المسلم عبد الله الخالق البارئ ، الذى أبدع كل شىء ، وهو إنما يعبد ربه بكتاب الله أنزله ، وبرسالة رسولٍ الله أرسله ، وبشرعٍ الله شرعه . والله رب الكون ورب الشرع ، لذا كان شرع الله مطابقاً لكونه ، فمن عمل بما شرع الله سبحانه كان مُتكيفاً مع كونه ، ومن لم يعمل تناقض فى عمله مع الكون من حوله ، بل مع بناء نفسه ، وقد تأتى الكشوف العلمية لتعطى بعد ذلك إيضاحاً يبين : أن هذا الشرع دل على أشياء فى الكون قبل كشفها ، فمن عمل بها استفاد من الشرع تكيفاً مع الكون ، وهذه سعادة الدنيا ثم يُبقى الله له وحده حظوة الآخرة وسعادتها ، لأن الله سبحانه يرضى عن الذى أطاعه فيما شرع . فالمسلم يعمل بشرع الله تعالى فيصير بذلك : سابقاً لعصره ، فائقاً لأقرانه ، لأن صاحب الشرع هو الذى خلق الكون ، وركب الضر فيه ، ويعلم كيف يمكن تجنبه ، وركب الخير فيه ، ويعلم كيف يمكن الوصول إليه ، وقد ضمن شرعه ذلك كله فى أوامره ونواهيه ، فما من مسلم يعمل بشرعه ، إلا كان سابقاً لعصره ، لتجنبه ضراً لم يكشف الناس بعد عنه ، والتزامه نفعاً لم يعلم الناس نفعه بعد ، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، تبدأ من : اعتقاد صحيح فى الله ، ووحدانيته ، وأن غيره مما يعبده المشركون لا يضر ولا ينفع ، وينتهى إلى : ظفر يقصه ، أو سواك يستاك به ، أو شعر أمر بإزالته ، أو بتوفيره ، أو حلقه .
فانظر أخى المسلم أرشدك الله ، وزادك بصيرة بما ينفعك فى الدارين . انظر إلى ما أخرجه الدارمى فى سننه فى المقدمة عن مجاهد قال : حدثنى مولاى أن أهله بعثوا معه بقدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم ، قال : فمنعنى أن آكل الزبد لمخافتها ، قال : فجاء كلب ، فأكل الزبد ، وشرب اللبن ، ثم بال على الصنم ، وهو : إساف ونائلة .
فتدبر كيف صار الكلب أرشد عقلاً من إنسان ، لأنه عابد للصنم . وكذلك تجد حال من يعبد البقر اليوم ، مع أنه فى الحياة الدنيا وعِلمها خبير بكثير من مواطنها ، لكنه متخلف عن عصره بعبادة غير الله ، وإن كانوا على علوم الدنيا حريصين "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ " ( الروم : 7 ) والله سبحانه يصفهم بقوله : " أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا " ( الفرقان :44 ) ويقول سبحانه : "مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ " (الأعراف : 178 - 179 ) .
فلو نظرت إلى عمرو بن الجموح قبل إسلامه ، وكان رجلاً مقدماً فى قومه يُسمع لقوله ، ومع ذلك يعبد صنماً يضعه فى فناء داره ، ويأتى ولده معاذ وقد أسلم ، فيحمل الصنم يلقيه فى بعض الأماكن الخربة فى المدينة ، وعمر يخرج بحثاً عنه حتى يجده ، فيأتى به ، ويغسله ، ويطيبه . لعلمت أن الإسلام جعل معاذاً - هو الابن - سابقاً لعمرو ، مع أنه أبوه ، وكذلك تجد المغيرة بن شعبة ، وهو يحطم صنم ثقيف أمام أعين أهل ثقيف - وهو منهم - يقول للمسلمين من حوله : ( سأضحككم من ثقيف ) ، مع علمنا أن المغيرة كان يعبد تلك الأصنام قبل إسلامه ، فلما أسلم سبقهم فى عصرهم . انظر وستجد اليوم الخبراء من الدول الوثنية اليوم : يصنعون أصناماً يعبدونها ويصطحبونها فى أسفارهم .
