الحمد لله وكفى .. وسلامًا على عباده الذين اصطفى... وبعد نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته فإذا قومه يعبدون أصنامًا لا تضر ولا تنفع، فاختار لنفسه أن يعتزل الضلال وأهله فكان يمكث الليالي الطويلة بغار حراء يناجي ربه ويتعرف على خالقه .. وبينما هو على ذلك إذ جاءه الحق من ربه ونزل عليه جبريل بأول كلمات القرآن نزولا وهي قوله تعالى من سورة العلق «اقرأ باسم ربك الذي خلق» الخ الآيات، والذي يتدبر هذه السورة يجد أنه ما من شيء فيه سعادة البشر أو شقوتهم في الحياة الدنيا ألا وقد أحاطتنا به علما! ومن أراد لنفسه النجاة فعليه بهذه السورة فهمًا وتطبيقا.
والآن تعال نتدبر هذه السورة – كما أمرنا القرآن- في ألفاظها الظاهرة ومضمونها الجليل. تبدأ السورة بقوله تعالى «اقرأ» وهذه أول كلمات القرآن نزولا. وهي تشتمل على دعوة صريحة إلى العلم النافع بصورة عامة .. وأفضل العلوم وأشرفها ما كانت ثمرته معرفة الخالق وتوحيده «فاعلم أنه لا إله إلا الله» وعلوم الدين يعيش المؤمن في ظلها بمأمن من مكايد الشيطان. وكلمة «اقرأ» تدل دلالة واضحة على أن المدخل الصحيح للإيمان يكون بالعلم والقراءة. فعلى المسلم أن يقرأ القرآن ويتدبره ويقرأ السنة الصحيحة ويفهمها حتى يكون إيمانه على يقين ومعرفة.. وقراءة القرآن وفهمه وتطبيقه هو وسيلة النجاة ووسيلة الترقي في درجات الجنة! يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارق فان منزلتك في الجنة عند آخر آية كنت تقرؤها في الدنيا».
ثم ترد السورة الإنسان إلى مصدر هذا العلم وواهبه وهو الحق جل وعلا حتى لا يعتز بعلمه فيكون ذلك وبالا عليه «اقرأ باسم ربك الذي خلق» أي أنك لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك أكن بحول ربك وإعانته فهو يعلمك كما خلقك من عدم ولم تك شيئا..
والإنسان في هذه الحياة يصيبه في كثير من الأحايين غرور وإعجاب ينسى معه أصله وبدايته فيتعالى على خلق الله وينال منهم بقدر ما أصابه من الغرور والكبر حتى أن بعضهم يتمايل يمينًا ويسارا إذا ما لبس حذاء جديدًا ذا طبيعة خاصة وكأنه استمد من نعانه شرفا في نسبه وعراقه في أصله! أنه الكبر الذي يملأ صدور أقوام فيعيشون وهم يرون خلق الله دونهم شرفًا ومكانة! وتأتي أول كلمات الوحي لتذكر البشر بأصلهم الذي منه بدءوا «خلق الإنسان من علق» ثم تؤكد السورة مرة أخرى على القراءة «اقرأ وربك الأكرم» حتى لا يفهم البعض- كما هو حادث الآن- أن القراءة هواية تؤتى وتترك! وهذه هي المأساة التي يعيشها المسلمون اليوم، وأصبح بسببها المسلم يؤمن بكتاب يجهله! فهو لا يعرف من القرآن إلا رسمه. أما الأوائل الذين نزل فيهم القرآن فيد عاشوا حياتهم له وبه قراءة وحفظًا وفهمًا وتدبرا وتطبيقا..
ثم تشير الآيات بعد ذلك إلى أن للعلم وسائل يجب أن تلتمس فهو ليس علمًا لدنيا كما يدعى المتصوفة ولكنه علم مسبوق بأسباب تحصيله «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون». ولذلك جاءت الآيات مشيرة إلى تلك الوسائل في قوله سبحانه «الذي علم بالقلم».
وقد ينسى الإنسان- إذا ما اجتمعت له أسباب العلم ووسائله- أن الله هو الذي وهب هذا العلم.. والعلم وحده فناء ووبال إذا خلا من تقوى تلازمه وتصاحبه.. ولذلك يذكر القرآن في مبتدأ نزوله بتلك الحقيقة «علم الإنسان ما لم يعلم»..
وتنتقل آيات السورة الأولى وهي ترسم منهج الحياة للبشر لتتحدث عن صفة ذميمة من صفات البشر.. هي صفة الطغيان «كلا أن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى».
وإنك لتعجب من هذا الإنسان .. يستغني عن خالقه ويتنكر له عندما يشمله بنعمه ويسبغها عليه ظاهرة وباطنة !! ويضرع إليه متوسلا ذليلا إذا مسه الضر ونالت منه الشدائد !! فهو حينما يعطيه الله المال يبغي في الأرض بغير الحق ويصبح عبدًا لماله فلا يؤدي حق الله فيه،ن وينسى أن هذا المال ابتلاء وفتنة وإنه إذا مات ترك ماله كله ثم يسأل عنه كله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه ؟!.
وإذا أعطاه الله الصحة .. طغى وتجبر وظلم الخلق وقد نسى أن الظلم ظلمات يوم القيامة .. وقبل ذلك قد نسى أن الذي أعطاه الصحة قادر على أن يسلبها منه «قل أرأيتم إن أخذا الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم. من إله غير الله يأتيكم به؟».
وإذا أعطاه الله الولد ترك ذريته دون تربية صحيحة على هدى من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ونسى أن الله سائله يوم القيامة عما استرعى حفظ أم ضيع ؟!
وقل مثل ذلك في كل نعمة يعطيها الخالق لعباده فتقودهم إلى الطغيان- إلا من رحم ربك- وأما إذا ما ابتلاه الله بمصيبة في مال أو صحة أو ولد فإنه يضرع إلى ربه بدعاء عريض !! ومهما طغى الإنسان.. وبعد عن طريق الاستقامة واستجاب لوساوس الشيطان ونداء الهوى .. فإن له يومًا يرجع فيه إلى ربه ويوقف بين يديه ويسأل عما قدم «إن إلى ربك الرجعى» فإليه سبحانه المرجع والمآب.. وإذا أدرك الإنسان هذه الحقيقة فإنه سيسعى للآخرة سعيها حتى يلقي ربه بصالح العمل «فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى».