العقيدة قائد السلوك
إن السلوك في حياة الإنسان يقاد بالاعتقاد سلباً وإيجاباً في كافة مناحي الحياة. فإن المريض يتحمل مرارة الدواء لاعتقاده أنه سبب الشفاء، والمسلم العابد يقوم الليل والناس نيام ويتصدق بالمال في محاب الله رغم حاجته إليه لاعتقاده في وعد الله الصادق بالجنة ونعيمها.
بل إن السلوك الفاسد يقوده اعتقاد فاسد، فإن الذين يتجهون للأحجار والأشجار يتمسحون بها أو للقبور يدعون عندها وينذرون لها يقودهم اعتقاد فاسد بأن هؤلاء الموتي وسائط عند الله يرفعون الحاجات إلى الله أو أن الله وكلهم بقضاء الحوائج! (تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً).
وكثير من الأعمال التي تفعل عند الموت أو الولادة أو الزواج يقودها اعتقد صحيح أو فاسد. فليس ببعيد عنا حرق جثث الموتي في الهند، وتلقين الموتي بعد دفنهم في قبورهم. ولقد كان قدماء المصريين يبنون الأهرامات لموتاهم ويضعون معهم الكنوز وغير ذلك من المسالك المختلفة.
الدور التربوي لأركان الاعتقاد
أركان الاعتقاد الموضحة في كثير من آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الأركان الستة : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وهي من شروط قبول الأعمال كما قال ابن عمر (والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) (1).
والإيمان بالله يعني الإيمان بأنه هو الخالق البارئ المصور المعطي المانع النافع الضار المحيي المميت وهو على كل شئ قدير، والإيمان بأسمائه الحسني وصفاته العليا التي وصف بها نفسه أو جاءت على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - دون تأويل أو تحريف أو تعطيل، ثم امتثال مقتضى هذا الإيمان في التعبد بالقلب حباً وخوفاً ورجاء، والتعبد باللسان ذكراً ودعاء وحلفاً واستعانة، والتعبد بالجوارح ركوعاً وسجوداً وطوافاً وصوماً، والتعبد بالمال صدقة ونذراً وذبحاً.
ومن آثار ذلك الشعور بنعم الله على العبد وخضوع القلب له وتعظيمه.
فإذا أيقن العبد تفرد ربه تبارك وتعالى بالخلق والحكم ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بأذنه وأن الخلق مقهورون تحت قبضته، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلي عنه، وأن صحة القلب وسلامته من الأمراض في عبادته لله وحده فيكون الله أحب إليه من كل ما سواه فيقدم محبته في قلبه على كل المحاب وتصبح سائر المحاب تبعاً لها، ويتقدم الخوف من الله في قلبه جميع المخوفات فتنساق المخاوف كلها تبعاً لخوف الله، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء فينساق كل رجاء تبعاً لرجائه.
والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات والتبسط في فضول المباحات كان ذلك فضلاً محموداً. فإن زاد على ذلك بأن أورث مرضاً أو هماً يقطع صاحبه عن السعي المباح ليكف نفسه وعياله عن سؤال الناس لم يكن ذلك محموداً بل مذموماً وإنما يأتي ذلك من سوء فهمه لصفات الله عز وجل.
هذا وخوف العقاب ليس مقصوداً لذاته إنما هو سوط يساق به المتواني عن طاعة الله. ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه واتقوه. ولهذا المعني عدها الله سبحانه من جملة آلائه على الثقلين في سورة الرحمن ((هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ* يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ* فَبِأَيِّ ءَالَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن: 43- 45].
وإذا أيقن العبد أن الله هو (التواب الغفار العفو) آمن بمتعلقها من غفران الجناية وقبول التوبة والعفو عن الجرائم فكان ذلك يجذبه نحو الاستغفار والتوبة والاقلاع عن الذنوب خاصة عندما يعلم أن الله يفرح لتوبة عبده المؤمن وأنه يحب التوابين ويحب المتطهرين.
