الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه ، وبعد :
ففي الحديث : ( بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء ) .
تصوير التحول : هب أن رجلاً قدم إلى بلد لا يعرفونه ، فمر يحمل حقيبته قاصدًا بيتًا معينًا فيها قد وصف له موضعه ، فهو يسير وملبسه في طرقاتها متجهًا نحو مقصده ، كلما مر على قوم نظروا إليه ، فإذا غريب لا يعرفونه ، فكانت غرابته سمة واضحة في خطوه وملبسة وهيئته ، وفي كل شيء من أمره ، حتى إذا بلغ المنزل الذي أراد بدأ فتعرف على ساكنيه باسمه ونسبه ، فزالت الغربة عن اسمه ونسبه ، ثم حط رجله وجلس بينهم وأخذ يحدثهم ويسألونه ، حتى ألفوا صوته وعرفوا منطقه ، ثم مرت الأيام وهو يحيا بين هؤلاء وهم يقدمونه لأهل قريتهم ، فيشاركهم مجالسهم ويساهم معهم في أعمالهم ويدلي بدلوه في أقضياتهم ويساهم برأيه في مشكلاتهم ، فمال القوم رويدًا رويدًا إليه ، حتى صار المقدم عندهم في كل أمر فصاروا لا يقطعون رأيًا دونه ولا يعقدون عقدًا إلا بمشورته ولا يفصلون في قضية إلا عن قوله ، فصارت تربيتهم لأبنائهم وتعلمهم في مجالسهم برأيه وقوله ، وصارت علاقاتهم الأسرية بين الرجل وزوجه وبينه وأهله كذلك عن إرشاده ونصحه ، حتى أسواقهم ومتاجرهم وبيعهم وشراؤهم قد صار إلى قوله وفصله ، فصار قوله وأصبح رأيه ، بل أضحى هو نفسه في كل مكان معروفًا مألوفًا محبوبًا .
ثم نبتت في تلك المجتمع نابتة وظهرت بوادر من بعض أبنائه ، بدأت في أسواقهم فخالفوا في تجارتهم قوله وعصوا أمره ، وخرجوا على الناس برأي لم يلتزموا فيه هديه ، فسرت تلك الطريقة في أهل الأسواق ، حتى صار لا موضع له في الأسواق ، فإن دخلها كان غريبًا ، ثم سرى الأمر من الأسواق إلى المنتديات والبيوت والطرقات ، حتى صارت غربته في كل شيء ، فصار الناس ينظرون إلى قوله وإرشاده ورأيه نظرة الغرابة ، فلا يعملون به ولا يتابعون ولا ينفذون ، فصار على نفسه منطويًا لا يجد بينهم مؤيدًا ولا نصيرًا ولا يجد منهم مستنصحًا ولا مستشيرًا ، حتى عاد غريبًا لا يجد منهم له جليسًا ولا أنيسًا ، فحمل حقيبته وحزم أمتعته وعاد يحملها يخرج من هذه القرية غريبًا كما بدأ .
هكذا تحول الإسلام في بلاد الإسلام يوم ظهر قال لهم : قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، فقالوا : ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) [ ص : 5] ، حتى دانوا له في ذلك فدخل معهم حتى حكم كل شيء ، فكان أمره عجبًا ، حكم أموالهم وأبناءهم ونساءهم ، وفصل في خصوماتهم ، فكان هو منهج البيت والمسجد ، ومنهج القلب في اعتقاده الذي روض البصر والسمع والرجل في خطوها واليد في حركتها والطعام الذي يأكلونه ، والملبس الذي يرتدونه ، حكم الحياة منهم وحكم الممات ، حكم الأفراح والأتراح ، وضبط منهم كل شيء على منهجه الذي ارتضاه لهم رب العالمين .
حتى نبتت نابتة شيطانية قالت : ( أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) [ هود : 87] ، فظنوا بجهلهم أن العمل بالإسلام لا يصلح في أمر الأموال ، فهجروا الإسلام في الأسواق ، ثم هجروه في الأفراح ، ثم هجروه في القضايا والفصل في المنازعات وحل الخصومات ، وهكذا رويدًا رويدًا ، حتى صار المتكلم به غريبًا ، والعامل به غريبًا ، والملتزم به غريبًا ، إن ذكروه فهو من أمر التاريخ القديم ، فهل سيرحل الإسلام عنهم، إنه ليس كغريب طرأ عليهم ليرحل بعد عنهم ؛ لأنه الدين الذي ارتضاه رب الأرض والسماء ، رب كل شيء ومليكه ، ففي هجره شقاء الدنيا والآخرة ، وفي الإعراض عنه الضنك في الدنيا والعمى في الآخرة : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [ طه : 124] .
هذا تصوير للغربة بعد الألفة ، والوحشة بعد الخلطة ، فإذا أردنا أن نعرف أسباب غربة الإسلام بيننا والتي أفشاها بيننا الشيطان فصارت عونًا له على إبعادنا عن ديننا ، فهي في أبعاد ثلاثة :
أولاً : البعد الزماني : حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته ) .
وقال سبحانه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا(58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) [مريم : 58 ، 59] .
