حتى أصبح كل شيء في غير محلة - رأى الإنسان وقد هانت عليه انسانيته فأخذ يسجد للحجر والشجر والشمس والقمر وما لا ينفع ولا يضر - رأى أنفسا فسدت حتى أنها ترى المر عذبًا والخبيث طيبًا - رأى المجتمع يكره الصديق الناصح ويحب العدو الظالم - رأى مجتمعًا أصبح الذئب فيه راعيًا والخصم الجائر قاضيًا - المجرم فيه سعيدًا حظيًا والصالح محرومًا شقيًا - المعروف فيه منكرًا والمنكر معروفًا شرب الخمر ضياع للعقول والأبدان - الخلاعة والفجور إلى حد ضياع الأنساب - فساد في كل مناحي الحياة لا يكفيه أجيال من المصلحين - لكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يكن مصلحًا كعامة المصلحين يعالج معايب اجتماعية أو خلقية أو اقتصادية أو سياسية. بل قد أتى البيت من بابه ووضع على القفل مفتاحه فانحلت تلك العقد التي أعيت جميع المصلحين - دعا الناس فقال : ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) فلما انحلت عقدة الشرك تلتها جميع العقد تنحل سهلة ميسورة.
شهادات الأجانب لما قام الرسول - صلى الله عليه وسلم- (2)
قال موير ( لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالا منه وقت ظهور محمد ولا نعلم نجاحا تم كالذي تركه عند وفاته.
وتقول دائرة المعارف البريطانية ( لقد صادف محمد النجاح الذي لم ينل مثله نبي ولا مصلح ديني في زمن من الأزمنة.
ويقول يوزوت أسمث ( إن محمدًا أعظم المصلحين على الإطلاق دون منازع ).
ويقول هيل إن جميع الدعوات الدينية قد تركت أثرًا في تاريخ البشر وكل رجال الدعوة والأنبياء قد أثروا تأثيرًا عميقًا في حضارة عصرهم وأقوامهم ولكنا لا نعرف في التاريخ أن دينا أنتشر بهذه السرعة وغير العالم بأثره المباشر كما فعل الإسلام ولا نعرف في التاريخ دعوة كان صاحبها سيدًا مالكًا لزمانة ولقومه كما كان محمد. لقد أخرج أمة إلى الوجود ومكن لعبادة الله في الأرض وفتحها لرسالة الطهر والفضيلة ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية بين المؤمنين وأصل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى )
من صور التحول العجيب
* عمر بن الخطاب كان في جاهليته رجلاً قبلي الفكر والطبيعة والعاطفة محدود الإدراك همه السكر واللهو حتى يقال عنه ( والله لا يؤمن حتى يؤمن حمار خطاب )
يصبح بعد الإسلام عمر العبقري الفذ قائد الدولة رمز العدل، لا يكون إلا ومعه الحزم والرحمة وسعة الأفق وصدق العزيمة وحسن الفراسة حتى يملأ أسماع الدنيا وأبصارها بالآثار الحسنة والطيبة.
* عبد الله بن مسعود راعى الإبل المحتقر المهان في قريش لا يجيد إلا خدمة سيده نحيل الجسم قصير القامة، دقيق الساقين - يصبح بعد الإسلام رجل الفقه والرأى يقول عنه عمر لأهل الكوفة : لقد آثرتكم بعبد الله على نفسي.
* خالد بن الوليد رجل العصابات في الجاهلية - فارس يستعين به رؤساء قريش في المعارك القبلية فينال ثقتهم وثناءهم - يصبح بعد الإسلام سيف الله المسلول الذي إذا خرج من غمده لم يعد إلا والنصر معه - ينزل على الروم كالصاعقة يترك ذكرًا خالدًا في التاريخ.
*سلمان الفارسي كان أبوه رئيسًا للدين المجوسي وكان هو الذي يوقد النار التي يعبدونها ثم ينتقل من رق إلى رق ومن قسوة إلى قسوة ثم بعد الإسلام يطلع على العالم كحاكم لعاصمة الأمبراطورية الفارسية التي كان بالأمس أحد رعاياها المغمورين. وهذا لا يغير من زهادته وتقشفه بل يراه الناس يسكن كوخًا ويحمل الأثقال على رأسه.
من الجاهلية إلى الإسلام
كان المجتمع الذي بعث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم- مثل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع. لا يخضون لسلطان ولا يقرون بنظام ولا ينخرطون في سلك. يسيرون على الأهواء ويركبون العمياء ويخبطون خبط عشواء.
فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها واعترفوا لله بالملك والسلطان والأمر والنهي. ولأنفسهم بالعبودية والطاعة المطلقة. وأعطوا من أنفسهم القياد واستسلموا للحكم الإلهي استسلامًا كاملاً. تنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم وأصبحوا عبيدًا لله لا يفعلون إلا ما يرضي مالكهم وسيدهم.
لقد كان هذا التغيير الذي أحدثه النبي - صلى الله عليه وسلم- في نفوس المسلمين أغرب ما في التاريخ - كان غريبًا في سرعته وعمقه وسعته وشموله ووضوحه وسهولة فهمه.
إذن فما هو طريق الإصلاح والتربية الذي اتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم- ؟.
للبحث بقية إن شاء الله.
(1) الحبلة بضم الحاء وسكون الباء والسمر بفتح السين المشددة وضم الميم نوعان من الشجر معروفان بالبادية.
(2) عن كتاب الرسول للأستاذ سعيد حوى.