الحمد لله أكمل دين الإسلام ، وأتم به النعمة ، ورضيه دينًا ومنهجًا ، وشرع سبحانه الشرع الذي جعل به حياة الخلق في الدنيا هنيئًا، وفي الآخرة سعيدًا حظيًّا ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه ومصطفاه برسالته ، أما بعد :
عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : دفعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالأبطح في قبة حمراء من أدم وكان بالهاجرة ، ورأيت بلالاً خرج فنادى ، فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا بالأذان ، ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورأيت الناس يبتدرون ذاك الوضوء ، فمن أصاب منه شيئًا تمسح به ، ومن لم يصب منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه ، ثم رأيت بلالاً دخل فأخذ عنزة فركزها بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وأقام الصلاة ، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمراء مشمرًا كأني أنظر إلى وبيص ساقيه ، فركز العنزة ثم صلى إلى العنزة بالناس الظهر ركعتين والعصر ركعتين ، ورأيت الناس والدواب ( وفي رواية الحمار والمرأة ) يمرون بين يدي العنزة ، وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال : فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب من رائحة المسك (متفق عليه).
فيستحب للمصلي أن يصلي إلى سترة ، إمامًا كان أو منفردًا ، لحديث أبي جحيفة المتفق عليه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - رُكزت له العنزة ، فتقدم فصلى الظهر ركعتين يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع ، ولحديث طلحة بن عبيد الله عند مسلم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا وضع أحدم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من وراء ذلك ) ، قال ابن قدامة : ولا نعلم في استحباب السترة خلافًا ، أما المأموم فإن سترة الإمام سترة لمن خلفه لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال : ( أقبلت على حمار أتان ، والنبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار ، فمررت بين يدي بعض الصف ، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ، ودخلت في الصف فلم ينكر عليَّ أحدٌ ) . [ متفق عليه ] .
ولذلك قال الترمذي في ( سننه ) : والعمل على هذا عند أهل العلم ، وبوب البخاري بقوله : سترة الإمام سترة لمن خلفه ، أي أن صلاة الإمام والمأمومين صحيحة ما لم يمر شيء بين الإمام وسترته ، ولا يضر صلاته مرور شيء بين يدي الصف ، ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - صلى إلى جدار ، فجاءت بهمة تمر بين يديه ، فمازال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ، فمرت من ورائه ، (والبهمة ولد الشاة ، ويدارئها بالهمز : يدافعها ) ، ولو أن سترته سترة لهم لكان مرورها من خلفه يضر من خلفه في صلاتهم .
أما عن مقدار السترة فهي بقدر عظم الزراع وما قاربه ، لحديث مسلم عن طلحة بن عبيد الله المذكور سابقًا - أما عن غلظها - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استتر بالجدار واستتر بالسهم والحربة ، فيجوز أن تكون دقيقة أو غليظة ، وإن كان لفظ حديث أحمد : ( إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم ) ، يدل على أن ما كان أكبر من السهم طولاً وعرضًا أولى من ذلك .
وأما عن المسافة بين المصلي وسترته فالسُّنة أن يقترب منها ، لحديث أبي داود عن سهل بن خيثمة مرفوعًا : ( إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته ) .
قال الخطابي : قال عطاء : أدنى ما يكفيك أن يكون بينك وبين السترة ثلاثة أذرع ، وبه قال الشافعي وعن أحمد نحوه ، وأخبر ابن المنذر أن مالك بن أنس كان يصلي يومًا متباينًا عن السترة ، فمر به رجل وهو لا يعرفه ، فقال : أيها المصلي أدن من سترتك ، فجعل يتقدم وهو يقرأ : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) . انتهى .
وفي ( البخاري ) قدَّر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة ، ثم ساق حديث سهل قال : (كان بين مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار ممر الشاة ) .
ويجوز أن يكون سترته في إنسان أو حيوان كالبعير ، لحديث البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض راحلته فيصلي إليها .
قال ابن قدامة في ( المغني ) : فإن استتر بإنسان فلا بأس ، لأنه يقوم مقام غيره من السترة ، وقد روي عن حميد بن هلال قال : رأى عمر بن الخطاب رجلا يصلي والناس يمرون بين يديه ، فولاه ظهره ، وقال بثوبه هكذا ، وبسط يديه هكذا ، وقال : صل ولا تعجل ، وعن نافع قال : كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا إلى سارية من سواري المسجد قال : ولني ظهرك . (انتهى ) .
