الحمد لله أكمل دين الإسلام وأتم به النعمة ورضيه لنا دينًا ومنهجًا ، وشرع - سبحانه - الشرع الذي جعل به حياة الخلق في الدنيا هنيئًا ، وفي الآخرة سعيدًا حظيًا .
وإن الصلاة من أهم شعائر الإسلام ، بل عمود فسطاطه ، فهي بعد التوحيد ثانية الأركان . لذا جاء بيانها في القرآن والسنة خير بيان فوضَّح الوحي سائر أحكام الصلاة توضيحًا جليًّا . ثم كان تطبيق الصحابة في حياة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - حتى إن الله - سبحانه - حباه بميزة في الصلاة ليست لغيره ولا في غيرها ، فقد أخرج أحمد والنسائي عن أنس - رضي الله عنه - قال : كان النبي - صلي الله عليه وسلم - يقول : ( استووا . استووا . استووا . فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي ) .
وإنما أعطاه رب العزة - سبحانه - هذه القدرة ليصحح للمسلمين أمر صلاتهم ، ويرشدهم إلى الصواب فيها لعظم قدرها .. لذا فإن الصلاة لا تترك سفرًا ولا حضرًا . صحة ولا مرضًا . حربًا ولا سلمًا .
والجماعة فيها لازمة ويضاعف أجرها بخمس وعشرين أو سبع وعشرين درجة على صلاة الفرد . ومن ثم جاءت أحكام الصلاة في التشريع دقيقة واضحة لا تحتاج إلى أدلة عموم في جل أمورها إنما لكل جزئية منها دليلها الخاص بحيث يندر أن يكون الدليل العام ينفرد بالمسألة فضلاً عن عمل الجمع الغفير من الصحابة - رضوان الله عليهم - والتابعين من بعدهم ، وأئمة الهدي في قرون الخير ، ثم في سائر القرون إلى اليوم ، وذلك الذي وضح أحكامها أكثر توضيحًا ؛ لأنها فرض على العالم والعامي ، والذكر والأنثى ، فيسر الله معرفة أحكامها وهيئاتها ، هذا ولقد دار حوار مع بعض أهل الفضل وطلبة العلم في مسألة مشهورة من مسائل الصلاة ألا وهي ماذا يفعل المسافر إذا كان الإمام مقيمًا هل يتم خلفه أم يقصر ، وإذا قصر أيسلم بعد ركعتين أم بعد الأربع (1) ، وإذا أدركه في الثالثة من الرباعية هل يسلم من بعد ركعتين ؟ وإذا قصر خلف المقيم أيسلم بعد ركعتين أم ينتظر الإمام جالسًا ليسلم معه ؟ وقبل أن نبحث المسألة نريد أن نذكر مسألتين .
الأولى : أيهما أفضل : إمامة المقيم أم المسافر ؟
والجواب : أن إمامة المقيم أولى ، وبيان ذلك من أقوال أهل العلم ، فيما يلي قال الخرقي في (المهذب ) : ( وإن اجتمع مسافر ومقيم فالمقيم أولى ؛ لأنه إذا تقدم المقيم أتموا كلهم فلا يختلفون ، وإذا تقدم المسافر اختلفوا ) .
وقال النووي في ( المجموع ) ( فرع ) ذكر المصنف والأصحاب أن المقيم أولى من المسافر، فلو صلى المسافر بمقيم فهو خلاف الأولى ، وهل هو مكروه كراهية تنزيه ؟ فيه قولان - ثم قال - وقال في (الأم ) : يُكْرَهُ ، وفي الإملاء : لا يكره ، وهو الأصح ؛ لأنه لم يصح فيه نهي شرعي ، هذا إذا لم يكن فيهم السلطان أو نائبه ، فإن كان فهو أحق بالإمامة وإن كان مسافرًا . ذكره الشيخ / أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب وآخرون ، ولا خلاف فيه ، وكلام المصنف هنا في التنبيه محمول على إذا لم يكن فيهم السلطان ولا نائبه .
