الحمد لله ، خلق كل شيء فقدره تقديرًا ، وأحكم الكون إحكامًا بديعًا ، وحمى السماء أن تقع على الأرض بقدرته ، وخلق الأحياء كلها وجعل بعضها نفعًا لبعض في غذاء ودواء ومتاع ، وتعهد لكل بأجل قدره ورزق معلوم ضمنه سبحانه وتعالى .
والاقتصاديون حديثًا يبنون علومهم على أساس الندرة ، أي ؛ قلة الموارد عن كفاية الحاجات من أجل ذلك فإنك ترى دعاتهم يدعون الناس إلى تحديد النسل خوفًا من كثرة الاستهلاك وحدوث المجاعات ويدعون المرأة للخروج من البيت ، ويزعمون أنها بذلك تزيد الإنتاج ، غاضين الطرف عن وظائفها المتعددة العامة وهي في بيتها قارة فضلاً عن دفع الإيذاء الكثير الناتج عن خروجها واختلاطها بالرجال .
والحقيقة أن الله بنى الكون على الوفرة ، أما الندرة فهي ظاهرة لها أسبابها وعلاجها ، فمن أسباب الندرة التكاسل والتظالم والإهمال ، بمعنى أن أسماك البحار كثيرة ، لكن الإنسان قعد عن استخراجها وصيدها ، وما اصطاده منها استأثر به الأغنياء دون الفقراء ، أي ؛ تظالموا في تقسيمه ، وما ادخروه منه لم يجيدوا له حفظًا فأتلفوا كثيرًا منه بحيث لو أنهم واسوا الفقراء ببعض ما أهملوه لما شكى أحد من جوع عملاً بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له) ،فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل (1) .
ومثال ذلك أيضًا في الأرض استغلالاً بين مسكن وزراعة تكاسل الإنسان في زرعها وتوزيع المدن فيها ، بل تكاسل عن جني ثمار الأشجار الطبيعية منها وما زرعوه تظالموا في تقسيم نتاجه ، ثم أهملوا في استخدام الكثير منه ، فتلف فظهر بذلك ما يسمونه بالندرة .
أما الوفرة فهي حقيقة ، فمع أن مساحة اليابس من الكرة الأرضية ربعها إلا أن الإنسان لم يعمر من ذلك الربع عُشره ، بل في مصر لم يستخدم أهلها حتى اليوم إلا أربعة بالمائة منها ، فيها زراعتهم ومساكنهم ومصانعهم وطرقهم ، ومع ذلك كله يبقى قرابة 96 % فارغًا لم يعمروه بعد ، بل إن القدماء المصريين سكنوا من الأرض أجزاء لم يسكنها المعاصرون ولا تزال آثارهم شاهدة على ذلك .
ثم انظر من حولك لترى الهواء والماء والأرض والشجر ، ترى الوفرة خلقها الله تعالى في كل شيء ، ومن ذلك الملائكة الذين نؤمن بهم ، منهم ملائكة يكتبون ، وملائكة يحفظون ، وملائكة بالأرحام والمطر موكلون وبالمساجد وبالبيوت والأرواح ملائكة موكلون كذلك ، بل وملائكة سياحون يلتمسون مجالس الذكر وملائكة يتعاقبون فينا بالليل وبالنهار ، فأي وفرة تلك.
ومن مظاهر الوفرة أن المرأة تنتج في عمرها ما يزيد عن أربعمائة بويضة كل منها صالح لإنتاج إنسان أو أكثر ، ومع ذلك فإن متوسط الإنجاب من ذلك يبلغ واحدًا بالمائة ، أما عن ماء الرجل فحدث عن الوفرة فيه فهو بالبلايين .
ومن صور الوفرة ما في جسد الإنسان من أجهزة ، فالكبد يكفي منه القدر اليسير لأداء الوظائف الازمة ، والكليتان يكفي جزء يسير من واحدة منهما للعمل ، كل ذلك خلقه الله تعالى بوفرة بالغة لا يعلم مداها إلا الله سبحانه ، فالندرة ظاهرة لها أسبابها وسبل علاجها ، والوفرة حقيقة ماثلة واضحة .
وإن أهم أسباب علاج الندرة هو العلاج الشرعي ، فمع وجود وسائل مادية للعلاج ، لكن الذي ينقصنا حقًا هو الوسائل الشرعية ، خاصة وأنها تشمل الوسائل المادية ضمنًا ، فالعلاج إذا هو طاعة الله سبحانه . يقول سبحانه على لسان نبيه نوح ، عليه السلام : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ) [ نوح : 10 -12] ، وعلى لسان هود ، عليه السلام : ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) [هود :52] ، وفي سورة (الأعراف) يقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [ الأعراف : 96] ، وفي (سنن أبي داود) كتاب الزكاة باب صدقة الزرع قال : (شبرت قثاءة بمصر ثلاثة عشر شبرًا ، ورأيت أترجة على بعير بقطعتين قطعت وصيرت على مثل عدلين).
فهل يعود الخلق إلى الطاعة إخراجًا للزكاة وعبادة الله فيعود إليهم الخير الذي قطع بسبب معاصيهم وهجرهم لشرع الله : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [الرعد :11] .
لكن علينا أن نعلم أن الله خلق كل شيء بقدر ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) [الحجر :21] ، فالشمس بضوئها وحرارتها تنتشر على الأرض يابسها وبحارها ، فتبخر من مائها سحبًا تسوقها الرياح إلى حيث قدر الله تعالى ، تجري بها الأنهار وتتجمع في باطن الأرض لتستخرج بالآبار ، فإن ظننا وفرة في الشمس حرارة وضوءًا ، ووفرة في البحار التي تغطي ثلاثة أرباع الأرض ، إلا أن الماء النازل بقدر ، وإن كان لا ينزل عن حد الوفرة بحيث يصب من الأنهار الماء العذب في البحار ، فضلاً عن إهمال ما يتلف منه بإلقاء الفضلات التي تفسده ، وذلك إنما أوجده رب العزة ليعالج ما عند الخلق من تكاسل وإهمال وتظالم فيبقى الأمر عند القدر الذي يبلغ حد الكفاية للخلق .
وبعد ؛ فإن كان الكبد فيه وفرة والكلى كذلك إلا أن النتيجة هي الكفاية ، فهل يجوز التبرع بالأعضاء بحجة أنها خلقت على الوفرة - وهي كذلك - لكن النتيجة التي عليها العمل هي الكفاية . وكذلك أندعو لتحديد النسل لأن الموارد فيها ندرة ؟! والخالق سبحانه يقول : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) [الحجر : 21] .
والله من وراء القصد
(1) رواه مسلم .