الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وخير خلق الله أجمعين سيدنا محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين . وبعد :
فإن معركة حامية الوطيس ، مشتعلة الجزوة، متأججة لا تهدأ ، ولهيبها لا ينطفئ ، وبصيصها لا يخبو ، قد اشعلت كل يابس ، ثم أصابت الأخضر بالجفاف ، فصار يابسًا ، إلا من رحم ربي ممن تمسك بدينه والتحق بالمسلمين مقتديًّا بالأولين محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الأمين ، تلك هي المعركة الدائرة بين الشيطان والإنسان : ( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ) [ الإسراء : 62] ، وإن نتيجة الخاسر في المعركة عذاب شديد : ( قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ) [ الإسراء : 63] .
هذا، وإن الشيطان في عدواته ليستخدم كل ما يستطيع من وسائل لهدم الإنسان وإخراجه من أسباب سعادته إلى شقاوته في الدنيا والآخرة : ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ) [الإسراء : 64] ، ولا يظفر في تلك المعركة إلا من أطاع الله في شرعه ، ولزم الأنبياء في منهجهم ، واقتدى بهم : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ) [ الإسراء : 65] .
تلك المعركة تدور رحاها في الأسواق والشوارع والطرقات ، وقد تسربت إلى كافة المجتمعات ، إلا أن أصعب دروبها وأشد آثارها هو ما يحدث في البيوت وداخل الأسر وبين أفرادها ، ففي الحديث : ( إن إبليس يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة ، ثم يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئًا ، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ويقول : نِعْمَ أنت ) . رواه مسلم .
ولما كانت الأسرة دعامة الأمة ، فلقد سدد الشيطان إليها سهامه وتسلط عليها بحيله ليقضي عليها أو يفككها ، من أجل ذلك جعل الله في الشرع الشريف الذي أنزله على نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وجعل في الفطرة النقية السليمة كمال الحماية وجمال الحفظ للأسرة والسياج الواقي ، فلا يبلغها ضر ولا ينالها شر ، فمن أجل المحافظة على الأسرة في المحل الرفيع أحاطها بكافة الوسائل التي تعتني بها لتسلم من كافة الأخطار ، وتنجو من جميع الشرور ، من عمل بتلك الوسائل الشرعية سلم بأسرته من كيد الشيطان وأعوانه .
أولاً العناية الفطرية : جعل الله سبحانه الأسرة تلبية لحاجات فطرية لا تؤدى إلا بها ، فحاجة الرجل للمرأة وحاجتها له ، وحاجة الولد لهما ، وبقاء الطفل يحبو في ضعفه ، ويحتاج إلى رعاية سنوات طويلة ، إنما يكون ذلك في ظل أسرة تلقنه السلوك السوي وتطبعه بالخلق الكريم ، فالله سبحانه لم يجعل الإنسان كالحيوان يقضي شهوته ، ثم ينفصل عن أنثاه ويولد لها، فلا يسأل المولود عن أبيه ، بل وسرعان ما يستغني عن أمه ، فيقوم على رجليه ويطلب طعامه ، فلا يطلب من الحيوان تعلم في لغة أو سلوك اجتماعي ، إنما كل سلوكه إلهامات فطرية يؤديها الحيوان بغير تعلم .
ثانيًا العناية الشرعية : وهي التي تتمثل في نصوص القرآن التي عرَّفت الإنسان منذ كان (منيٍّ يمنى ) ، ثم خرج من بين الصلب والترائب ، ثم تدرج من نطفة إلى علقة ، إلى مضغة، إلى عظام ولحم ، حتى جعله الله خلقًا آخر ، ثم حدد أحكام حمله ورضاعه وفصاله وآداب تعلمه واستئذانه ، وأحكام بصره وسمعه وقلبه ولسانه ورجله ويده ، وكل أمر من أُموره ، ثم حدد أحكام المال والوقت والزواج والطلاق والموت والميراث وبين الفصل في الخصومات وحل المنازعات ، حدد الأحكام عند الوفاق والطمأنينة ، ووضع الحدود عند الخلاف والشجار والفرقة ، فكانت العناية الشرعية بالأسرة وبسائر أفرادها ، فوصى الإنسان بوالديه ، خاصة عند الكبر ، ووصى الوالدين بالوليد ، خاصة عند الرضاع وحال الصغر ، وشدد التوصية على الضعيف وعند الحاجة من فقر أو مرض ، فبين أحكام الأسرة وحدده تحديدًا كاملاً شاملاً لطيفًا ، وجعل لها منهجًا تسعد الأسرة إذا سارت عليه فيجني كل واحد ثمارًا شهية ، ويستمتع كل في تلك الأسرة بحياة طيبة يملؤها الرضا والسعادة والسرور .