وقال في ( المغني ) : والمقيم أولى من المسافر ؛ لأنه إذا كان إمامًا حصلت له الصلاة كلها في جماعة ، وإن أمَّهُ المسافر احتاج إلى إتمام الصلاة منفردًا . وإن ائتم بالمسافر جاز ، ويتم الصلاة بعد سلام إمامه ، فإن أتم المسافر الصلاة جاز صلاتهم ، وحكى عن أحمد في صلاة المقيم رواية أخرى : أنها لا تجوز ؛ لأن الزيادة نفل أمَّ بها مفترض .
والصحيح الأول ؛ لأن المسافر إذا نوى إتمام الصلاة أو لم ينو القصر لزمه الإتمام فيصير الجميع فرضًا .
الثانية : الأسفار في الإسلام كثيرة فمنها سفر الحج والعمرة وسفر الجهاد ، ومنها أسفار طلب العلم ، وأسفار صلة الرحم ، وأسفار التجارة وغيرها ، ومنها أسفار الوفود التي تفد إلى المدينة للإسلام وبيعة النبي - صلي الله عليه وسلم - ، كل هؤلاء كانوا يؤدون الصلاة ومن أدركها في المساجد خلف النبي- صلي الله عليه وسلم - في المدينة أداها ، وكذلك خلف الأئمة في قباء وفي المسجد الحرام وغير هذه المساجد ، فكيف كانوا يصلون ، وبما أمرهم النبي - صلي الله عليه وسلم - أو أقرهم على صلاتهم .
لابد أن يكون ذلك الأمر منصوصًا عليه بخصوصه ، فهم إذا صلوا خلف النبي- صلي الله عليه وسلم - في المدينة وسلموا بعد ركعتين أو انتظروا في الرباعية حتى يشرع في الثالثة ليصلوا خلفه لجاء ذكر ذلك ، والصلاة في المسجد الحرام منذ صارت مكة دار إسلام وهي لا تنقطع ، وكان عتاب بن أسيد أميرًا عليها بعد الفتح إلى أن مات في خلافة عمر بن الخطاب والناس يفدون للحج والعمرة والإمام الراتب للمسجد الحرام يصلي بهم ، فكيف كانت صلاتهم هل يتركون الجماعة أم يصلون مع الإمام ؟
فلما كان الإمام هو النبي - صلي الله عليه وسلم - صلى بالناس ثم قال : ( أتموا الصلاتكم، فإنا قوم سفر) . ولما صلى بهم عمر قال : أتموا الصلاة يا أهل مكة ، فكيف إذا كان الوافد آحاد الناس ورسول الله - صلي الله عليه وسلم - في حجة الوداع لم يصلِّ في المسجد الحرام غالب صلواته ، بل صلى فيه فروضًا معدودة ، فهل كانت تترك الصلاة في المسجد ؟
وماذا على من أدركته الصلاة من الحجيج في أثناء طوافه أو سعيه من المسافرين أو وافقته الصلاة وهو قريب من المسجد الحرام أيترك الإمام أم يصلي معه ؟ ولو تركه لجاء الدليل الخاص بذلك .
هذا نبدأ مستعينين بالله بذكر الأحاديث الموقوفة والمرفوعة في هذه المسألة :
حديث ابن عمر - رضي الله عنه - كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعًا فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين .
وأما حديث ابن مسعود فإنه استرجع لما علم بصلاة عثمان أربعًا بمنى ، ثم قال : صليت مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر - رضي الله عنه - ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان [ متفق عليه ] ، وزاد أبو داود في ( سننه ) ، قال الأعمش : فحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه أن عبد الله صلى أربعًا . قال : فقيل له : عبت على عثمان ، ثم صليت أربعًا ، قال : الخلاف شر . وأما حديث ابن عباس والذي أخرجه أحمد أنه سئل : ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد ، وأربعًا إذا ائْتَمَّ بمقيم فقال : ( تلك السنُّة ، وفي رواية: تلك سنة أبي القاسم ) معلوم أن لفظ ابن عباس هذا يفيد أن هذا هو أمر النبي - صلي الله عليه وسلم - إما بقوله وإما بإقراره للمصلين ، والحديث نص في المسألة لا ينازع بقياس ، ولا رأي . والله أعلم .