أما حديث أبي داود عن ابن عباس مرفوعًا : ( لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث ) ، فلا يصح لضعف سنده كما قال الخطابي ، ثم قال : وقد ثبت أن النبي- صلى الله عليه وسلم - صلى وعائشة نائمة معترضة بينه وبين القبلة ، وأما الصلاة إلى المتحدثين فقد كرهها الشافعي وأحمد ، وذلك من أجل أن كلامهم يشغل المصلي عن صلاته . ( انتهى ) .
أما عن الخط يتخذه سترة في الصلاة ، فقد قال به أحمد - رحمه الله - لكن الحديث فيه ضعيف لا يصح ، وقد أخرجه أبو داود وقال : قال سفيان : لم نجد شيئًا نشد به هذا الحديث ، ولم يجيء إلا من هذا الوجه ، قال النووي عند حديث : ( أقل السترة مؤخرة الرحل ) : واستدل القاضي عياض - رحمه الله تعالى - بهذا الحديث على أن الخط بين يدي المصلي لا يكفي ، ثم قال النووي : فإن لم يجد عصًا أو نحوه جمع أحجارًا أو ترابًا أو متاعًا ، وقد أنكر الخط أبو حنيفة ومالك والليث بن سعد والشافعي في ( الجديد ) .
وحديث أبي داود عن المقداد بن الأسود قال : ( ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى عود ، أو عمود ، ولا شجرة ، إلا جعله عن حاجبه الأيمن ، أو الأيسر ، ولا يصمد إليه صمدًا ) ، فهو حديث ضعيف ، انظر (جامع الأصول ) رقم ( 3746) ، و ( ضعيف سنن أبي داود ) رقم ( 134) .
هذا وكره أهل العلم النار والتنور في القبلة ، وكذا التصاوير ، أو الثوب فيه تصاوير لحديث عائشة عند ( البخاري ) : ( أميطي عنا قرامك ، فإنه لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي ) .
قال ابن قدامة : وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ما أيده الله تعالى به من العصمة والخشوع يشغله ذلك فغيره من الناس أولى . ( انتهى ) .
أما عن القبر يستقبله في صلاته فلا يجوز ذلك ، وتحرم الصلاة ، والإثم عظيم للنصوص الكثيرة في ذلك ، والسترة مشروعة في الصحراء والبنيان ، فحديث أبي جحيفة كان في فضاء، وحديث سهل كان في بناء ، وفي الحديث عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة ( أي : السارية ) ، وقال البخاري : قال عمر : المصلون أحق بالسواري من المتحدثين إليها ، ورأى عمر رجلاً يصلي بين اسطوانتين فأدناه إلى السارية فقال : صلِّ إليها .
قال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) ( فائدة ) : اعلم أن ظاهر أحاديث الباب عدم الفرق بين الصحاري والعمران ، وهو الذي ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ السترة ، سواء كان في الفضاء أم في غيره ، وحديث : ( أنه كان بين مصلاه وبين الجدار ممر شاة ) ظاهر أن المراد في صلاة في مسجده ؛ لأن الإضافة للعهد ، وكذلك حديث صلاته في الكعبة ، فلا وجه لتقييد مشروعية السترة بالفضاء . ( انتهى ) .
السترة بمكة والسترة بالحرم
نصوص أحاديث السترة لا تفرق بين مكة وغيرها إلا حديث أبي داود عن المطلب أنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة ، قال سفيان : ليس بينه وبين الكعبة سترة ، والحديث ضعيف ، ولكن عند أحمد جواز ذلك في مكة والمسجد الحرام عند الطواف ، ولعل ذلك عند تعذر السترة ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : لو صلى المصلي في المسجد الحرام والناس يطوفون أمامه لم يكره ، سواء مر أمامه رجل أو امرأة . ( انتهى ) .
ولعل الاستثناء ليس أمرًا عامًا ، وإنما لقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) .
قال ابن حجر في ( الفتح ) : أراد البخاري ألا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة ، واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة ، وهذا هو المعروف عند الشافعية ، وأن لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي في مكة وغيرها ، واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة ، وعند بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة . ( انتهى بتصرف ) .