جند الشيطان : لكن الشيطان جند جندًا هبت ريحهم لتعصف بالأسرة فغرست العداء بين الرجل والمرأة مع أن الله سبحانه جعل بينهم المودة والرحمة ، لكن الشيطان غرس بوسائله الشحناء والفرقة ، أما الأبناء عند الآباء ، فمع أن الله جعلهم زينة الحياة الدنيا فلقد أخذ الشيطان بجنده يعزل الأسرة ليهدمها هدمًا ، فصور لهم منهجًا يتربى عليه الصغير كله مفاسد سماها ( حرية ) ، ومنهجًا للكبير فيه الجمود سماه ( رجعية ) ، وابتدع منهجًا للنساء فيه التهتك والابتذال وسماه ( حضارة ) ، وزين للرجال منهجًا فيه التخلص من تحمل المسئولية ، كل ذلك وأكثر منه في تنوع عجيب يعرفه من عاصره ، فصارت الأسرة في دوامة لا خلاص منها إلا أن يخلصوا لله رب العالمين ، فيكونوا من عباده المخلَصين .
نظرة إلى الأسرة الحديثة : وإن الأسرة في كل مكان قد أصابها الخلل كلما بعدت عن شرع الله ، لكن الأسرة في بلاد الغرب ووسط ظلمات الكفر تعاني أكثر المعاناة ، ففيها يدفع الولد دفعًا ليعصي والديه ، وتحرض الزوجة تحريضًا لتشقى الحياة الزوجية ، حتى صار كيان الرجل بعد القوامة هامشيًّا تافهًا لا قيمة له ، حتى في البذل والإنفاق ، فهناك ينتزع الرجل من بين أهله وبيته بكافة الوسائل والإغراءات المادية والشهوات المبثوثة والمعلنة والمنتشرة ، حتى صار البيت جحيمًا لا يطاق ، فهرب الرجل من استبداد المرأة ، وارتفع عويل المرأة من تسلط الزوج ، وتحير الولد في تلك الأسرة المحطمة المفككة وصراع الحياة المريرة ، فكانت العقد والمشكلات الكثيرة ، فلا يعرف للمودة والرحمة في تلك الحياة موضعًا ، ولا للبر والإحسان فيها مكانًا ، ولا للطاعة والأُلفة والسعادة طعمًا ومذاقًا ، بل إنه الشقاء والمتشابك الحلقات ؛ لأن الله سبحانه توعد بقوله : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) [طه : 124] .
الخلاص في شرع الله : فكيف الخلاص إذًا ؟ وما هو السبيل ؟ وكيف ننجو من ذلك الضنك ؟
إن الله الذي خلق الإنسان هو الذي أنزل القرآن : ( الرَّحْمَنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْءَانَ(2)خَلَقَ الْإِنْسَانَ ) [ الرحمن : 1 - 3] .
إن الله الذي خلق الإنسان هو الذي شرع له سبيل النجاة وطريق الهداية : ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ) [ طه : 123] ، ( فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [ البقرة : 38] .
فمن أراد لنفسه الخير سلك ذلك السبيل واتبع هذا الهدى ، والأسرة في بلاد المسلمين تحتاج إلى شديد العناية بها في اتباع ذلك المنهج القويم ، والأسرة في بلاد الغرب تحتاج إلى العناية ألف ألف مرة ، حتى تقرب من طريق النجاة ؛ لأن الغربة مريرة ، والبعد جفاء وشقاء ، فلا سبيل إلا التعرف الدقيق على ذلك الطريق ، والحرص والتواصي على السلوك عليه والتعاون والنصيحة في ذلك السبيل . والله من وراء القصد .