صلاح الأمة في علو الهمة

2010-12-04

صفوت نور الدين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه على المنهج الصواب إلى يوم الدين. وبعد

الهمة العالية هي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الساطع الذي يسترشد به الغرباء في بحار ظلمات الدنيا ، وهي الشفاء الذي من فقده فقد أصابته جميع الأسقام . وبها تكون اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام .

الهمة العالية روح الأعمال والأحوال متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه ، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس ، وترفعهم إلى منازل في الجنة لم يكونوا بدونها واصليها ولا بالتجافي عنها مدركيها .

الهمة العالية عند المؤمنين روح تنبع من قوله تعالى : ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ) [ الأنفال : 65] .

الهمة العالية عند المؤمنين تستمد من قوله تعالى : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [ البقرة : 249] ، ذلك بأنهم يؤمنون بالله القائل : ( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [ محمد : 7] ، وأصحاب الهمة العالية يؤمنون أنه في حال الضعف يكون التخفيف لقوله تعالى : ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [ الأنفال : 66] .

ففي حديث النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : ( أصدق الأسماء : حارث وهمام )، ذلك لأن لكل نفس في كل حال ( همًّا ) ، ولكن من الأنفس ما يكون همها دنيء يرشدها إلى كل مرذول ويعينها على الباطل ويصرفها عن الهداية والصواب ، ومن أمثلة ذلك قوم لوط وفرعون . ومن الأنفس ما يكون همها عال تطلب من الأمور معاليها وتجتنب أراذلها ، فتقصد إلى المقامات السامية والدرجات الرفيعة ، تزكو بأعمالها وترتفع بأوقاتها ، ورائد هذه الطائفة هم الأنبياء ومن سار سيرهم ، واهتدى بهديهم ، وحاديها في سيرها الجنة ، وذكرها والقرب من ربهم ، والأنس إليه يوم لقائه ، فالهمة العالية والقصد إليها درجة تنافس فيها المتنافسون ، فأهل علو الهمة مطلبهم الجنة : (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ(18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ(19)كِتَابٌ مَرْقُومٌ(20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ(21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ(23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ(24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ(25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) [ المطففين : 18 : 26] .

الهمة العالية درجة شخص إليها العباد والزهاد والمجاهدون والعلماء والحكماء . وإليها شمر السابقون من الأنبياء وأصحابهم ، ومن سار على منهجهم . وفيها أنفق المنفقون ومن وافقهم . فهي قوت قلوب السالكين وغذاء أرواح العارفين وقرة عين المؤمنين الموحدين.

الهمة العالية تستمد من رب العالمين الذي قال للملائكة يوم بدر :  ( أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) [ الأنفال : 12] . تستمد من رب العالمين الذي أنزل في كتابه : ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) [ التوبة : 40] . تستمد من رب العالمين حيث علمهم أن يقولوا : ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 250] .

وأصحاب الهمة العالية يعلمون أن الله الرافع الخافض. القابض الباسط. المعطي المانع يرفع من يشاء : ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) [ القصص : 5، 6] ، والله يقول : ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) [ الأعراف : 128] ، كتاب الله يخبر أصحاب الهمم العالية ويخبر من دونهم حتى يلحقوا بهم : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) [ النور : 55 - 57] .

يقول صاحب ( المدارج) : ( الهمة ) فِعْلة من الهم ، وهو مبدأ الإرادة ، ولكن خصوها بنهاية الإرادة ، فالهم مبدؤها والهمة نهايتها ، ( ثم يقول ) : إن همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلبًا صادقًا خالصًا محضًا فتلك هي الهمة العالية ، ولا يلتفت عنها إلى ما سوى أحكامها ، وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمقصوده ، ما لم تعقه العوائق وتقطعه العلائق .

وأول نبضات الهمة : تصون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني ، وتحمله على الرغبة في الباقي وتُصَفَّهِ من كدر التواني ، ( ويقول أيضًا ) : الهمام يأنف أن ينزل من سماء مطلبه العالي ، فهو في سفر دائم بالقلب إلى الله ليحصل له ويفوز به ، فإنه طالب لربه تعالى طلبًا تامًّا بكل معنى واعتبار في عمله وعبادته ومناجاته ونومه ويقظته وحركته وسكونه وعزلته وخلطته وسائر أحواله . فقد انصبغ قلبه بالتوجه إلى الأعمال ، ولا يقف عند عوض ولا درجة . فإن ذلك نزول من همته ، ومطلبه أعلى من ذلك .

فإن صاحب هذه الهمة قد قصر همته على المطلب الأعلى الذي لا شيء أعلى منه ، والأعواض والدرجات دونه . وهو يعلم أنه إذا حصل له فهناك كل عوض ودرجة عالية (انتهى) .

صُحبة أصحاب الهمم العالية من البشر ودراسة سيرتهم في الكتب والتعرف على أحوالهم في سابق الأمم يزيل الكسل ، ويشحذ العزائم ، فتطلب معالي الأمور ، فضلاً عن كونها تورث محبة أصحاب الهمم العالية ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (المرء مع من أحب).

فيأيها القارئ الكريم تعرف على القوم لتحبهم لعل الله أن ينزلنا منازلهم ، وأن يبلغنا درجاتهم، وإن قصرت بنا الأعمال ، وضعفت الهمم عن بلوغ ما بلغوه ، وإحراز ما أدركوه وجمعوه، فكتاب الله وما حوله من كتب التفسير وكتب التراجم والطبقات ، بل كتب الفقه والتاريخ والحديث جمعت من ذلك الكثير فاجعل لك رفقة وصحبة تنل علو الهمة .

والله الهادي إلى الصواب، وهو من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

(1) استعرت هذا العنوان من الدكتور / سيد حسين عفاني حيث صنف كتابًا يقع في أكثر من ثلاثة آلاف صفحة ، قسمها على خمس مجلدات كبار ، كل مجلد منها يفوق الستمائة صفحة ، انبرى فيها القلم ليكتب عن علو الهمة ورجالها ، والسبيل إليها ما يحتاجه المسلم ، فصار كالحديقة وارفة الظلال يانعة الثمار ، فالله أسأل أن يجزي مصنفه خير الجزاء ، وأن ينفع به المصنف والقارئ والناشر ، وكل من أعان على كلمة إيمان تأخذ بأيدي الناس في ظلمات الجهل ، وفساد البر والبحر الذي ظهر بما كسبت أيدي الناس حتى ترتفع الهمم وتزكو بها الأمم فإن ( صلاح الأمة في علو الهمة ) .

عدد المشاهدات 10857