يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة : ( اليومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) [ المائدة : 3]، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها سواء ) .
ومع ذلك فإن حيرة الناس في هذه الأيام تشتد، وتفرقهم يزداد، ومخاوف المحبين للإصلاح تكثر؛ لأن الباطل قد علا وصار في كل موقع بارزًا ظاهرًا، غطى بظلمته على إشراق الحق، حتى صعب على المبصر أن يرى طريقًا أو يتحسس خطاه.
هذا مقال يسب كاتبه الصحابة الأجلاء ، ويتطاول على الراشدين الخلفاء ، وهذا صحافي يتحدث عن نعيم الجنة وعذاب النار بالسخرية والاستهزاء ، وهذا شيخ قديم الجهاد يستخف بالصحيح الثابت من الحديث بدعوى مصادمته للمعقول ، وهذا شيخ جليل ينكر النسخ في القرآن ، وهذا خطيب أو كاتب يرد المعراج أو يؤول الإسراء ، وغيره يشكك في ثواب الشرع ، وغيره ينكر زواج عائشة - رضي الله عنها - وهي صغيرة ، وكل واحد من هؤلاء يرى نفسه بالإصلاح قائمًا ، وفي الدعوة متفانيًا ، ويزعم أنه يبتغي بقوله وكتابته وجه الله تعالى .
حيرة على وجه أهل الإصلاح، يرون فيها السبل متفرقة، والطرق متشعبة، فهل من هداية في تلك الحيرة ؟! وهل من إرشاد في أمواج الفتن المتلاطم ؟!
كيف لا ؟ والدين قد أكمله الله رب العالمين، وأتم به نعمته على الخلق أجمعين ، ورضي الإسلام بشرائعه التي نزلت .
كيف لا ؟ ولقد حسدنا اليهود على ذلك ، ففي ( البخاري ) أن يهوديًّا قال لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين آية في كتاب الله تقرءونها ، لو علينا معشر اليهود ؛ نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا ؟ قال : أي آية ؟ قال : ( اليومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) [ المائدة : 3] ، قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ وهو قائم بعرفة يوم جمعة ؛ وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
فاقرأ أخا الإسلام معي هذه الآية الكريمة من سورة النساء : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) [ النساء : 115] ، فالآية الكريمة تخبر أن سبيل المؤمنين في العقيدة والعمل ، من فارقه فإن الوعيد في حقه شديد : ( جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) [ النساء : 115] .
فمعرفة سبيل المؤمنين معرفة للحق ، والحق لا يعرف بالرجال ، ولكن اعرف الحق تعرف أهله ، وللآية الكريمة مع الإمام الشافعي قصة ، قال الـمُزَني : كنت عند الشافعي يومًا ، فجاء شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا ، فلما رآه ذا مهابة استوى جالسًا ، وكان مستندًا لأسطوانة ، فاستوى وسوى ثيابه ، فقال له : ما الحجة في دين الله ؟ قال : كتاب الله ، قال : وماذا ؟ قال : سنة نبيه ، قال : وماذا ؟ قال : اتفاق الأمة ، قال : من أين هذه الأخيرة ؟ أهو في كتاب الله ؟ فتدبر ساعة ساكتًا، فقال له الشيخ: أجَّلْتكَ ثلاثة أيام بلياليهن، فإن جئت بآية وإلا فاعتزل الناس، فمكث ثلاثة أيام لا يخرج، وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر، وقد تغير لونه، فجاء الشيخ وسلَّم عليه وجلس، وقال: حاجتي ؟ فقال : نعم ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، قال الله عز وجل : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ) إلى آخر الآية [ النساء : 115] ، لم يَصْلِه جهنم على خلاف المؤمنين ؛ إلا واتباعهم فرض ، قال: صدقت ، وقام وذهب .
ونقل الشاطبي في ( الموافقات ) عن الخطابي قوله : وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، قال : ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة ، لأن الأمة قد اختلفت فيها ، قال : وليس الاختلاف حجة ، وبيان السُّنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين ( ثم قال الشاطبي ) : والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ، ويجعل القول الموافق حجة له ، ويدرأ بها عن نفسه ، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه ، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع ، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ هواه ، ومن هذا أيضًا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال وعدم التحجير على رأي أحد .
ويقول ( الخطيب ) : عن عمر بن عبد العزيز قال : سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر بعده سننًا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعته ، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ، ولا تبديلها ، ولا النظر في رأي من خالفها ، فمن اقتدى بما سنوا اهتدى، ومن استبصر بها مبصر ، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى؛ وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا .
وبعدُ أخا الإسلام : انظر برويَّةٍ وتدبر ترَ ما حولك من ظلمات تتبدد ، ومن حيرة وشك تزول، لأن دين الله أكمله رب العالمين ، وعمل به المؤمنون ، فهو سبيلهم إلى أن تقوم الساعة ، وإياك ومحدثات الأمور ، أو تَتَبُّعَ شواذ الأقوال ، لأن من شَذَّ ، شذَّ في النار، نسأل الله النجاة في الدارين ، آمين .