يقول الله عز وجل : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [ المائدة :3] .
فالله العليم الحكيم أرسل نبيه الخاتم - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه شرعًا أكمله وأتم به النعمة وذكر أنه رضي لنا الإسلام دينا.
ولا بد لكل مؤمن أن يرضى لنفسه ما رضيه الله تعالى له.
وأصحاب البدع يخالفون هذا الأصل بإحداثهم البدع ووقوعهم فيها ودعوتهم الناس إليها واعتقادهم أنها تقرب إلى الله تعالى.
يقول الشاطبي : البدعة طريقة في الدين مُخْترعةٌ تضاهي الطريقة الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه .
وفي هذا المقال نتحدث عن أضرار البدعة وأسبابها، أما عن البدع المحدثة فهي كثيرة قد بينها العلماء في كتبهم منها كتاب الاعتصام للشاطبي وكتاب الباعث لأبي شامة والسنن والمبتدعات وغيرها.
التحذير من البدع :
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فَمَنْ بعدهم من البدع ومحدثات الأمور ، وأمرهم بالاتباع .
وجاء في كتاب الله تعالى الأمر بالاتباع قال تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) [ آل عمران :31] .
وقال تعالى : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) [ الأنعام :135] .
قال بعض المفسرين : ( وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ) أي البدع والشبهات .
وقال تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) [ النساء :59] .
وقد روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (مَا مِن نَبِيٍّ بَعَثهُ اللهُ عز وجل في أمّة إلا كان له من أمَّتِهِ حَوَاريُّونَ يَأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) .
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته : (أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشَرَّ الأمور محدثاتُها وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة وكُلَّ بِدْعةٍ ضَلالة ) [متفق عليه ] .
أضرار البدع :
1- ادعاء حق التشريع للبشر واتخاذهم أربابًا من دون الله تعالى : قال تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) [ التوبة :31] ( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ) [النحل :116] .
2- اعتقاد أن التشريع جاء ناقصًا وأنه يكمله بالبدعة هذه والله تعالى يقول: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) [ المائدة :3] .
ومن وصية عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة (عليك بالسنة فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم فإنهم على علم وتقوى) فإذا كان المبتدع يرى أن ابتداعه لم يكن إلا لخير الناس في دينهم فما أجدره بالحزن العميق على نفسه بموقفه من البدعة التي عرف الشارع ما فيها من خطأ وزلل وحمق .
3- تلبيس الدين على الناس بحيث يعتقدون الدين فيما ليس دينًا كما هو قائم اليوم بشأن كثير من بدع المساجد والصلاة وغيرها من العبادة حتى إن من ترك سنة من السنن لم يلمه أحد وإن ترك البدعة هاجت لها أنوف ، والله تعالى يقول : ( يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ آل عمران :71] .
وإذا جئت تذكرهم بأن هذا ليس في شرع الله ألقى الشيطان على ألسنتهم ما يحتجون به لبدعتهم وأنهم بذلك إنما يحسنون صنعًا والله تعالى يقول : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) [الكهف:103 ، 104] .
4- إن صاحب البدعة محروم من ثواب العمل (مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِناَ هَذَا مَاَ ليْسَ مِنهْ فَهُوَ رَدّ) [متفق عليه ] .
5- أن يُحرم يوم القيامة من الشرب من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت هو أحوج ما يكون إلى شفاعته لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ألا لَبُذادن رجال عَنْ حَوْضي كَمَا يُذادُ الْبعيرُ الضَّالُّ ، أنادِيهمْ ألا هَلُمَّ ألا هَلُمّ فيُقَالُ إنهُمْ قدْ بدَّلوا بعْدَك فأقول فَسُحْقًا فَسُحقًا فسُحقًا) . [ الموطأ والبخاري ومسلم . واللفظ للموطأ].
أسباب الابتداع :
ترجع أسباب البدع غالبًا إلى أربعة أشياء (كما قسمها الشاطبي في الاعتصام) .
الجهل بأدوات الفهم - الجهل بالمقاصد - تحسين الظن بالعقل - اتباع الهوى .
الجهل بأدوات الفهم :
أي بلسان العرب الذي نزل به القرآن وجاءت به السنة . من ذلك ما أحدثه الناس من الجهر بتسليم المؤذن عقب الأذان واستدلوا بحديث (إذا سَمِعْتمُ النَّداءَ فقولوا مِثْلَ مَا يقُول ثمَّ ما يقُول ثمَّ صَلُّوا عليَّ) [رواه مسلم ] .
وأما الجهل بالمقاصد :
فبدع كثيرة منها الحيل التي توسع فيها أصحابها في إسقاط الصلاة وقاسوها على فدية الصوم، والمحل ليس محل قياس وهذه البدع بدع مركبة تجمع بين البدعة واستحلال المعاصي وهي كثيرة في الطلاق والأيمان وغيرها.