قال العيني في ( العمدة ) : كل من يصلي في مكان واسع فالمستحب له أن يصلي إلى سترة بمكة كان أو غيرها ، إلا أن يصلي بمسجد مكة بقرب الكعبة حيث لا يمكن لأحد المرور بينه وبينها ، فلا يحتاج إلى سترة إذ قبلة مكة سترة له ، فإن صلى في مؤخرة المسجد بحيث يمكن المرور بين يديه أو في سائر بقاع مكة إلى غير جدار أو شجرة أو ما اشبههما فينبغي أن يجعل ما يستره من المرور بين يديه ) .
قال الألباني في ( صفة صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم - ) (ص72)الطبعة السابعة :
* السترة ووجوبها :
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقف قريبًا من السترة ، فكان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع ، وبين موضع سجوده والجدار ممر شاة ، وكان يقول : ( لا تصل إلا إلى سترة ، ولا تدع أحدًا يمر بين يديك ، فإن أبي فلتقاتله فإنه معه القرين ) ، ويقول : (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته ) ، وكان - أحيانًا - يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي في مسجده ، وكان إذا صلى في فضاء ليس فيه شيء يستتر به غرز بين يديه حربة فيصلي إليها والناس وراءه ، وأحيانًا كان يعرض راحلته فيصلي إليها ، وهذا خلاف الصلاة في أعطان الإبل ، فإنه نهى عنها ، وأحيانًا كان يأخذ الرحل فيعد له فيصلي إلى آخرته ، وكان يقول : ( إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصلِّ ولا يبالي من مر وراء ذلك ، وصلى مرة إلى شجرة ، وكان أحيانًا يصلي إلى السرير وعائشة رضي الله عنها مضطجعة عليه تحت قطيفتها ، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يدع شيئًا يمر بينه وبين السترة ، فقد كان يصلي إذ جاءت شاة تسعى بين يديه فساعاها حتى ألزمه بطنه بالحائط ، ومرت من ورائه ، وصلى صلاة مكتوبة فضم يده ، فلما صلى قالوا : لا رسول الله أحدث في الصلاة شيئ ؟ قال : ( لا ، إلا أن الشيطان أراد أن يمر بين يدي فخنقته ، حتى وجدت برد لسانه على يدي ، وأيم الله لولا ما سبقني إليه أخي سليمان لارتبط إلى سارية من سواري المسجد حتى يطيف به ولدان أهل المدينة ، فمن استطاع أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل ) ، وكان يقول : ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره وليدرأ ما استطاع - وفي رواية : فليمنعه ( مرتين ) - فإن أبي فليقاتله ، فإنما هو شيطان ) .
وكان يقول : ( لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه ؟ لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه ) ، وكان يقول : (يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كآخرة الرحل والمرأة الحائض ، والحمار والكلب الأسود ) ، قال أبو ذر رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله ما بال الأسود من الأحمر ؟ فقال : ( الكلب الأسود شيطان ) .
أهمية السترة للمصلي
قال النسائي في توضيح ( الأحكام ) :
وللسترة فوائد منها :
1- أن اتخاذها هو سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية والتقريرية ، وإحياء السُّنة واتباعها هو الصراط المستقيم .
2- أنها تقي الصلاة المقطع إن كان المار مما يقطعها عند من يقول بذلك ويقيها النقص إن كان ينقصها .
3- أنها تحجب النظر عن الشخوص والروغان ، لأن صاحب السترة يضع نظره دون سترته غالبًا ، فينحصر تفكيره في معاني الصلاة .
4- يعطي المصلي المجال للمارين فلا يحوجهم إلى المرور أمامه ، أو الوقوف حتى ينتهي من صلاته .
5- أن السترة تكون وقاية للمار من إثم المرور الذي يناله بسبب تنقص صلاة المصلي: (انتهى ).
جاء في ( موسوعة الإجماع ) قوله : إن الإجماع على أن يسن للمصلي أن يكون بينه وبين القبلة سترة من جدار أو سارية أو غيرها وأن يقف بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود سواء صلى منفردًا أو إمامًا أو كان في السفر أو الحضر .
