الحمد لله سبحانه رب كل شيء ومليكه بيده ملكوت كل شيء علق سعادة الدارين بطاعته، وشقاءهما بمعصيته ومخالفة رسله : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [ طه : 123 ، 124 ] .
ولما كانت الدنيا دار ممر لا دار مستقر ، ودار اختبار وابتلاء لا دار مكافأة وجزاء ، لم يجعل فيها من صنوف الجزاء إلا ما يتعلق به التذكرة والعبرة ، بل أعطى الكافرين فيها عطاء طغوا به : ( فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) [ التوبة : 55] .
ومن شفقته سبحانه بخلقه أن لم يجعل المال والمتاع في الدنيا حكرًا على الكافرين ، فقال سبحانه : ( وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ(33)وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ(34)وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(35)وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36)وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) [ الزخرف : 33 - 37] .
واعلم أخا الإسلام أن الدنيا قليلة في أمدها ونعيمها ، بل قليلة في عذابها قليلة في شقائها وسعادتها ، وأن ما في القبر من العمر أطول من حياة العبد في الدنيا ، ومن الأهوال أشد وأفظع ، ويهون ما في القبر من الأهوال ، إذا قيس بما أعد الله ليوم البعث يوم القيامة ، يوم الحساب والنشور ، وأن الأشد والأكثر والأدوم والأطول من العذاب ما كان من عذاب في النار ، أجارنا الله وإياكم منها ، وجعل الله للأنبياء ومن تبعهم من المؤمنين العاملين مخرجًا ونجاة من كل ذلك ، وجعل عاقبتهم جنة عرضها كعرض السماوات والأرض أُعدت للمتقين ، فالفائز المفلح الذي ينجو يوم العرض فيزحزح عن النار ويدخل الجنة : ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ) [ آل عمران : 185] .
والعذاب الأخروي كثير الألوان شديد الوقع ، لا يحتمله أهل الصبر والجلد ، بل ولا يطيقه من الخلق أحد ، وجعل رب العزة عذاب يوم القيامة مقدمة له لا يطيقه الصابرون ، ويشفق منه الأنبياء والمرسلون ، فيقولون : ( سلم . سلم ) .
من ذلك العذاب الأخروي الفضيحة على ملأ الخلق جميعًا : ( ينصب لكل غدرة لواء يُقال : هذه غدرة فلان ابن فلان ) .
ومنه العطش الشديد الذي تنقطع منه الأعناق، ومنه الفزع والهلع الذي تنقطع منه القلوب وتبلغ القلوب الحناجر، ومنه دنو الشمس من الرءوس قدر ميل أو ميلين، وزيادة العرق، حتى يغرق فيه الخلق .
وربنا الرحمن الرحيم أعد في هذا اليوم العظيم للمؤمنين العاملين من كل هم فرجًا ، ومن كل ضيق مخرجًا ، فالعامل المخلص لربه المتتبع لشرعه يتغمده الله برحمته الواسعة في ذلك اليوم العصيب ، فيحميه بفضله ، وينجيه من كل كرب ، من ذلك أن جعل في ذلك اليوم للمؤمنين من العطش حوضًا يشرب منه الصالحون ، فلا يصيبهم الظمأ أبدًا ، وتقف ملائكة على الحوض تقصي أصحاب المحدثات ، فلا يشرب منه إلا من كان بالسنة مهتديًا ، وبالرسول صلى الله عليه وسلم مقتديًا ، وجعل في ذلك اليوم سترًا يستر به عباده ، فمن ستر مسلمًا في الدنيا ستره الله تعالى يوم القيامة ، وجعل لمن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، وأعد سبحانه في ذلك اليوم من الحر والعرق ظلاً لا يأوي إليه إلا من أرادهم الله برحمته ، فعدهم أصنافًا لا يملك غيرهم أن يشاركهم أو يستظل معهم إنما يبلغ الله ظله لأهل الظل وريه لأهل الري وستره لأهل الستر وهو على كل شيء قدير .
فانظر أيها العاقل الذكي ، يا من تستعد في الدنيا من عزوبتك لزواجك ، ومن ليلك لنهارك، وتستعد طوال سنتك إن كانت طالبًا ليوم امتحانك ، انظر فذلك اليوم أحق أن تستعد له : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ(20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون ) [الحشر : 18 - 21]، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 102] .
انظر أيها العبد بما تستحق الجنة وهي لا تنال بالأماني ، إنما بالتقوى : ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) [ مريم : 72] .
واعلم أن السالكين الصابرين من قبلك كثير ، قد صبروا على ما أوذوا حتى أتاهم نصر الله فأدركهم في الدنيا فأنجاهم الله من ضوائقها ، كما نجى موسى من فرعون ، ونجى لوطًا من قومه : ( وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِين ) [ الأنبياء : 88] ، وإن لم يدركهم الله في الدنيا بالنجاة اختبارًا لهم وإعلاء لقدرهم ، فهم مع المؤمنين من مثل أصحاب الأخدود قال عنهم الله سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) [ البروج : 11] ، واذكر قوله سبحانه : ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ(195)لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ) [ آل عمران : 195 - 198] .