تحسين الظن بالعقل :
يقول الشاطبي : (إن الله جعل للعقول في إدراكها حدًا تنتهي إليه لا تتعداه ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون ؟ فعلْمُ الله لا يتناهى ومعلومات العبد متناهية والمتناهي لا يساوى ما لا يتناهى) اهـ .
وأوضح الأمثلة على ذلك ما رواه الشيخان عن أنس (رضي الله عنه) قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخْبروا بها كأنهم تقالُّوها وقالوا أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدًا . وقال الآخر وأنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال : (أنْتُمُ الَّذين قُلْتُمْ كذا وكذا ؟ أمَا والله إني لأخْشاكُمْ لله وأتْقَاكُمْ لَهُ وَلَكنِّي أصُوم وَأُفطرُ وأصلِّي وأرْقُدُ وأتزَوَّجُ النِّساءَ ، فمَنْ رغبَ عَنْ سُنّتي فليْس منِّي ) .
متابعة الهوى:
فإن الشريعة جاءت لإخراج المكلف من دواعي هواه حتى يكون لله عبدًا .
ولنذكر لذلك قول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [ التحريم :1]
فلم يرض الله عز وجل من خير خلقه عليه الصلاة والسلام أن يكون الشرع تابعًا لهواه بل أن يكون هو تابعًا للشرع داعيًا له لتحقيق معنى العبودية ، ولذلك صار عبدًا لله حقًا ولذا يذكر في أشرف المواضع بالعبودية ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ) [ الإسراء :1] ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ) [ الفرقان :1] .
إذا كان ذلك بالنسبة للنبي الخاتم فَمَن دونه من العلماء فضلاً عن غيرهم لا يقبل منهم متابعة للأهواء بل تُرَدّ أهواؤهم إلى الشرع الشريف، ومن متابعة الهوى جاءت جملة من البدع لا تقع تحت حصر.
ومما ساعد على انتشار البدع وكثرتها :
1- سكوت العلماء عن بيان الشريعة حتى ألف الناس منهم السكوت على ذلك فظنها العامة شرعًا.
2- مجاملة العظماء والحكام كأن ترى وجيها أو عظيمًا يقام لبعض أجداده مولد يجتمع فيه العلماء وتجاورهم البدع الكثيرة فيجاملونه ولا ينكرون من ذلك شيئًا .
3- اعتقاد العصمة في غير المعصوم وذلك هو المشهور عند أهل الطرق من المتصوفة ينقلون البدع بل المعاصي عن شيوخهم على أنها شرع وقربة لله تعالى.
البدعة والسنة الحسنة :
روى مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار قال فجاءه قوم حُفاة عُراة مُجْتَابي النِّمار أو العباء . متقلدي السيوف عامَّتهم من مُضر بل كُلُّهم من مُضر فَتَمَعَّر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقَة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذَّن وأقام فصلَّى ثم خطب فقال : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) .والآية التي في الحشر : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) .تصدَّقَ رَجُل مِنْ دينَاره مَنْ درْهمهِ مِنْ ثَوْبه مِنْ صَاعِ برِّه من صَاع تمْره حَتَّى قال وَلَوْ بِشقِّ تمْرَة قال فَجَاءَ رَجُل مِنْ الأنصارِ بصُرَّة كادتْ كَفُّهُ تَعْجَزُ عَنْهَا و بَلْ قَدْ عَجَزَتْ ، قال ثُمْ تَتَابَع الناسُ حتى رأيتُ كوْمينْ مِنْ طعَام وثياب حتَّى رأيتُ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَهلَّلُ كأنه مُذْهَبَة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مَنْ سَنَّ في الْإسْلَام سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرها وأجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَه مِنْ غَيرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أجورهِم شْئ وَمَنْ سَنَّ في الإسْلَام سُنَّة سَيِّئة كَانَ عَليْهِ وزْرُهَا وَوِزْر مَنْ عَمِلَ بهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْر أنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهمْ شَْئ) .
إن المطالع لهذا الحديث يتضح له أن السنة الحسنة أمر حث عليه الشرع فعمل به رجل واقتدى به الناس فصار له مثل أجورهم دون أن ينقص من أجورهم شيء. كذلك السنة السيئة أمر مما نهى عنه الشرع عمل به إنسان فاقتدى به الناس فعليه مثل أوزارهم دون أن ينقص من أوزارهم شيء. وفي ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا تُقْتَلُ نفس ظُلْمًا إلَّا كان على ابْنِ آدَمِ الْأول كِفل من دَمِهَا لأنَّه كانَ أوّلَ مَنْ سنَّ الْقتْلَ) [متفق عليه ] فليس الحديث (مَنْ سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنَةً) دليلاً على أن من البدع ما يكون حسنًا بل هو دعوة أن يكون المسلم قدوة في الطاعات وألا يكون رأسًا في المعاصي فنسأل الله التوفيق لاتباع صراطه المستقيم .
والله من وراء القصد.