ثم انظر - رعاك الله برعايته - إلى الأمم المتقدمة ، وهى ترزح فى شهواتها ، بل فى الشذوذ الجنسى ، يعملون له نقابات للدفاع عن حقوق أصحابه ، مع كشف كثير من الأمراض الفتاكة التى تقع بسبب هذا الشذوذ ، والله قد حرم فى الإسلام ذلك ، فصار المسلم يلتزمه ، فينجو بإسلامه من الأضرار التى تصيب الواقعين فيه . فالمسلم يلتزم بإسلامه ، ويعمل به ، فيصبح سابقاً لأهل عصره ، متقدماً عنهم ، مبرءاً مما وقعوا فيه .
والمسلم يستعمل السواك يرضى ربه عملاً بشرعه ، والناس يكشفون عن الأسنان وأضرار عدم العناية بها ، والأمراض التى تقع بسبب إهمالها ، فيجتهدون فى إنتاجهم لمواد كثيرة ، وأدوات متنوعة ، لتنظيف أسنانهم ، ثم تكشف علومهم : أن السواك يفوق ذلك كله ، ويجنبهم كثيراً من الأضرار التى تقع لهم بغيره ، فيكون المسلم دائماً سابقاً لعصره ولو تدبرنا فى أمر الشرع بالتيامن عند المطعم والمشرب وغيره ، واستخدام الشمال فى البول والغائط ، وأن سبب الكثير من الأمراض الطفيلية : وصول بعض أطوار الطفيليات من البراز إلى الطعام ، لعلمنا أن رأس الطب الوقائى فى أوامر الشرع بالتزام اليمين واليسار الذى جاء به الشرع الشريف ، والأمثلة فى ذلك كثيرة منها : حديث النيى-صلى الله عليه وسلم- " اتقوا الملاعن الثلاث : التغوط فى موارد الماء ، وفى الظل ، وفى قارعة الطريق " فإذا علمنا أن دورة حياة البلهارسيا لا تكتمل ، إلا إذا وصلت البويضات مع البول أو الغائط مباشرة إلى الماء العذب ، علمنا أن العمل بهذا الحديث الشريف يعنى القضاء الكامل على البلهارسيا ، فبغير حاجة منا إلى خبراء ، إذا تعلمنا شرع الله ، وعملنا به تجنبنا ما لا نعلمه من أضرار لا تقع تحت حصر. فالمسلم يعمل بشرع الله ، فيسبق عصره الذى هو فيه .
ونظرة إلى التضخم وارتفاع الأسعار - الذى تشكو منه كل الأمم المعاصرة اليوم - ترى ذلك يرجع إلى استباحة الربا ، والمسلم يلتزم بشرع ربه ، فيجتنب الربا كله ، فيصبح سابقاً لعصره .
والمسلم يتوضأ فى يومه خمس مرات ، يستنشق فيها الماء طاعة لله سبحانه ، واستعداداً لدخوله فى الصلاة ، بل يتوضأ قبل نومه ، وباحث فى الإسكندرية يخرج على الناس برسالة علمية ، يحصل بها على درجة الماجستير ، مفادها : أن الاستنشاق يقضى على أحد عشر ميكروباً خطيراً . من علم ذلك يشرع فى الاستنشاق ، ولكن المسلم يستنشق فى كل وضوء من قبل ، منذ نزل بذلك الشرع ، فيكون المسلم بهذا سابقاً لعصره .
كل هذا وأمثاله من النوم على الجانب الأيمن ، وعلاقة ذلك بوضع القلب والمعدة والكبد .
ومن هذا أن المسلم يلتزم بلقيمات فى طعامه يقمن صلبه ، وأنه ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه .
