الحمد للَّه وحده ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه.. وبعد:
فإن الخوف عارض يصيب البشر وكثيرًا من المخلوقات ، لكنه داخل في التكليف للمكلَّفين ؛ لذا جاء الأمر به والنهي عنه . قال تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175 ] .
والخوف : منه ما هو فطري ؛ كالخوف من اللص ، أو من المرض ، أو الخوف من سلطان غاشم ، أو حاكم ظالم ، أو الخوف من الثعبان والسبع والكلب العقور ، أو الخوف من غضب الوالدين ، أو من ضياع المال . وبالجملة فالخوف الفطري خوف سببي ؛ أي تخاف الثعبان أن يلدغك ، أو اللص أن يسرقك ، أو السلطان الغاشم أن يظلمك ، أو من الوالد إذا غضب أن تُحرم حنانه أو تنال عقابه ، ومنه خوفك على ولدك أو مريضك ، وغير ذلك .
ومنه الخوف التعبدي ؛ وهو الخوف من اللَّه عند أهل التوحيد ، ومنه الخوف من الأصنام والمقبورين ، وكل ما عُبد من دون اللَّه تعالى .
وسمة الخوف التعبدي أنه خوف سر ، وأنه يجتمع مع الحب في آنٍ واحد ، بينما الخوف الفطري خوف سببي لا يجتمع مع الحب، بل غالبـًا ما يجتمع مع البغض ، فإن من خاف من اللص أو الثعبان أو الكلب أو السلطان الغاشم ، فإنه يكرهه ولا يحبه ، حتى الذي يخاف من غضب والديه لا يحب لهما ذلك الغضب ويجتنب أن يغضبهما ، أما المشرك فإنه يدعو معبوده خوفـًا وطمعـًا ، وينذر إليه محبة له وخوفـًا من شره .
والمشركون يزعمون أن لأوليائهم سرًّا يخيفون الناس من هذا السر ، كما يخاف المؤمنون من اللَّه سبحانه : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 81 ] .
الخوف التعبدي لا يجوز أن يصرف منه شيء لغير اللَّه سبحانه ، واللَّه سبحانه يظهر للناس من آياته وآثار قدرته ليخافوه ، فيدفعهم ذلك الخوف لاجتناب المعاصي ولزوم الطاعات!!
الخوف الفطري خوفٌ سببيٌ لا يجتمع مع الحب ، بل غالبـًا ما يجتمع مع البغض ، والمشرك يدعو معبوده خوفـًا وطمعـًا ، وينذر إليه محبة له وخوفـًا من شره !!
لذا كان الخوف من المقبور شركـًا ، والخوف من اللَّه توحيدًا ، والخوف الفطري لا يدخل فيهما ، فمن الخوف الفطري ما كان من الأنبياء ، حيث قال يعقوب - عليه السلام - : {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [ يوسف : 13 ] ، وقال زكريا - عليه السلام - : {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا } [ مريم :5 ] ، وقال سبحانه عن موسى : {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 18 ] ، وقال : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [ القصص : 21 ] ، فخوف يعقوب - عليه السلام - على ولده ، وخوف زكريا - عليه السلام - على أهله ، وخوف موسى - عليه السلام - على نفسه ، كل ذلك من الخوف الفطري ، فلم يقل لهم رب العالمين هذا شرك .
إلا أن الخوف الفطري يروضه الإيمان ، فهذا نبي اللَّه وكليمه موسى - عليه السلام - يُولد في خيفة ، تخاف أمه عليه ، ويُربى في خيفة ، ويخرج من مصر خائفـًا يترقب ، فلما عاد ورأى النار فجاءها، فأمره ربه فألقى عصاه ، فانقلبت حية ، فخاف وولى مدبرًا ولم يعقب حتى طمأنه اللَّه سبحانه ، فكان هذا أول تجارب الإيمان التي روضت الخوف عنده ، فلما أمره ربه أن يذهب إلى فرعون ، عبر عما كان في نفسه بقوله : { رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه : 44، 45 ] ، وقال سبحانه:{ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ* وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ } [الشعراء : 12- 15 ] ، وأوصاه رب العزة سبحانه : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } [ القصص : 32 ] .
يقول ابن كثير : أمره - عليه السلام - إذا خاف من شيء أن يضمم إليه جناحه من الرهب ، وهو يده ، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف .
فلما ذهب إلى فرعون فأمره ونهاه ، وفعل ما أمره ربه زال عنه ذلك الخوف . وذكر ابن كثير عن مجاهد قال : كان موسى - عليه السلام - قد ملئ قلبه رعبـًا من فرعون ، فكان إذا رآه قال : اللهم إني أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شره ، فنزع اللَّه ما كان في قلب موسى - عليه السلام - ، وجعله في قلب فرعون ، فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار.اهـ .