والإيمان بالملائكة كما جاء في القرآن والسنة وأن الله سبحانه خلقهم كما أراد من نور وجعل لهم قوة عظيمة، وجبلهم على طاعة أمره وحده، وأنهم موكلون بالأرحام وحفظ النطف والأجنة بها، وموكلون بالمطر من السماء، والنبات من الأرض، وموكلون بحفظ العبد من بين يديه ومن خلفه، وموكلون بكتابة أعماله حسناته وسيئاته، وموكلون بمجالس الذكر والعلم، وموكلون بالمساجد يوم الجمعة يكتبون الداخل الأول فالأول حتى يصعد الإمام المنبر، وموكلون بقبض الأرواح ورفع الأعمال، وأنهم يقاتلون مع المؤمنين، وغير ذلك مما وكله الله عز وجل إلى ملائكته.
فالله سبحانه بما عرفنا من أمر هذه المخلوقات المؤمنة وأفعالها قد جنبنا الوقوع في الخرافات والأوهام التي وقع فيها من لا يؤمن بالغيب ولا يتلقون معارفهم عن الوحي الإلهي. كما يستقيم على أمر الله عز وجل فمن استشعر قلبه وجود ملائكة الرحمن يراقبون أعماله وأقواله والله من ورائهم محيط ومطلع فإنه يستحيي أن يعصي الله وهو يراه وملائكته يحيطون به. ومن استشعر ذلك صبر على مواصلة الجهاد في سبيل الله دون يأس بل يشعر بالأنس والطمأنينة لأنه يعلم أن ملائكة الرحمن يقاتلون معه.
والإيمان بالملائكة يجعل العبد إذا أحس أن الركب قد ضل الطريق وأن الجاهلية قد سادت وصار المؤمن غريباً في وطنه وبين أهله وقومه حيث يجد منهم الصدود والاستهزاء والتخذيل والتثبيط عن طاعة الله تعالى والاستقامة على أمره .. فإن المؤمن يجد في الملائكة أنيساً ورفيقاً يصحبه ويرافقه ويواسيه ويصبره ويطمئنه ويعينه على مواصلة السير على درب الهدي. فهذه جند الله تعبد الله كما تعبد أنت وتتجه إلى الخالق كما تتجه، تؤمن معك في صلاتك خلف الإمام وتتجاوب معك في الدعاء إذا دعوت بظهر الغيب لأخيك المجاهد أو المريض أو المكروب أو المدين أو غيره . . . قالت الملائكة آمين ولك مثله، وإذا خرجت من بيتك فقلت بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قالت الملائكة هديت وكفيت ووقيت.
أما الإيمان بالكتب فيعني التصديق إجمالاً بما أنزل الله على أنبيائه من كتب ثم الإيمان بما سماه الله تعالى في القرآن من صحف إبراهيم وموسي، والتوراة التي نزلت على موسي، الزبور الذي نزل على داود، والانجيل الذي نزل على عيسي، ثم ختم الكتب بالقرآن الكريم. نؤمن بأنها منزلة من عند الله وأن يد التحريف عملت في الكتب السابقة على القرآن فأنزل الله تعالى القرآن ناسخاً لها جميعاً يحوي الخير كله محفوظاً من التحريف والتبديل وختم الله به الكتب ((لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) [فصلت:42]
ذلك الإيمان يدفع المؤمن للعناية بالقرآن لأنه خطاب الله له فيحل حلاله ويحرم حرامه. كما يجعله لا يكذب ما ينسب إلى الكتب السابقة ولا يصدقها لأن يد التحريف عملت بها ويستغني عنها بالقرآن لأنه جاء ناسخاً لها.
وأما الإيمان بالرسل فيعني التصديق الإجمالي بما أنزل الله تعالى من الأنبياء والمرسلين وأن عددهم كبير وأنهم أنزلوا في كل أمة من الأمم ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)) [فاطر: 24] ونؤمن تفصيلاً بمن ذكرهم القرآن وهم الخمسة والعشرون (2).