وإليك أقوال أهل العلم في هذه المسألة على سبيل الإيجاز والاختصار (2) ، ولذا نحب لمن أراد استيفاء البحث أن يراجع الأصول ، ومن ثم حرصت على ذكر مواضع النقول ، وإنما نقلت كلام ابن حزم من ( المحلى ) كاملاً لمخالفته أهل العلم في المسألة ، وجزمه بقول غريب اغتر به بعض من اطلع عليه وحرصت على توضيح شبهاته والرد عليها . والله المستعان .
قال في الفقه على المذاهب الأربعة ( ج1ص422) : من شروط القصر أن لا يقتدي المسافر الذي يقصر الصلاة بمقيم أو مسافر يتم الصلاة، فإن فعل ذلك وجب عليه الإتمام سواء اقتدى في الوقت أو بعد خروج الوقت باتفاق ثلاثة من الأئمة ، وخالف الحنفية قالوا : لا يجوز اقتدى المسافر بالمقيم إلا في الوقت …. الخ .
في ( موسوعة الإجماع ) ( ج2ص701) : إن المسافر إذا اقتدى بمقيم صلى صلاة مقيم باتفاق .
في ( المجموع ) للنووي (ج4ص211) :
قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : شرط القصر أن لا يقتدي بمتم ، فمن اقتدى بمتم في لحظة من صلاته لزمه الإتمام .
في ( عقد الجواهر الثمينة من مذهب عالم المدينة ) (فقه مالكي ) :
الشروط : ألا يقتدي بمقيم ، فإن اقتدى به وصححنا صلاته لزمه الإتمام على المشهور .
في ( الموطأ ) ( ج1ص164) :
عن ابن عمر أقام بمكة عشر ليال يقصر الصلاة ، إلا أن يصليها مع إمام فيصليها بصلاته ، وفي ( الموطأ أيضًا : عن نافع أن ابن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعًا ، فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين .
راجع أيضًا ( الاستذكار ) لابن عبد البر المالكي ( ج6ص116)مسألة 322 وجاء فيها : عن مالك قال : من أدرك من صلاة المقيم ركعة وهو مسافر لزمه الإتمام ، ومن لم يدركها فصلاته ركعتان .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الفتاوى ) (ج14ص92) : فإن المسافر لو اقتدى بمقيم لصلى خلفه أربعًا لأجل متابعة إمامه ، وفي ( ج2 ،ص243) : إن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم الصلاة إذا أدرك ركعة فإن أدرك أقل من ركعة فعلى قولين ، وفي (المغني ) (ج3ص143)مسألة 275) قال : وإذا دخل مع مقيم وهو مسافر أتم .
وجملة ذلك أن المسافر متى ائتم بمقيم لزمه الإتمام سواء أدرك جميع الصلاة أو ركعة أو أقل ( وبسط المسألة ) حتى قال : ولأنه فعل من سميناه من الصحابة ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفًا ( ثم قال ) :
(فصل) وإذا أحرم المسافر خلف مقيم أو من يغلب على ظنه أنه مقيم أو من يشك هل هو مقيم أو مسافر لزمه الإتمام ، وإن قصر إمامه ؛ لأن الأصل وجوب الصلاة تامة ، فليس له قصرها مع الشك في وجوب إتمامها ، ويلزمه إتمامها اعتبارًا بالنية .
وفي ( المبسوط ) ( ج1ص243) : وأما اقتداء المسافر بالمقيم في الوقت تجوز ويتغير فرضه ، هكذا روي عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - ( ومعنى يتغير فرضه : أي من ركعتين إلى أربع ركعات في الصلاة الرباعية ) ، ويراجع أيضًا (بداية المجتهد ) (ج1ص235) ، و ( نيل الأوطار ) (ج3ص167) .