فكان الإيمان مروضـًا للخوف الفطري ، حتى اجتمع موسى – - عليه السلام - - بسحرة فرعون ، ووعظهم وذكرهم ، فلما ألقوا حبالهم وعصيهم ، وخُيل إليه من سحرهم أنها تسعى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى } [ طه : 67، 68 ] ، فلم يظهر من الخوف شيء ، وإن كان قد أوجس الخوف في نفسه ، حتى إذا كان الإيمان والطمأنينة قد عمرت قلبه، وعاين من أمر اللَّه سبحانه ما رفع اللَّه به ذلك الخوف الفطري ، فإذا به في موقف عصيب شديد ، حيث خرج موسى - عليه السلام - بقومه ، فلما بلغوا البحر فنظر القوم ، فإذا فرعون بجنده خلفهم والبحر أمامهم ، فاشتد بهم الخوف : {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء : 61، 62 ] .
فتدبر كيف أن الخوف الفطري لم يظهر له أثر ، وحل محله طمأنينة الإيمان لمعية الرحمن ، وكذلك الخوف الفطري يروضه الإيمان حتى لا يظهر له أثر .
فالخوف التعبدي لا يجوز أن يصرف منه شيء لغير اللَّه سبحانه ، واللَّه سبحانه يظهر للناس من آياته وآثار قدرته ليخافوه ، فيدفعهم ذلك الخوف لاجتناب المعاصي ولزوم الطاعات ، كما قال تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا } [ الإسراء : 59 ] .
ولقد حدث في أيام قريبة مضت كسوف الشمس ، وقامت وسائل الإعلام بتعريف الناس به وتخويفهم منه ، حتى خلت الشوارع والطرقات وسائر المواصلات من الناس ، ولزموا البيوت، فخافوا الخوف الفطري ، فهل أحدث ذلك ( الأثر الشرعي ) بالخوف من اللَّه الذي أرسل هذه الآية ، فلو حدث ذلك ، فهو سبحانه يقول : {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 20، 21 ] ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه ، لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتموهما فصلوا حتى تنجلي )) . أَم خرج الناس كخروج فرعون وقومه ، حيث قال تعالى :{ وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [الزخرف : 48- 50 ] .
فالخوف التعبدي هو ما يدفع العبد إلى لزوم شرع اللَّه سبحانه ، والقدر من الخوف الذي يحمل على أداء الفرائض وترك المحارم هو الخوف الواجب ، فإن زاد ذلك الخوف حتى جعل صاحبه يشمر لفعل النوافل واجتناب المكروهات ، وعدم التوسع في المباحات ، كان ذلك الخوف مندوبـًا إليه ، محمودًا عند خالقه ، فإن زاد حتى قطع صاحبه عن السعي والكسب كان ذلك غلوًّا فاسدًا وفهمـًا سقيمـًا وسلوكـًا خاطئـًا .ولذا يقول ابن رجب : إن اللَّه خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه ، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال ، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال ؛ ولهذا كرر سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار ، وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال ، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال ، إلى غير ذلك مما فيه من العظائم والأهوال ، ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه ، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه ، فمن تأمل الكتاب الكريم وأدار فكره فيه ، وجد من ذلك العجب العجاب . اهـ .
وهذا هو الخوف الذي أَمَر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الترمذي ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة اللَّه غالية ، ألا إن سلعة اللَّه الجنة )) .
ولقد خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة الكسوف خطبة بليغة فيها مخاوف كثيرة، جاء فيها : يا أمة محمد ، واللَّه ما أحد أغير من اللَّه أن يزني عبده أو أن تزني أمته، يا أمة محمد ، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا ، ولقد رأيت جهنم يَحْطِم بعضها بعضـًا ، فلم أر منظرًا قط أفظع منها . ولقد رأيت عمرو بن لُحَيٍّ يجر قُصْبَه في النار ، وهو الذي سيب السوائب ، ورأيت صاحبة الهرة التي ربطتها حتى ماتت جوعـًا؛ رأيتها تنهشها إذا أقبلت وإذا ولت تنهش إليتها ، وإنكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال ، يقال : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن فيقول : هو محمد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، جاءنا بالبينات والهدى فأجبناه وآمنا به واتبعناه ، فيقال : نم صالحـًا ، وإن كنت لموقنـًا به. وأما المنافق فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون قولاً فقلت كما يقولون ، وإنه - واللَّه أعلم - لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابـًا ، آخرهم الأعور الدجال ، ممسوح العين اليسرى ، يزعم أنه اللَّه ، فمن آمن به وصدقه واتبعه لم ينفعه صالح من عمله سلف ، وإنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس ، فيزلزلون زلزالاً شديدًا ، ثم يهلكه اللَّه عز وجل .
هذا ، والآيات تمر علينا كل لحظة في أنفسنا وفيما حولنا ، فالناجي من خاف ربه ، فتاب من ذنبه ورجع إلى مولاه ، والخاسر من ألقى الأماني .
وكذلك ينبغي أن ننبه على الخوف التعبدي ألا يُصرف إلاَّ للَّه سبحانه ، ولا ينبغي للوعاظ والدعاة أن يخلطوا بين الخوف الفطري والخوف التعبدي .
واللَّه من وراء القصد .