واعلم أيضًا أن المفرطين من قبلك كثير كانوا أشد منك عتوًّا وجبروتًا فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر وجعلهم في قبورهم : ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) [ غافر : 46] ، ولا يكون ذلك نهاية مصيرهم ، إنما عذاب الآخرة أشد ، فأين أنت من فرعون ذي الأوتاد ، وعاد الذين استكبروا في الأرض بغير الحق ، وقالوا : من أشد منا قوة ، وثمود الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا ، وأصحاب الأيكة الذي بخسوا الكيل والميزان ، وطغوا بأموالهم ، وقالوا لنبيهم : فأسقط علينا كسفًا من السماء إن كنت من الصادقين ، وكل أولئك الجبابرة : ( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ) [ الأنفال : 59] ، فالعذاب الدنيوي لا يفوتهم ، فلا يجد عاص متكبر في معصيته إلا الذل والهوان ، وإن ظن ظان أنهم لم يكافئوا في الدنيا ، فإن في الآخرة عذاب النار لا ينجو منه كافر أبدًا قد زال عنه ملكه وسؤدده ، وجاءوا : ( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) [ المعارج : 44] .
هذا ، وينبغي أن يؤمن العبد :
أولاً : أن الأعمال أسباب يدخل بها الجنة أو النار ، وليست أثمانًا للجنة ، فإن العبد يدخل الجنة برحمة الله تعالى ، فجعل المولى سبحانه من تعرض لأسباب الرحمة فاز بالجنة بسبب الصالحات من الأعمال ، كالعبد يؤذيه الحر في الدنيا فيأوي إلى الظل ، والظل من رحمة الله، جعل الله الانتقال إليه سببًا لدفع الحر ، فإن غاب الظل فلا يطيق له ثمنًا ، ولو بذل ما يملكه.
ثانيًا : يؤمن العبد أن الله غني عن الخلق ، والخلق له فقراء فيسرع الفقير إلى باب الغني الكريم يدق الباب حتى يُفتح له ، ويعلم أنه إن لم يفتح له الباب فلا رحمة تشمله ، ولا خير يدركه ، فيحرص كل الحرص على طاعة ربه ، وطاعته في الإخلاص لله في العمل ، والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ليقبل عند الله سبحانه ، ورب العزة كريم لا يحرم عاملاً أخلص لربه وعمل بهديه الذي بعث به رسله .
ثالثًا : ينتقد عمله قبل العرض على الله سبحانه ، فالله مطلع على القلوب يعلم خفاياها ، فيقدم على ربه بعمل عبد معترف بنعم ربه المتفضل ، يوقن أن عمله عمل العبد الضعيف لربه القوي الذي خلقه ورعاه ، وهو محاسبه في الآخرة على دقيق العمل وجليله : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
رابعًا : الناس يوم القيامة على قسمين : ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(7)وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(8)فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9)وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10)نَارٌ حَامِيَةٌ ) [القارعة : 6 - 11] .
انظر أيها العبد بما تستحق الجنة وهي لا تنال بالأماني ، إنما بالتقوى : ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) [ مريم : 72] .
فهل الصلاة وهي أرجى الأعمال خلصت من سرقة الشيطان ونجت من سيطرة حاجات الدنيا عليك فيها فانشغلت في ذهنك بها ، وأنت تعلم أنها بيد الله رب العالمين ؟ وهل الزكاة خلصت من حظ النفس فأعطيت الزكاة للمحتاج لحاجته ، لا لحاجتك أنت في وصل قريب ترجوه ، أو عامل ترجو خدمته أو غير ذلك ؟ وهل الصوم جعلته صوم المراقبين لربهم ؟ تستشعر ما جاء في الحديث القدسي : ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) ؟!
وهل حجه حج من لم يرفث ولم يفسق ؟ فلم تؤذ الحجاج بزحام ، وترفعت عن سفاسف الكلام لترجع من ذنوبك نقيًا كيوم ولدتك أمك ؟ وهل أعددت توبة من الذنوب التي وقعت منك والملائكة شهدت عليك فيها وكتبتها في صحفك ، ذلك لتقبل على ربك بلا ذنب تؤخذ به ، فاليوم عظيم خطره ، شديد على الخلق كربه لا يستطيع عبد منه هربًا ولا يملك أن يخفي من سيئاته شيئًا ، فلا منجا ولا ملجأ من الله إلا إليه .
فما أحوجنا أن نراجع أنفسنا ونعلم أن مولانا سبحانه جعل للفوز بالنعيم والنجاة من العذاب الأليم أسبابًا وأن من هذه الأسباب أسباب الظل يوم القيامة يوم الحر الشديد والعرق العزيز وتلك التي جمع النبي صلى الله منها سبعًا في حديث واحد ، وفرق بقيتها في أحاديث كثيرة ، ذكرتها كتب السنة التي وصلتنا ، فلما أحوجنا للعلم بها وبسائر أسباب النجاة علم العبد المشفق على نفسه من ذلك اليوم الشديد العصيب ليعمل هربًا من الكرب وطلبًا للنجاة والفوز ، فالعذاب أليم شديد لا يطاق ، والنعيم مقيم عظيم .
خامسًا : حال الآخرة ليس كحال الدنيا يملك العبد فيه من سلوكه ما يملكه في الدنيا ، فالعبد لا يستطيع لوجهه تحويلاً إلا أن يوجهه ربه ، ولا يستطيع إن أراد السجود سجودًا إلا أن يمكنه ربه : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ) [ القلم : 42] .
أيها العبد العاقل ، كم جمعت لدنياك ، وهي قصيرة زائلة لا تجمع فيها إلا ما قدر الله لك ، وكم أضعت الوقت والجهد في ذلك ، قارن بين هذا وبين ما جمعت لآخرتك وهي طويلة لم يضمن لك فيها جنة ولا نار ، إنما من قدم وجد ، ومن لم يقدم فقد خسر ، فأي الرجلين أنت، وإلى أي الفريقين تأوي ، والفائز من فاز بالجنة ، فأين العمل ليوم المعاد .
والله من وراء القصد .