قال ابن حزم في ( المحلى ) (ج5ص31مسألة518):
فإن صلى مسافر بصلاة إمام مقيم قصر ، ولابد وإن صلى مقيم بصلاة مسافر أتم ولابد وكل أحد يصلي لنفسه ، وإمامة كل واحد منهما للآخر جائزة ولا فرق .
روينا من طريق عبد الرزاق عن سعيد بن السائب عن داود بن أبي عاصم قال : سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر ؟ فقال : ركعتان : قلت : كيف ترى ونحن ههنا بمنى ؟ قال : ويحك سمعت برسول الله - صلي الله عليه وسلم - وآمنت به ؟ قلت : نعم . قال : فإنه كان يصلي ركعتين ، فصل ركعتين إن شئت أو دع . هذا بيان جلي يأمر ابن عمر مسافرًا أن يصلي خلف المقيم ركعتين فقط .
ومن طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم عن عبد الرحمن بن تميم بن حزلم قال : كان أبي إذا أدرك من صلاة المقيم ركعة وهو مسافر صلى إليها أخرى ، وإذا أدرك ركعتين اجتزأ بهما . قال علي : تميم بن حزلم من كبار أصحاب ابن مسعود - رضي الله عنه .
وعن شعبة عن مطر بن فيل عن الشعبي قال : إذا كان مسافرًا فأدرك من صلاة المقيم ركعتين اعتد بهما . وعن شعبة عن سليمان التيمي قال : سمعت طاوسًا سألته عن مسافر أدرك من صلاة المقيم ركعتين ؟ قال : تجزيانه . قال علي : برهان صحة قولنا ما قد صح عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -من أن الله - تعالى -فرض على لسانه- صلي الله عليه وسلم -صلاة الحضر أربعًا ، وصلاة السفر ركعتين .
وحدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عبدة بن عبد الرحيم عن محمد بن شعيب نا الأوزاعي عن يحيى - هو ابن أبي كثير - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمرو بن أمية أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال له : ( إن الله قد وضع عن المسافر الصيام ونصف الصلاة ) ، ولم يخص - عليه السلام - مأمومًا من إمام من منفرد : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) ، وقال - تعالى - ( وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .
قال علي : والعجب من المالكيين والشافعيين والحنفيين القائلين بأن المقيم خلف المسافر يتم ولا ينتقل إلى حكم إمامه في التقصير ، وأن المسافر خلف المقيم ينتقل إلى حكم إمامه في الإتمام ، وهم يدعون أنهم أصحاب قياس بزعمهم ، ولو صح قياس في العالم لكان هذا أصح قياس يوجد ، ولكن هذا مما تركوا فيه القرآن والسنن والقياس ، وما وجدت لهم حجة إلا أن بعضهم قال : إن المسافر إذا نوى في صلاته الإقامة لزمه الإتمام ، والمقيم إذا نوى في صلاته السفر لم يقصر ، قال : فإذا خرج بنيته إلى الإتمام فأحرى أن يخرج إلى الإتمام بحكم إمامه .
قال علي : وهذا قياس في غاية الفساد ؛ لأنه لا نسبة ولا شبه بين صرف النية من سفر إلى إقامة وبين الإتمام بإمام مقيم ، بل التشبيه بينهما هوس ظاهر .
واحتج بعضهم بقول النبي - صلي الله عليه وسلم - : ( إنما جُعِل الإمامُ ليؤتم به) ، فقلنا لهم : فقولوا للمقيم خلف المسافر أن يأتم به إذن فقال قائلهم : قد جاء : (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ) ، فقلت : لو صح هذا لكان عليكم ، لأن فيه أن المسافر لا يتم ولم يفرق بين مأموم ولا إمام ، فالواجب على هذا أن المسافر جملة يقصر ، والمقيم جملة يتم ولا يراعي أحد منهما حال إمام . وبالله - تعالى - التوفيق .
