الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من أوجب الله على الخلق محبته وتوقيره وإعلاء شأنه وبعد:
فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية كتابًا قيمًا سماه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ، ألفه شيخ الإسلام بعد حادث وقع في أيامه ، فرأى أن أدنى ما للرسول - صلى الله عليه وسلم - من حق أن يذكر شرع الله في عقوبة الساب إن كان مسلمًا أو كافرًا ، والكتاب جمع فيه الأدلة من القرآن والسنة وأقوال الصحابة والأئمة ، وذكر من القياس ما يدلل ويعلل به الأحكام التي وصل إليها ، والكتاب فريد في بابه ، عظيم في نظمه ، بسط الأمر فأغنى عن كثير من جهود غيره ، فما أحوجنا اليوم في عصر كثرت فيه الفتن ، وانتهكت المحارم ، إلى تدبر وتدارس ونشر ذلك الكتاب بين الناس وتعلمه وتعليمه .
فمن عبارات الكتاب ؛ يقول شيخ الإسلام : حدثنا أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا : كنا نحن نحصر الحصون أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر ، وهو ممتنع علينا ، حتى نكاد نيأس ، إذ تعرض أهله لسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والوقيعة في عرضه ، فعجلنا فتحه وتيسر ، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك ، ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيه ملحمة عظيمة ، قالوا : حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوه فيه .
وقد جاء في أول الكتاب قوله : إن من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله ، هذا مذهب عامة أهل العلم ، ثم أخذ في سرد القائلين بهذا الحكم من أهل العلم ، يؤيد بذلك أن الأمة أجمعت على قتل من تنقص النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين ، وأنه يكفر بذلك ، أما هذا الساب أو المنتقص له - صلى الله عليه وسلم - إن كان ذميًا فجمهور أهل العلم على قتله وانتقاض عهده ، ثم أخذ شيخ الإسلام ، رحمه الله ، في سرد الأدلة ذكر منها :
أولاً أدلة من القرآن الكريم:
جاء فيها بآيات من القرآن بسطها وشرحها ، كان منها آيات سورة (التوبة) التي جاء فيها : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ(12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(13)قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(14)وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) [التوبة : 12 - 15] ، وقوله تعالى :( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ) [ التوبة :29] ، وقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ) [ التوبة :63] .
وذكر الكثير من آيات القرآن ، وبسط موضع الشاهد في كل موقع مع ذكر فوائد جليلة، ثمانتقل الشيخ ، رحمه الله تعالى ، لذكر الأدلة من السنة على ذلك ؛ كان منها :
أولاً : حديث الشعبي عن علي أن يهودية كانت تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتقع فيه ، فخنقها رجل حتى ماتت ، فأهدر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - دمها ، والحديث رواه أبو داود .
ثانيًا :حديث أبي داود والنسائي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن أعمى كانت له أم ولد (1) تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه ، فينهاها ويزجرها ، فلا تنتهي ولا تنزجر، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشتمه ، فوضع المعول في بطنها واتكأ عليه حتى قتلها ، فلما بلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال : (ألا اشهدوا أن دمها هدر) .
ثالثًا :حديث البخاري ومسلم في قصة كعب بن الأشرف الذي كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقتله محمد بن مسلمة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
رابعًا : حديث علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، مرفوعًا : (من سب نبينًا قُتل ، ومن سب أصحابه جُلد) (2) .
خامسًا :حديث أبي داود عن أبي برزة قال : كنت عند أبي بكر ، رضي الله عنه ، فتغيظ على رجل ، فاشتد عليه ، فقلت : ائذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه ، قال : فأذهبت كلمتي غضبه ، فقام فدخل فأرسل إليَّ فقال : ما الذي قلت آنفًا ؟ قلت : ائذن لي أضرب عنقه، فقال : أكنت فاعلاً لو أمرتك ؟ قلت: نعم، قال : لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
سادسًا : قصة العصماء بنت مروان - امرأة من خطمة هَجَت النبي - صلى الله عليه وسلم - - فقال : (من لي بها ؟) . فقال رجل من قومها : أنا يا رسول الله ، فنهض فقتلها ، فأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال : (لا ينتطح فيها عنزان) .
سابعًا : قصة أبي عفك اليهودي ، شيخ من بني عمرو بن عوف بلغ مائة وعشرين سنة ، ذكر قصيدة هجا فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال سالم بن عمير : عليَّ نذر أن أقتله أو أموت دونه ، فطلب له غرة ، فوضع السيف على كبده فقتله.
