الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله … وبعد :
فإن الله عز وجل قد خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، وأسكنه جنَّته، وأحل له أشجارها وثمارها، ونعيمها إلا شجرة واحدة !
ولما نفخ الله الروح في آدم كان أول شيء حدث لآدم أنه عطس، وأول كلمة نطق بها لسانه: الحمد لله !
إنه إقرار منذ اللحظة الأولى بالحقيقة الأولى. إقرار بوجود الله، واعتراف بأنه وحده المستحق للحمد والثناء؛ أي: إفراد الله بالعبادة؛ وهذا هو التوحيد الذي أراده الله من عباده ! وعاش آدم عليه السلام جزءًا من حياته في الجنة مؤمنًا موحدًا، وأكمل بقية حياته في الأرض مؤمنًا موحدًا؛ بعد أن وسوس إليه الشيطان؛ فأكل من الشجرة، فأهبطه الله إلى الأرض.
لم يكن آدم عليه السلام يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا ، ولم تعرف البشرية في عصورها الأولى شركًا ولا كفرًا؛ وعمرت الأرض بالتوحيد دهورًا متعاقبة وعصورًا متلاحقة؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التوحيد ) … ثم جاءت الشياطين إلى الناس فاجتالتهم عن دينهم وزينت لهم الشرك ، فاستحسنوه وأقاموا عليه مدة من الزمن فأرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين وأقام بهم الحجة على عباده، وانقسم الناس إلى مؤمن وكافر .
وتتابع الرسل بقدر حاجة البشرية إليهم إلى أن أذن الله بإرسال رسوله المصطفى ونبيه المجتبى -صلى الله عليه وسلم- ، فوجد الناس في جاهلية وشر ؛ وقد فشا فيهم الشرك والوثنية وانتشر فيهم الظلم وفساد الأخلاق … فلما دعاهم إلى الله وأمرهم بتوحيده تعجبوا من مقولته وأنكروا دعوته وقالوا : ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ ص: 5] أي: عجيب ؟!! … ليس في آبائنا ولا مجتمعنا .
ثم أتبعوا ذلك بقولهم: ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ) [ ص: 7] أي: لم نسمع هذا من النصارى .. ولا من اليهود؛ لأن كلاهما كان وما زال مقيمًا على الشرك.
واستمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دعوته متوكلاً على الله غير ملتفت إلى مكر الماكرين وكيد الكائدين ؛ حتى بزغ فجر الإسلام وطلعت شمسه وانتشر نوره حتى أنار الطريق لكل سالك ، ودخل الناس في دين الله أفواجًا ، وقامت للإسلام دولة قوية ، وعاش المسلمون في عصر النبوة حياة التوحيد الخالص لله، والعدل والإنصاف وطاعة الله ورسوله، والعزة والكرامة والهيبة في قلوب الأعداء .
وقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته من البدعة في مثل قوله : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) كما أمر الأمة باتباع السنة في مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) .
وأقامت الأمة على هذا المنهج الرباني طيلة القرون الثلاثة الفاضلة ، والتي أخبر عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يُؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السِّمَن ) .
وفي أوائل القرن الثاني ظهر أربعة أشخاص من رواد المذاهب المنحرفة في فهم العقائد الإسلام وهم : واصل بن عطاء ( ت : 131 هـ ) مؤسس مذهب الاعتزال ، والجعد بن درهم ( ت : 124هـ ) وهو أول من أنكر كلام الله عز وجل وصفاته ، والجهم بن صفوان (ت : 128 هـ ) وقد خلف الجعد في دعوته، ومقاتل بن سليمان ( ت : 150 هـ) وهو مؤسس مذهب المشبهة، كما قال أبو حنيفة رحمه الله: ( أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه ) (1) .
كما ظهرت الصوفية واشتهرت بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة ، وهكذا انتشرت الجاهلية بصور جديدة ومختلفة واتسعت بمرور الوقت بحيث يمكن للمتأمل أن يحصرها في صور أربع : أولها : جاهلية التصوف ، والثاني: جاهلية علم الكلام ، ثالثها : جاهلية التعصب المذهبي، وآخر هذه الصور : جاهلية الحاكمية ؛ أي : الحكم بغير ما أنزل الله .