ويظهر ذلك أيضًا في حديث العرباض بن سارية ، حيث حكى موعظة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ) .
فكلما بعد الناس زمانًا عن عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن صاحبه ، ظهرت البدع وكثرت ، وصارت السنة غريبة ، حتى من عمل بالسنة يصير فعله بين الناس مستغربًا .
وفي ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وإنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما يوعدون ) .
ويظهر من حديث ابن عمر في سؤال جبريل وذكر قصته كما ساقها في مسلم في أول ( صحيحه ) ، من قول يحيى بن يعمر : إن أول من أظهر الكلام في القدر في البصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجَّين أو معتمرين ، وقلنا : إن لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألناه عما يقول القوم … إلى آخر الحديث.
فكأنهم علموا أن إرجاع الأمر للصحابة الذين قربوا عهدًا بالنبي صلى الله عليه وسلم حل لمشكلاتهم .
فكانت إزالة البدع ، ونفي الغربة بالقرب من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتعلم الحال الذي هم عليه ، ولذلك فإن دور العلماء في كل زمان هو تقريب علوم القرآن والسنة للناس ، وتحقيق المناط في كل أمر حادث لينطبق عليه حكم من الأحكام الشرعية التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثانيًا : البعد المكاني : فلقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى المدينة منذ بدء دعوة الإسلام بها ، حتى غزوة الفتح ، وذلك حتى يكونوا معًا ، ويكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم يرعى أمرهم وينظم أحوالهم وينصح لهم ويصحح أخطاءهم ، ونهى عن البدو - أي سكنى البادية - كما نهى عن الإقامة بين الكافرين ، فقال : ( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) ، وحد ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ناراهما ) ، ذلك أن الإنسان يتأثر بمن يجاوره ويكون زوجه وولده في ذلك أكثر تأثرًا ونقلاً للأدب الذي هم عليه؛ لذلك حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصحبة والجوار ، فيقول - صلى الله عليه وسلم - : (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) ، ويحث على مجالسة الصالحين فيقول - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة ، ونافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحًا منتنة ) .
ولذلك فإن البدع من قدرية وخوارج وروافض واعتزال لم تظهر في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا في خلافة الشيخين أبي بكر وعمر ، ولم تظهر في مكة والمدينة ، ولم ينسب إلى هذه البدع أحد ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما كان ظهورها في العراق ومصر والبلاد التي بعدت مكانًا عن موطن الصحابة ووفرتهم ، وكان حل تلك البدع في الرحيل إلى الصحابة ، حيث هم وسؤالهم في ذلك لتوضيح ما غمض على الناس فهمه ، وفي ذلك زوال البدع وانحسارها ، وبقدر ما كان المسلم قريبًا من أهل العلم والصلاح بقدر ما يكون تأثره بذلك ومحافظته على أهله وولده ولزومه الخير ، حتى إنك ترى سهولة تعليم الولد والمحافظة على الأهل في البلاد التي يتوفر فيها أهل العلم والورع ، وترى أن المسلم الذي يقيم في بلاد الكفر وينجب أبناءه عندهم يصحب أبناءه عندهم يصعب عليه أن يُبقى ولده على الإسلام .
ففي بلاد المسلمين قد تصيب المعاصي الأبناء ، ولكنهم يبقون محافظين على الإسلام في أصله ، معتزين به في الانتساب إليه ، يستعظمون القول المخالف له ، لكن في بلاد الكفر يهون على الأولاد دينهم فيخرجون منه سريعًا ، فلا يبقى للمسلم هناك ذرية تعرف الإسلام أو تنتسب إليه .
ثالثًا البعد اللساني : وهذا البعد هام جدًّا لا يقل أهمية عن سابقيه ، حتى إن الدولة العثمانية التي كانت ختام الخلافة الإسلامية لما كان لسان أمرائها وقادتها غير العربية جعلت فاصلاً بين التشريع والقيادة ، فضعفت القيادة ، حتى انهارت .
هذا ، والقرآن والسنة نص الإسلام ، ووعاؤه لغة العرب فبقدر قرب المسلم من لغة القرآن ، بقدر ما يستطيع أن يفهم أحكامه وأن يتعرف على شرائعه وأوامره .
لذا فإن من الواجبات الشرعية محافظة المسلمين على لغة القرآن ومفرداتها ومعانيها وتعليمها لأبنائهم والتحدث بها .
هذه الأبعاد الثلاثة هي سبب الغربة والبدعة ؛ لذلك فالمسلم ملزم بأن يقيم بين أهل العلم وأن يرد ما يعرض عليه من أمور يحتاج فيها البيان إلى ما كان عليه قرون الخير من الصحابة ومن سار سيرتهم من التابعين وتابعيهم ، وأن يتعلموا القرآن ولغته ، وأن يعلموا أن مهمة تعليم القرآن ولغة القرآن مهمة البيوت والمساجد ، وأن من تمام المحافظة على الأبناء وحسن تربيتهم تعليمهم القرآن ولغة القرآن ، وأن يقوم بها اللسان ، ثم تعليم السنن وما كان عليه أهل الخير من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل العلم من بعده .
والله من وراء القصد .