قال في ( موسوعة الإجماع ) : اتفقوا على كراهية المرور بين يدي المصلي سواء كان يصلي لسترة أو لغير سترة ، وإن فاعل ذلك آثم ، ومن صلى إلى سترة فمر بينه وبينها إنسان أو حيوان فإن صلاته لا تبطل في قول عامة أهل العلم إلا الحسن البصري ، فقال : تبطل بمرور المرأة ، والحمار ، والكلب الأسود ، وقال أحمد وإسحاق : تبطل بمرور الكلب الأسود .
قال النووي في ( المجموع ) : إذا صلى إلى سترة حرم على غيره المرور بينه وبين السترة ولا يحرم وراء السترة ، وقال الغزالي : ( يكره ولا يحرم ) ، والصحيح بل الصواب أنه حرام ، وبه قطع البغوي والمحققون ، واحتجوا بحديث : ( لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه ؟ لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه ) . [ متفق عليه ]. ( انتهى ) .
وللمصلي دفع من يمر بين يديه إذا اتخذ سترة ، فإن لم يتخذ سترة فليس له دفعه لتقصيره ، ولكن يكره المرور بين يديه ولا يحرم ولا يمر ولو لم يجد سبيلاً للمرور سواه لفعل أبي سعيد الخدري في الصحيح عن أبي صالح السمان قال : رأيت أبا سعيد - رضي الله عنه - في يوم الجمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس ، فأراد شاب أن يجتاز بين يديه ، فدفعه أبو سعيد في صدره ، فنظر الشاب فلم يجد مساغًا إلا بين يديه فعاد ليجتاز ، فدفعه أبو سعيد أشد من الأول ، فنال من أبي سعيد : ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد ودخل أبو سعيد خلفه على مروان ، فقال مالك : ولابن أخيك يا أبا سعيد ؟ قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان ) .
قال ابن حجر في ( الفتح ) : واستنبط ابن أبي جمرة من قوله : ( فإنما هو شيطان ) أن المراد بقوله : ( فليقاتله ) المدافعة اللطيفة لا حقيقة القتال ، قال : لأن مقاتلة الشيطان إنما هي بالاستعاذة والتستر عنه بالتسمية ونحوها ، وإنما جاز الفعل اليسير في الصلاة لضرورة ، فلو قاتله حقيقة المقاتلة لكان أشد على صلاته من المار .
ثم ذكر في ( الفتح ) : عن ابن مسعود : ( إن المرور بين يدي المصلى يقطع نصف صلاته)، وعن عمر : ( لو يعلم المصلى ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس ) ، ثم قال ابن حجر : فهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي ولا يختص بالمار وهما إن كانا موقوفين لفظًا فحكمهما حكم الرفع ، لأن مثلهما لا يقال بالرأي . ( انتهى ) .
وفي ( أبي داود ) من حديث أبي سعيد : ( إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه وليدرأ ما استطاع ، فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان ) ، وفي المغني عن أحمد : أن المار بين يدي المصلى إذا لج في المرور وأبي الرجوع أن المصلي يشتد عليه في الدفع ويجتهد في رده ما لم يخرجه ذلك إلى إفساده صلاته بكثرة العمل فيها ( يدرأ ما استطاع ) ، وأكره القتال في الصلاة ، وذلك لما يفضي إليه من الفتنة وفساد الصلاة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر برده ودفعه حفظًا للصلاة عما ينقضها ، فيعلم أنه لم يرد ما يفسدها ويقطعها بالكلية ، فيحمل لفظ المقاتلة على دفع أبلغ من الدفع الأول ، والله أعلم . ( انتهى ) .
هذا والمشروع منع المار بين يدي المصلى صغيرًا أو كبيرًا أو بهيمة ، إما بمنعه بيده ، أو بتحركه نحو سترته حتى يمر من خلفه ولا يضره إن مر من خلفه أو مر بعد السترة سواء كان منفردًا أو إمامًا ، فإن مر من أمامه فليس له أن يرجعه ، لأن هذا مرور ثان ينهى عنه .
والمرور بين يدي المصلى ينقص الصلاة - كما سبق بيانه - ويحمل ذلك على من أمكنه الرد فلم يفعله ، أما إذا عجز عن الرد أو سهى عنه لانشغاله بالصلاة أو سجوده ، فصلاته تامة ؛ لأنه لم يوجد منه ما ينقص الصلاة ، فلا يؤثر فيها ذنب غيره .