وقد قامت هذه الجاهليات بدور خطير في إفساد عقيدة المسلمين، وتشويه صورتها، وإدخال الشوائب عليها، ومع هذا فقد تفاوت أثرها وضررها.
وقد تراجعت بعض هذا الجاهليات وانحسرت ؛ كجاهلية علم الكلام ، وجاهلية التعصب المذهبي، وانتشر في العالم الإسلامي اليوم جاهليتان كبيرتان : أولاهما جاهلية الصوفية ، والأخرى جاهلية الحاكمية.
فأما جاهلية الحاكمية؛ فقد أصبح الحكم بغير ما أنزل الله هو مذهب جميع حكام المسلمين إلا قليلاً منهم ، وهذا القليل يحكم بما أنزل الله أو ببعض ما أنزل الله !!
وأما جاهلية الصوفية ؛ فقد حذرت منها أقلام كثيرة في كتب ومقالات وأبحاث ورسالات ؛ وكان من أهم مَن كتب في ذلك : ابن الجوزي في كتابه القيم ( تلبيس إبليس ) ، وكذلك برهان الدين البقاعي في كتابه ( تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي ) .
وقد كتب فضيلة الشيخ محمد بن أمان الجامي في بحثه النفيس بعنوان ( التصور من صور الجاهلية ) تنبيهًا مهمًّا على جانب من جوانب الضلال عند الصوفية ؛ وهي الألقاب التي يستعملها الصوفية كمراتب ودرجات للأولياء بزعمهم الكاذب الذي لا دليل عليه ، فذكر أنها ست مراتب مشهورة عندهم، وهي أسماء وهمية، وصفات خرافية صنعوها لأنفسهم فصدَّقها العوام والبسطاء، وارتعدت لها فرائصهم، وأنكرها العلماء وتصدى لها الدعاة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأول هذه المراتب.
· الغوث أو الغوث الأعظم ؛ وهو واحد لا يتعدد، ويزعم الصوفية أن هذا الغوث هو الذي يغيث العباد ، أو أن الله لا يغيث العباد إلا بواسطته !! ولخطورة هذا المنصب فإن الطرق الصوفية تدعيه لشيوخها، وتزعم كل طريقة أن شيخها هو الغوث، وما زال الصراع قائمًا !!
· وأما المرتبة الثانية: القطب أو الأقطاب؛ ولا يزيد عددهم عن سبعة وبعضهم يقول أربعة؛ وهم عند الصوفية يتصرفون في الكون ويغيثون الملهوف تحت إشراف الغوث !!
· والثالثة: الأوتاد؛ وعددهم أربعة أو ثلاثة؛ ولو مات هؤلاء الأوتاد جميعًا لفسدت الأرض، واختل نظام الحياة في زعم الصوفية ! ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف: 5].
· ورابع المراتب: الأبدال؛ وعددهم (40) بدلاً ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) [ الكهف: 50] وهم موزعون على النحو الآتي : (22) في الشام ، و(18) في العراق ، وفي مصر : لا شيء !!؟
· والمرتبة الخامسة : النجباء ؛ وعددهم (70) كلهم في مصر !! وهم -بافتراء الصوفية- يحملون عن الخلق أثقالهم !
· والسادسة : النقباء؛ وعددهم (300) وقيل: (500)؛ وهم الذين يستخرجون خبايا الأرض!!
وأخيرًا : فإن العقيدة الإسلامية بحاجة إلى جيش من الدعاة منتشر في ربوع الأرض؛ يصحح المفاهيم الخاطئة، ويصفي العقيدة وينقي الشوائب العالقة بها، ويزيل اللبس والغموض الذي يكتنفها .
وجماعة أنصار السنة المحمدية أحق بهذه الدعوة وأهلها وعلى عاتقها تقع هذه المسئولية الجسيمة.
فيا دعاة أنصار السنة ! قوموا بواجبكم ؛ وأدوا أمانة الدعوة إلى الله . وإذا كان أهل الدنيا يتنافسون على حطامها ، فينبغي عليكم أن تكونوا المسارعين المتنافسين السابقين إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
(1) راجع مجلة ( البحوث الإسلامية ) ( ج12 / ص259) .