قال تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحنُ نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم مالا تعلمون } [ البقرة : 30].
قد يعترى العبد غرور يظن معه أنه من أوتاد الأرض التي لو زالت لاهتزت الأرض أو فقدت توازنها وقد يظن أن الكون في حاجة إلى وجوده وبقائه وهذا الغرور هو الذي يورث العبد فساد السلوك وسوء العمل . ولا شك أنه إن كن من الصالحين فلقد مضى على الأرض الكثير من أمثاله من هو خير منه وإن كان من أهل الطغيان والجبروت فلقد مضى من نظائره من هو أشد منه وأنكى قال تعالى : { أولم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } .
وإن أفضل ما يهدى العبدُ ويطفىء ذلك الغرور أن يتدبر في الآية الكريمة من قول الملائكة : {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فيعلم العبد أن الأرض وقبل أن يوجد عليها من البشر أحد والملائكة يقولون الأرض عنه مستغنية ويعللون ذلك بعلتين :
الأولى : أن وجوده مصدر ضُرٍ حيث إنه يفسد فيها ويسفك الدماء ومعلوم قطعاً أن المقصود بذلك ليس هو آدم إنما المقصود أن من ذريته من يفعل ذلك .
الثاني : أن الوظيفة التي من أجلها خلق الإنسان ليست شاغرة بل هناك من يقوم بها خير قيام فيقولون ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك لأن الوظيفة التي من أجلها خلقوا هى الموضحة فى قوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } [ الذرايات : 56- 58 ] .
فليشعر العبد أنه مزهود في وجوده قبل خلقه فالكون مستغن عنه حتى الولد حتى الزوج الكل مستغن عنه فالله تعالى يقول : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } [الأنعام : 151] .
{ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيراً }[الإسراء:31].
وكذلك الزوجات يقول الله تعالى: { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً}[النساء: 130].
بل وكذلك النبات{ أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [ الواقعة : 63-64].
وانظر بتأمل وتدبر كيف أنشأ الله سبحانه إسماعيل عليه السلام وأحياء مع أمه وتكفل الله بهما مستجيباً لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } [ إبراهيم : 37] .
والله يمتن على أهل مكة وهم في بلد لا زرع فيها ولكن الله { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } [ قريش : 5] .
وانظر بتأمل وتدبر كيف أن الله يرزق مريم في ضعفها ومخاضها من النخلة في صلابة جذعها وارتفاع ثمرها : { فناداها من تحتها ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلى واشربى وقرى عينا } [ مريم : 24- 25 ] .
ويبقى السؤال فمن إذا الحريص على وجود العبد وحياته إذا كان كل من حوله مستغن عنه ؟ والجواب: إن الحريص على حياة العبد هو العبد نفسه.
والجواب في قول عائشة: يا رسول الله كلنا يكره الموت...
وآيات القرآن تذكر في مواضع متعددة لئن حرص الناس على الحياة { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } [ البقرة: 243 ]. يقول سبحانه { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } [ الجمعة : 8 ] . كل هذا وغيره كثير يدل على حرص العبد على الحياة وحقوقه من الموت وفراره منه حتى أن العبد إذا اقترب منه أذى هرب منه حرصاً على الحياة وهرباً من الموت.
عندئذ تعلم أيها العبد أنك مزهود في وجودك في الحياة فيدفعك ذلك إلى الإحسان في عملك فلا يعقل أن يجتمع فيك زهد في وجودك وسوء في عملك وأنت تعلم أن الذي خلقك قادر عليك محيط بك .
إذا عرفت ذلك فاعل أيضاً أنك مطالب بدين كبير يتراكم وأنت مكلف بسداده فليست الحياة هملاً وعبثاً ففي الصحيحين عن أبي هريرة يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس " وفى حديث عائشة عن مسلم " خلق الله ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر الله وهلل الله وسبح الله وعزل حجراً عن طريق المسلمين أو عزل شوكة أو عزل عظماً أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة أمسى من يومه وقد زحزح نفسه عن النار " .
وفى رواية بريدة عند أحمد " في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه صدقة " .
إذا أيقنت بذلك أيها العبد المسلم دفعك ذلك إلى الخيرات دفعاً وحثك أن تجتنب السيئات حثاً. فلا تستصغر تفعلها لأنك منشغل بسداد ما عليك من الصدقات فكيف بد تزيد أوزار والسيئات. ولا تستهن بالحسنة تتركها لأنك تحتاج في سدادها لدينك عن أعضائك حتى لا تتراكم مع مر الأيام تلك الديون فتلقى الله بدين عريض والله سبحانه وتعالى يزن الأعمال يوم القيامة .
إذا استشعر العبد ذلك صار على الطاعات حريصاً فريضة كانت أو نافلة فهو يعمل السنن ويحرص عليها فضلاً عن الفرائض وهو يحذر المكروهات ويخاف منها فضلاً عن المحرمات.
والله الهادي إلى سواء الصراط