والمسلم يؤمر باعتزال النساء فى المحيض ، وبالغسل من الجنابة ، والاستيقاظ لصلاة الفجر مبكراً ، والنوم بعد العشاء ، وأكثر من ذلك : صوم رمضان ، والختان ، والتفريق بين الأبناء عند النوم ، والأمر بإعفاء اللحية ، وقص الشارب ، ونتف الإبط ، وحلق العانة . بل كذلك : الرضاع الذى أمر به الشرع من الأم ، أو أن يسترضعوا الأولاد ، وأهمية ذلك للأم التى تُرضع ، وللولد الذى يرضع ، والأبحاث فى ذلك كثيرة ، لكن المسلم يعمل بذلك قبل أن يعرف الفوائد الصحية ، أو العوائد المادية من ذلك ، لأنه يلتزم بشرع ربه ، فيصبح بذلك سابقاً لعصره .
وقد تخطىء الكشوف العلمية ، أو يخطئ المشخص للدواء ، وقد حدث ذلك كثيراً ، أما الشرع، فهو يصف للمسلم سلوكه الوصف الجيد الصحيح ، الذى لا خطأ فيه ، لأنه من الله العليم الخبير ، الذى أحاط بكل شىء علماً .
أيها المسلم الكريم هذا الدين - الذى أنت عليه - دين الله رب العالمين "فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " ( الروم :30 ) فالله رب الشرع ورب الكون "الرَّحْمَنُ *عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ " ( الرحمن : 1- 3 ) فالقرآن والإنسان وسائر الأكوان من الله رب العالمين ، فالزم شرعه يكن الله فى عونك ، ويجعل كونه لك خادماً فى أرضه ، وسمائه ، ومطره ، وهوائه ، وملائكته ، وشمسه ، وقمره، وكل شىء من حولك " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " ( الأعراف : 96 ) .
ولقد أخرج أبو داود فى سننه : باب صدقة الزرع ، قال أبو داود : شبرت قثاءة بمصر ثلاثة عشر شبراً ، ورأيت أترجة على بعير بقطعتين ، قطعت ، وصيرت على مثل عدلين ، أى : أن أبا داود أراد أن يقول : لما أطاع الناس ربهم ، فأخرجوا زكاة أموالهم ، أمر الله الأرض ، فأخرجت خيراتها ، وأنزلت السماء ماءً مباركاً ، فإن معصية العباد سبب إمساك السماء ، وإجداب الأرض . لذا كان من دعاء العباس رضى الله عنه فى صلاة الاستسقاء فى عام الرماد . ( اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة ) .
ولقد أخرج مسلم عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال : " بينما رجل يمشى بفلاة (1) من الأرض فسمع صوتاً فى سحابة : اسق حديقة فلان ، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه فى حرة(2) ، فإذا شرجه (3) من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله ، فتتبع الماء فإذا رجل قائم فى حديقته يحول الماء بمسحاته ، فقال له : يا عبد الله ما اسمك ؟ قال : فلان ، للاسم الذى سمع فى السحابة ، فقال له : يا عبد الله لم تسألنى عن اسمى ، فقال : إنى سمعت صوتاً فى السحاب - الذى هذا ماؤه - يقول : اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها ؟ فقال : أما إذ قلت هذا ، فإنى أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلث ، وآكل أنا وعيالى ثلثاً ، وأرد فيها ثلثه ".
أخا الإسلام ، هيا إلى الإسلام عملاً بعلومه ، والتزاماً بشرائعه ، وسيراً على أوامره ، واجتناباً لنواهيه ، تكن سابقاً لعصرك ، مرضياً ربك ، حاصلا على سعادة يومك وغدك والله من وراء القصد .
(1) الفلاة : الأرض الواسعة .
(2) الحرة: أرض بها أحجار سوداء.
(3) شرجه : شق فى الأرض .