قال ابن رشد في ( بداية المجتهد ) : اختلف العلماء هل يقطع الصلاة مرور شيء بين يدي المصلي إذا صلى لغير سترة أو مر بينه وبين السترة ؟ فذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع الصلاة شيء ، وأنه ليس عليه إعادة ، وذهبت طائفة إلى أنه يقطع الصلاة المرأة ، والحمار ، والكلب الأسود ، وسبب هذا الخلاف معارضة القول للفعل ، وذلك أنه خرج مسلم عن أبي ذر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يقطع الصلاة المرأة ، والحمار ، والكلب الأسود ) ، وخرج مسلم والبخاري عن عائشة أنها قالت : لقد رأيتني بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي .
وروى مثل قول الجمهور عن علي وعن أبي ولا خلاف بينهم في كراهية المرور بين يدي المنفرد والإمام إذا صلى إلى غير سترة أو مر بينه وبين السترة ، ولم يروا بأسًا أن يمر بين يدي المأموم لثبوت حديث ابن عباس وغيره
قال : ( أقبلت راكبًا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ، والنبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس ، فمررت بين يدي بعض الصف ، فنزلت وأرسلت الاتان ترتع ، ودخلت في الصف فلم ينكر عليَّ أحدٌ ) ، وهذا عندهم يجري مجرى المسند ، وفيه نظر ، وإنما اتفق الجمهور على كراهية المرور بين يدي المصلى لما جاء فيه من الوعيد في ذلك ، ولقوله عليه الصلاة والسلام فيه : ( فليقاتله فإنما هو شيطان ) ، قال ابن عبد البر في ( الاستذكار ) : كراهية المرور بين يدي المصلى إذا كان وحده وصلى إلى غير سترة ، وكذلك حكم الإمام إذا صلى إلى غير سترة ، وأشد من ذلك أن يدخل بين يدي المصلى وبين سترته ، قال ابن دقيق العيد في (أحكام الأحكام ) ( ج1ص284 ) : قد صرح الحديث بالإثم - أي : لمن مر بين يدي المصلى - وبعض الفقهاء - يعني : المالكية - قسم ذلك على أربع صور :
·الأولى : أن يكون للمار مندوحه عن المرور بين يدي المصلي ولم يتعرض للمصلي لذلك فيخص المار بالإثم إن مر .
· الثانية : أن يكون المصلي تعرض للمرور والمار ليس له مندوحه عن المرور فيختص المصلي بالإثم دون المار .
· الثالثة : أن يتعرض المصلي للمرور ويكون للمار مندوحه فيأثمان ، أما المصلي : فلتعرضه ، وأما المار فلمروره مع إمكان أن لا يفعل .
· الرابعة : أن لا يتعرض المصلي ولا يكون للمار مندوحه فلا يأثم واحد منها . ( انتهى ) .
قال ابن حجر : وظاهر الحديث يدل على المنع مطلقًا ولو لم يجد مسلكًا ، بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته ويؤيده قصة أبي سعيد ( انتهى ) .
قال الجزيري في ( الفقه على المذاهب الأربعة ) : يحرم المرور بين يدي المصلي ولو لم يتخذ سترة بلا عذر ، كما يحرم على المصلي أن يتعرض بصلاته لمرور الناس بين يديه بأن المصلي بدون سترة بمكان يكثر فيه المرور إن مر بين يديه أحد فيأثم بمرور الناس بين يديه بالفعل لا بترك السترة ، فلو لم يمر أحد لا يأثم ؛ لأن اتخاذ السترة في ذاته ليس واجبًا ، ويأثمان معًا إن تعرض المصلي وكان للمار مندوحه ، و لا يأثمان إن لم يتعرض المصلي ولم يكن للمار مندوحه ، وإذا قصر أحدهما دون الآخر أثم وحده .
فانظر أخا الإسلام لأهمية السترة للمصلي والإثم الواقع على المار ، فاحرص على صلاتك لا تضيعها ، فاتخذ السترة ، واحذر المرور بين يدي المصلين تخلصًا من الإثم والذنب ، ولو وقفت أربعين , والله أعلم .