قد نعلم من النصوص الشرعية أفضلية عمل بعينه، أو أنه أكثر ثواباً أو نفعاً للعبد، فيظن أحد أن المطلوب هو التزام ذلك وإن اختلفت الأحوال. هذا وكثيراً ما يقع الإنسان في الاختيار بين أمرين تنص الأحاديث على فضل أحدهما ويرى هو أنه أكثر حاجة للآخر. وقريب من هذا الباب الوقوع في ارتكاب أخف الضررين.
ومن ثم فهذه كلمة للإمام الجليل ابن القيم كتبها في كتابه المفيد (الوابل الصيب) يبين فيه هذه المسألة التي أرى أنها تصحح كثيراً من المفاهيم بل وهي تحذير من حيل الشيطان حيث يحاول أن ينقل الإنسان من الفاضل إلى المفضول في العمل أو الحال ليكسب هو الفارق فيقول رحمه الله تعالى:
قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء. هذا من حيث النظر لكل منهما مجرداً، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسبيح، والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد.. وكذلك إجابة المؤذن عند سماعه. وإن كان فضل القرآن على كل كلام البشر كفضل الله تعالى على خلقه، لكن لكل مقام مقال، متى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة وفقدت المصلحة المطلوبة منه. وهكذا الأذكار المقيدة بحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة، والقراءاة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن.
مثاله: أن يتفكر في ذنوبه فيحدث ذلك له نوبة من استغفار، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه. وكذلك أيضاً قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة أو ذكر لم يحضر قلبه فيها وإذا أقبل على الله يسأله إياه اجتمع قلبه كله على الله تعالى، وأحدث له تضرعاً وخشوعاً وابتهالاً، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجراً. وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفيس، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه: فللعين موضع وللرجل موضع، وللماء موضع وللحم موضع، وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي. والله تعالى الموفق. وهكذا الصابون والأشنان أنفع للثوب في وقت، والتجمير وماء الورد وكيه أنفع له في وقت آخر. وقد سئل بعض العلماء أيما أنفع للعبد التسبح أو الاستغفار؟ فقال إذا كان الثوب نقياً فالبخور وماء الورد أنفع له. وإن كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له.
ومن هذا الباب أن سورة ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) تعدل ثلث القرآن. ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعدة ونحوها. بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص.
فهذا أصل نافع جداً يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها، حتى لا يشتغل بمفضولها عن فاضلها فيربح إبليس الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها إن كان ذلك وقته فتفوته مصلحته بالكلية لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثواباً وأعظم أجراً. وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها، وفقه في إعطاء كل عمل منها حقه وتنزيله في مرتبته وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى منه وأفضل لإمكان تداركه وتعود إليه، وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه فالاشتغال به أولى. وهذا كترك القراءة لرد السلام وتشميت العاطس وإن كان القرآن أفضل، لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت. والله تعالى الموفق.
انتهى بتصرف يسير
محمد صفوت نور الدين