ونحن ننقل رد أهل العلم على ابن حزم فيما يلي :
قال أبو بكر بن المنذر في ( الأوسط ) (ج4ص338) :
ذكر اختلاف أهل العلم في مسافر صلى خلف إمام مقيم فقالت طائفة - يصلي بصلاتهم - روينا هذا القول عن ابن عمر وابن عباس ، وبه قال الحسن البصري وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، وجابر بن زيد ، ومكحول .
حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر والثوري عن سليمان التيمي عن أبي مجلز قال : قلت لابن عمر : أدركت ركعتين من صلاة المقيمين وأنا مسافر ؟ قال : صلِّ بصلاتهم .
حدثنا إسماعيل بن قتيبة ثنا أبو بكر ثنا حفص بن غياث عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال : إذا دخل المسافر في صلاة المقيمين صلى بصلاتهم ، وبه قال سفيان الثوري والأوزاعي ومعمر والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي .
وقالت طائفة : إذا أدرك المسافر بعض صلاة المقيمين صلى بصلاتهم ، وإن أدركهم جلوسًا صلى ركعتين ، هذا قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي والزهري وقتادة ، وقال مالك ، إذا أدرك المسافر التشهد من صلاة المقيمين صلى ركعتين .
قال أبو بكر : وكأن الحسن والنخعي رأيا أن المسافر إذا أدرك من صلاة المقيم بعض الصلاة صلى بصلاتهم ، وإن أدركهم جلوسًا صلى ركعتين فلا يكون ما ذكرناه عنهما مختلفًا . والله أعلم .
وفيه يقول مالك : في المسافر يدرك من صلاة المقيم ركعتين يجزيانه ، هكذا قال طاوس ، وبه قال النخعي وتميم بن حزلم ، وقال إسحاق في المسافر يدخل في صلاة المقيم وينوي صلاة نفسه يصلي ركعتين ويجلس ويسلم ويخرج وإن أدرك المقيم جالسًا في آخر صلاته فعليه صلاة المسافر .
قال أبو بكر : فمن ادعى الإجماع في المسافر يدخل في صلاة المقيم مع ما ذكرناه من اختلاف فيه قليل المعرفة بالإجماع والاختلاف في هذه المسالة : ( انتهى من (الأوسط ) .
فانظر رعاك الله إلى موضع النزاع تَرَهُ في :
أ - من صلى مع الإمام الرابعة هل يصلي ركعة واحدة ؟ ومن صلى الثالث والرابعة هل يكتفي بهما ؟
ب - من صلى من أول الصلاة هل يكتفي بالأولى والثانية . فإن اكتفى فهل يسلم أم يجلس ينتظر إمامه ليسلم معه .
من هذا العرض نرى أن المذاهب الأربعة على إتمام المسافر إذا صلى وراء إمام مقيم وأنه لم يخالف في ذلك سوى ابن حزم وتلك حججه التي ساقها :
أ - حديث داود بن عاصم في سؤاله لابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان ، ورفع ذلك للنبي- صلي الله عليه وسلم - ، ثم قال ابن حزم : ( وهذا بيان جلي بأمر ابن عمر المسافر أن يصلي خلف المقيم ركعتين ) ، وليس في الحديث ( خلف المقيم ) ، بل ما جاء عن ابن عمر هنا أن صلاة المسافر ركعتين ، أما ما جاء عن ابن عمر بالصلاة خلف المقيم فهو ما رواه مسلم في ( صحيحه ) عن نافع عن ابن عمر قال : صلى رسول الله- صلي الله عليه وسلم - بمنى ركعتين وأبو بكر بعده وعمر بعد أبي بكر ، وعثمان صدرًا من خلافته ، ثم إن عثمان صلى بعدُ أربعًا ، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا ، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين . والحديث في (الموطأ ) بالسلسلة الذهبية .
فكيف يستنبط ابن حزم أن المسافر خلف المقيم يصلي ركعتين ويستند إلى ما نسبه لابن عمر.