ذلك الإيمان يجعل المؤمن يشعر بالعمق الاعتقادي الذي بينه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتاً فأحسنه وأجمله فجعل الناس يطيفون به يقولون : ما رأينا بيتاً أحسن من هذا إلا هذه اللبنة فكنت أنا تلك اللبنة. (رواه مسلم).
كما أن هذا الإيمان زاد للدعاة في طريقهم إلى الله يثبتهم في دعوتهم ويبصرهم في سيرهم ويرسم لهم أسلوب الدعوة ويهون عليهم تكذيب المكذبين، فلقد كذب الأنبياء من قبل. ويبشرهم أن الله ناصر من ينصره، وينصر رسله وينصر دينه، وأن الله الذي أيد الأنبياء بالآيات الباهرة سوف يؤيد بالنصر والتمكين من اتبعه ((إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)) [غافر:51]
وأما الإيمان باليوم الآخر بالبعث بعد الموت ثم الحشر في يوم المعاد والفصل والحساب والعرض على الله والوزن والقصاص والصراط والجنة والنار. وهذا يحث المؤمن على التفتيش في عمله لأنه سيلقاه عند ربه ثم يحاسب عليه ويجازي به في يوم قال الله عنه ((لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ)) [غافر: 17] .
فذكر القيامة وما فيها من أهوال وما يتلوها من النار والإيمان بذلك يبعد المؤمن سريعاً عن المعاصي ويلزمه الطاعات والإيمان بالجنة ونعيم أهلها يحدو الأرواح نحو الطاعة ويجعل الصعب فيها سهلاً ميسوراً.
أما الإيمان بالقدر فذلك يعني الإقرار بأن الله كتب كل شئ عنده قبل أن يخلق الخلق وأنه قدر كل شئ تقديراً وأنه أخفي هذه المقادير على الخلق وأمرهم بالخيرات والحسنات ونهاهم عن السيئات. فيجتهدون وكل ميسر لما خلق له. فلا إجبار لهم ولكنه ييسر لهم الأمر. ثم بعد ذلك يعلم المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وأن كل شئ عنده بمقدار . .
وذلك يبعث على الرضا بالقضاء والقدر مع الجهد والاجتهاد في الحرص على ما ينفع العبد في دنياه وأخراه.
هذا وأن للرضا بالقضاء نتائج سارة وثماراً طيبة منها أن يكسب العبد قوة العزيمة والإقدام فمن اطمأنت نفسه إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه فإن جميع أعماله تخلو من الحيرة والتردد، ويذهب من حياته القلق والاضطراب، لأنه يقدم إذا ترجح لديه الإقدام من غير خوف ولا هيبة ولا تردد. كما أنه لا يحزن على ماض فاته ولا يغتم لحاضر وقع به ولا يؤرقه مستقبل يجهله. وبذلك يكون من أسعد الناس حالاً وأطيبهم نفساً وأصلحهم بالاً وأهداهم خاطراً فيكون أشجع الناس عقلاً وقلباً وأكرمهم قولاً ونفساً. إذ يعلم أن أجله محدود ورزقه معدود فلا الجبن يزيد في عمره ولا الشح يوسع في رزقه فينافس في البطولات ويسابق في المكرمات.
(1) هذه العبارة من صحيح مسلم في مقدمة حديث سؤال جبريل الذي جاء فيه هذه الأركان الستة للاعتقاد والتي ينبغي أن يعرفها المسلمون صغيرهم وكبيرهم. وهذه العبارة تدل على أن من لا يؤمن بركن واحد من أركان الاعتقاد الستة هذه فإن عمله حابط مردود عليه. ولقد سألت تلامذة في مدارس مختلفة عن أركان الإيمان فكانت الإجابة (أنها خمسة وذكروا أركان الإسلام). هذا مع أن جبريل عليه السلام لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام أجاب (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت أن استطعت إليه سبيلا) فلما سأل عن الإيمان قال (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) ولذا فإني أهيب بالآباء والأمهات والمعلمين وجميع الناس أن يعلموا أبناءهم وتلامذتهم ومن يحبونهم ما هي أركان الإيمان وأركان الإسلام.
(2) في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة هم إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا.