الأسرة المسلمة … في بلاد الغرب

2010-12-04

صفوت نور الدين

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وخير خلق الله أجمعين ‏سيدنا محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين . وبعد :‏

فإن معركة حامية الوطيس ، مشتعلة الجزوة، متأججة لا تهدأ ، ولهيبها لا ‏ينطفئ ، وبصيصها لا يخبو ، قد اشعلت كل يابس ، ثم أصابت الأخضر بالجفاف ‏‏، فصار يابسًا ، إلا من رحم ربي ممن تمسك بدينه والتحق بالمسلمين مقتديًّا ‏بالأولين محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الأمين ، تلك هي المعركة الدائرة بين ‏الشيطان والإنسان : ( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ) [ الإسراء : 62] ، وإن نتيجة الخاسر في المعركة عذاب ‏شديد : ( قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ) [ الإسراء ‏‏: 63] .‏

هذا، وإن الشيطان في عدواته ليستخدم كل ما يستطيع من وسائل لهدم الإنسان ‏وإخراجه من أسباب سعادته إلى شقاوته في الدنيا والآخرة : ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ ‏اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ ‏وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ) [الإسراء : 64] ، ولا يظفر في تلك المعركة ‏إلا من أطاع الله في شرعه ، ولزم الأنبياء في منهجهم ، واقتدى بهم : ( إِنَّ عِبَادِي ‏لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا  ) [ الإسراء : 65] .‏

تلك المعركة تدور رحاها في الأسواق والشوارع والطرقات ، وقد تسربت إلى كافة ‏المجتمعات ، إلا أن أصعب دروبها وأشد آثارها هو ما يحدث في البيوت وداخل ‏الأسر وبين أفرادها ، ففي الحديث : ( إن إبليس يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث ‏سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة ، ثم يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا ‏وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئًا ، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى ‏فرقت بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ويقول : نِعْمَ أنت ) . رواه مسلم .‏

ولما كانت الأسرة دعامة الأمة ، فلقد سدد الشيطان إليها سهامه وتسلط عليها ‏بحيله ليقضي عليها أو يفككها ، من أجل ذلك جعل الله في الشرع الشريف الذي ‏أنزله على نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وجعل في الفطرة النقية السليمة كمال ‏الحماية وجمال الحفظ للأسرة والسياج الواقي ، فلا يبلغها ضر ولا ينالها شر ، ‏فمن أجل المحافظة على الأسرة في المحل الرفيع أحاطها بكافة الوسائل التي ‏تعتني بها لتسلم من كافة الأخطار ، وتنجو من جميع الشرور ، من عمل بتلك ‏الوسائل الشرعية سلم بأسرته من كيد الشيطان وأعوانه .‏

أولاً العناية الفطرية : جعل الله سبحانه الأسرة تلبية لحاجات فطرية لا تؤدى إلا ‏بها ، فحاجة الرجل للمرأة وحاجتها له ، وحاجة الولد لهما ، وبقاء الطفل يحبو ‏في ضعفه ، ويحتاج إلى رعاية سنوات طويلة ، إنما يكون ذلك في ظل أسرة تلقنه ‏السلوك السوي وتطبعه بالخلق الكريم ، فالله سبحانه لم يجعل الإنسان كالحيوان ‏يقضي شهوته ، ثم ينفصل عن أنثاه ويولد لها، فلا يسأل المولود عن أبيه ، بل ‏وسرعان ما يستغني عن أمه ، فيقوم على رجليه ويطلب طعامه ، فلا يطلب من ‏الحيوان تعلم في لغة أو سلوك اجتماعي ، إنما كل سلوكه إلهامات فطرية يؤديها ‏الحيوان بغير تعلم .‏

ثانيًا العناية الشرعية : وهي التي تتمثل في نصوص القرآن التي عرَّفت الإنسان منذ ‏كان (منيٍّ يمنى ) ، ثم خرج من بين الصلب والترائب ، ثم تدرج من نطفة إلى ‏علقة ، إلى مضغة، إلى عظام ولحم ، حتى جعله الله خلقًا آخر ، ثم حدد أحكام ‏حمله ورضاعه وفصاله وآداب تعلمه واستئذانه ، وأحكام بصره وسمعه وقلبه ‏ولسانه ورجله ويده ، وكل أمر من أُموره ، ثم حدد أحكام المال والوقت والزواج ‏والطلاق والموت والميراث وبين الفصل في الخصومات وحل المنازعات ، حدد الأحكام ‏عند الوفاق والطمأنينة ، ووضع الحدود عند الخلاف والشجار والفرقة ، فكانت ‏العناية الشرعية بالأسرة وبسائر أفرادها ، فوصى الإنسان بوالديه ، خاصة عند ‏الكبر ، ووصى الوالدين بالوليد ، خاصة عند الرضاع وحال الصغر ، وشدد التوصية ‏على الضعيف وعند الحاجة من فقر أو مرض ، فبين أحكام الأسرة وحدده تحديدًا ‏كاملاً شاملاً لطيفًا ، وجعل لها منهجًا تسعد الأسرة إذا سارت عليه فيجني كل ‏واحد ثمارًا شهية ، ويستمتع كل في تلك الأسرة بحياة طيبة يملؤها الرضا ‏والسعادة والسرور .‏

جند الشيطان : لكن الشيطان جند جندًا هبت ريحهم لتعصف بالأسرة فغرست ‏العداء بين الرجل والمرأة مع أن الله سبحانه جعل بينهم المودة والرحمة ، لكن ‏الشيطان غرس بوسائله الشحناء والفرقة ، أما الأبناء عند الآباء ، فمع أن الله ‏جعلهم زينة الحياة الدنيا فلقد أخذ الشيطان بجنده يعزل الأسرة ليهدمها هدمًا ، ‏فصور لهم منهجًا يتربى عليه الصغير كله مفاسد سماها ( حرية ) ، ومنهجًا ‏للكبير فيه الجمود سماه ( رجعية ) ، وابتدع منهجًا للنساء فيه التهتك والابتذال ‏وسماه ( حضارة ) ، وزين للرجال منهجًا فيه التخلص من تحمل المسئولية ، كل ‏ذلك وأكثر منه في تنوع عجيب يعرفه من عاصره ، فصارت الأسرة في دوامة لا ‏خلاص منها إلا أن يخلصوا لله رب العالمين ، فيكونوا من عباده المخلَصين .‏

نظرة إلى الأسرة الحديثة : وإن الأسرة في كل مكان قد أصابها الخلل كلما بعدت عن ‏شرع الله ، لكن الأسرة في بلاد الغرب ووسط ظلمات الكفر تعاني أكثر المعاناة ، ‏ففيها يدفع الولد دفعًا ليعصي والديه ، وتحرض الزوجة تحريضًا لتشقى الحياة ‏الزوجية ، حتى صار كيان الرجل بعد القوامة هامشيًّا تافهًا لا قيمة له ، حتى في ‏البذل والإنفاق ، فهناك ينتزع الرجل من بين أهله وبيته بكافة الوسائل ‏والإغراءات المادية والشهوات المبثوثة والمعلنة والمنتشرة ، حتى صار البيت جحيمًا ‏لا يطاق ، فهرب الرجل من استبداد المرأة ، وارتفع عويل المرأة من تسلط الزوج ، ‏وتحير الولد في تلك الأسرة المحطمة المفككة وصراع الحياة المريرة ، فكانت العقد ‏والمشكلات الكثيرة ، فلا يعرف للمودة والرحمة في تلك الحياة موضعًا ، ولا للبر ‏والإحسان فيها مكانًا ، ولا للطاعة والأُلفة والسعادة طعمًا ومذاقًا ، بل إنه الشقاء ‏والمتشابك الحلقات ؛ لأن الله سبحانه توعد بقوله : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ ‏مَعِيشَةً ضَنْكًا ) [طه : 124] .‏

الخلاص في شرع الله : فكيف الخلاص إذًا ؟ وما هو السبيل ؟ وكيف ننجو من ذلك ‏الضنك ؟‏

إن الله الذي خلق الإنسان هو الذي أنزل القرآن : ( الرَّحْمَنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْءَانَ(2)خَلَقَ ‏الْإِنْسَانَ ) [ الرحمن : 1 - 3] .‏

إن الله الذي خلق الإنسان هو الذي شرع له سبيل النجاة وطريق الهداية : ( فَمَنِ ‏اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ) [ طه : 123] ، ( فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ‏وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [ البقرة : 38] .‏

فمن أراد لنفسه الخير سلك ذلك السبيل واتبع هذا الهدى ، والأسرة في بلاد ‏المسلمين تحتاج إلى شديد العناية بها في اتباع ذلك المنهج القويم ، والأسرة في بلاد ‏الغرب تحتاج إلى العناية ألف ألف مرة ، حتى تقرب من طريق النجاة ؛ لأن ‏الغربة مريرة ، والبعد جفاء وشقاء ، فلا سبيل إلا التعرف الدقيق على ذلك ‏الطريق ، والحرص والتواصي على السلوك عليه والتعاون والنصيحة في ذلك السبيل ‏‏. والله من وراء القصد .‏

عدد المشاهدات 9723