أما ما رواه عن تميم بن حزلم أنه إذا أدرك من صلاة المقيم ركعة وهو مسافر صلى إليها أخرى ، وإذا أدرك ركعتين اجتزأ بهما . ثم قال ابن حزم وتميم بن حزلم - من كبار أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه - ففي ذلك مسائل :
الأولى : أنه ليس في الحديث ما قاله ابن حزم: ( فإن صلى مسافر بصلاة مقيم قصر ولا بد). بل فيه أن يقصر لمن أدرك ركعة أو ركعتين . أما من أدرك الصلاة من أولها أو أدرك ثلاث ركعات فإنه يصلي صلاة مقيم .. ومع ذلك فقول ابن حزلم خلاف قول ابن مسعود .
الثانية : أنه لما وثق تميم بقوله من كبار أصحاب ابن مسعود فهذا ابن مسعود شيخه وهو من أجلاء الصحابة يروي عنه البخاري ومسلم وتزداد الرواية وضوحًا بزيادة في أبي داود . عن عبد الرحمن بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر - رضي الله عنه - ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمنى ركعتين . فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان . (زاد أبو داود) قال الأعمش : فحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه أن عبد الله صلى أربعًا .
قال : فقيل له : عبت على عثمان ثم صليت أربعًا : قال : الخلاف شر .
وما ذكر عن طاوس هو مثل ما ذكر عن تميم ، وكذلك الشعبي .
فانظر رعاك الله إلى عمل ابن مسعود ، فإن خالف أحد تلامذته وعلمه من طريقة فلا يكون ذلك إلا فهما من قبله ، والصحيح ما عليه الصحابي الجليل ابن مسعود بخاصة أنه ليس له من الصحابة مخالفٌ ، بل كل ما جاء عن الصحابة في صلاتهم خلف المُتِمِّ فهو الإتمام .
أما ما ساقه ابن حزم بعد ذلك من أدلة فهي أدلة عموم لا تصلح في ذلك الموضع الخاص خاصة وفي المسألة دليل خصوص مروي في ( مسند أحمد ) بسند صحيح أن ابن عباس سُئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد ، وأربعًا إذا ائتم بمقيم ، فقال : تلك السنة ، وفي رواية ( تلك سنة أبي القاسم ) ، وهذا الحديث نص في المسألة لا يقف أمامه قول أحد فضلاً عن الرأي والقياس وما بعد ذلك من كلام ابن حزم مردود ؛ لأن صلاة المقيم خلف المسافر فيها حديث صريح صحيح خاص قال فيه النبي - صلي الله عليه وسلم - : ( أتموا الصلاة فإنا قوم سفر ) ، وتبعه عمر في قوله ( أتموا الصلاة يا أهل مكة ) .
أما ذكره ابن المنذر من أن المسألة ليست من مسائل الإجماع ، فلقد قال ابن قدامة في (المغني) : ( ولأنه فعل من سميناه من الصحابة ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفًا ) ، وإن كان هناك فرق معلوم بين قول : ( إجماع ) ، وبين : ( لا نعرف لهم في عصرهم مخالفًا ) إلا أن القول قوي يفيد ضعف ، بل شذوذ القول المخالف . والله أعلم .
بقي أن نقول إن الخلاف المعتبر في المسألة هو ما كان بين المالكية والمذاهب الثلاثة من أن المسافر إذا أدرك أقل من ركعة مع الإمام المقيم لا يتابعه ، وقد وافق على ذلك ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وهي مسألة راجعة إلى ( حديث من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة ) ، وإن كان عندهم أن من أتم خلف المقيم فصلاته صحيحة ، فمن أراد الاحتياط أتم ، ومن لم يدرك ركعة وعلم حكم المسألة فقصر فلا حرج .
وعلى هذا فصلاة المقيم أربعًا ، وكل من ائتم به في ركعة كاملة صلى أربعًا . والله أعلم .
كنت قد جمعت الأقوال من كتب الفقه مفصلة في المسألة فلما رأيت طول العرض اقتصرت على ما سيأتي من كلام المذاهب الأربعة ومن وافقهم إلا ابن حزم لمخالفته في المسألة.