قال شيخ الإسلام : فيه دليل على أن المعاهد إذا أظهر السب ينقض عهده ويقتل غيلة.
ثامنًا : حديث أنس بن زنيم الديلي لما هجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغه ذلك ، وكان من بني بكر الذين دخلوا في عقد قريش من صلح الحديبية ، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه ، فلما جاء معتذرًا طالبًا العفو ، عفا النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ، ولا يقع العفو إلا عن مستحق للعقوبة .
تاسعًا : حديث عبد الله بن أبي السرح ، وكان كاتبًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ارتد ، وزعم أنه كان يراجع النبي- صلى الله عليه وسلم - في الوحي فيوافقه عليه ، وزعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله ، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه في فتح مكة ضمن أربعة ، وقد أمن سائر الناس ، فجاء عثمان ، رضي الله عنه ، بابن أبي السرح ، وكان أخًا له من الرضاع ، وسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن يبايعه ، وكرر سؤاله ثلاث مرات ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجيبه وجمع من الصحابة يحضرون فيهم أنصاري كان قد نذر أن يقتل ابن أبي السرح ، فلما أكثر عثمان من طلب البيعة والعفو بايعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعفا عنه ، فلما خرج قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصاري : (أما كان رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله) ، فقالوا : ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك ، قال : (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين) . والحديث أخرجه أبو داود بسند صحيح .
عاشرًا : ما أخرجه البخاري ومسلم من قصة النصراني الذي أسلم وقرأ (البقرة) و(آل عمران) ، وكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ارتد وتنصر وهرب ولحق بأهل الكتاب فرفعوه وقالوا : كان يكتب لمحمد ، فأُعجبوا به ، فما لبث أن قصم الله عنقه ، فحفروا له حفرة فواروه ، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ، ثم عادوا فحفروا له فواروه ، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ، فتركوه منبوذًا .
فمثل هذا الذي ارتد يوجد ريبة في القلوب المريضة ، يقول قائل : كاتبه أعلم الناس بباطنه وحقيقة أمره ، وقد أخبر عنه بما أخبر، فكان من نصر الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم - أن أظهر فيه آية تبين بها أنه مفتر .
حادي عشر : ما كان من شأن جاريتين لابن خطل ، وكانتا تغنيان بهجاء النبي- صلى الله عليه وسلم - ، فأمر بقتلها فقتلت إحداهما وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها ، ذلك مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن قتل النساء والصبيان في الغزوات ، فكأن ذلك القتل إنما هو جزاء السب .
ثاني عشر : إهدار النبي - صلى الله عليه وسلم - لدم ابن خطل ، فأدركه أبو برزة فقتله وهو متعلق بأستار الكعبة ، وساق شيخ الإسلام ، رحمه الله ، أدلة كثيرة ، ثم قال : إن الذمي إذا سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد صدر منه فعل تضمن أمرين :
أحدهما: انتقاض العهد الذي بيننا وبينه.
والثاني : جناية على عرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانتهاكه حرمته وإيذاء الله ورسوله والمؤمنين وطعنه في الدين ، وهذا معنى زائد عن مجرد كونه كافرًا قد نقض العهد ، والله يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) [الأحزاب : 57].
هذا ؛ والكتاب يوضح حماية الله وعصمته لنبيه - صلى الله عليه وسلم - الشرعية والقدرية في حياته وبعد موته ، وواجب المسلمين نحوه ، فالكتاب كما سماه شيخ الإسلام ، رحمه الله ، سيف صارم بتار مرفوع مسلول على من تنقص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، يحمله من حمله فيضرب به ضرب سيف صارم ، يعين المجاهد على جهاده ويردع المنافق عن إظهار نفاقه ، فجزى الله شيخ الإسلام خير الجزاء على مصنفاته وجهاده ، وأعان الله المسلمين على حماية حرمات الإسلام والمسلمين ، وفقهنا الله في ديننا ، ورد من ضل منا إلى صوابه ورشده. اللهم آمين .
(1) أم الولد : الأمة المملوكة التي أنجبت من سيدها ، وحكمها أن تبقى في رقها ، ولكن لا تباع ولا تشترى .
(2) موضوع : انظر (السلسلة الضعيفة) (رقم 206) .