عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول : (إذا هم أحدكم بالأمر ، فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال : عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال : في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به ) . قال : (ويسمى حاجته) . [ أخرجه البخاري ] .
أجمع العلماء على أن الاستخارة وصلاتها مشروعة ، ودليل مشروعيتها ؛ حديث جابر المذكور ، وأحاديث الاستخارة غير حديث جابر المذكور جاءت عن ابن مسعود عند الطبراني والحاكم وصححه ، وأبي أيوب عند الطبراني وصححه ابن حبان والحاكم ، ، وعن أبي سعيد وأبي هريرةأخرجهما ابن حبان في (صحيحه) ، وحديث ابن عمر وابن عباس حديث واحد أخرجه الطبراني ، وليس في شيء من هذه الأحاديث ذكر الصلاة سوى حديث جابر ، إلا أن لفظ أبي أيوب : (اكتم الخطبة وتوضأ فأحسن الوضوء ، ثم صل ما كتب الله لك) الحديث ، فالتقيد بركعتين خاص بحديث جابر ، وجاء ذكر الاستخارة في حديث سعد : (من سعادة ابن آدم استخارة الله) . [أخرجه أحمد ، وسنده حسن ] .
والاستخارة طلب الخيرة ، والمقصود هنا طلبها من الله سبحانه ، والمراد طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما ، وخار الله له : أي أعطاه ما هو خير له .
وجاء في الحديث : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، وهو من العام الذي أريد به الخصوص ، فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما ، والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما ، ولكن يُستخار في الأمر المباح ، أو يستخار في المستحب إذا تعارض فيه أمران ، أيهما يبدأ به أو يقتصر عليه ، ويستخار في الوسائل المباحة لأداء واجب أو ترك محظور ، أو يُستخار عند تعارض مضرتين ؛ كأن تنهى متمردًا عاتيًا عن منكر واقع تخشى الضرر من وراء نهيه .
قال ابن حجر: وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمنه موسعًا.
ويقول العيني في (العمدة) :
في الحديث : (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ، لكن إن خشي ضررًا عامًا للمسلمين فلا ينكر ، وإن خشي على نفسه فله الإنكار ، ولكن يسقط الوجوب .
هذا ونص الدعاء يتناول عموم العظيم من الأمور والحقير منها ، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم ، ورب أمر يستخف به فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم ، أو في تركه ، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (وليسأل أحدكم ربه حتى في شسع نعله) .
هل الاستخارة فريضة ؟
إجماع العلماء على أنه ليس في الفرائض في الصلاة إلا الخمس ؛ لحديث : (خمس صلوات في اليوم والليلة) ، ولحديث الأعرابي الذي قال : والله لا أزيد عنها ولا أنقص ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أفلح إن صدق) ، أما قوله : كما يعلمنا السورة من القرآن ، فلا يفيد فرضيتها .
قال ابن أبي جمرة: التشبيه في تحفظ حروفه وترتب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه. قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا هم) ، وفي رواية : (إذاأراد أحدكم الأمر …) أي أن الاستخارة تقع قبل الشروع فيه ، بل قبل أن يستمكن من قلبه حتى لا يخفى عليه وجه الصواب إذا غلب ميل القلب إليه ، فيستخير لأول ما يرد على القلب ، فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ما هو خير .
وفي الحديث دليل على أن السنة في الاستخارة ركعتين من غير الفريضة ، فلا تجزئ الركعة الواحدة ، ولا تجزئ الفريضة ، وإنما تجزئ صلاة ركعتين ، ولكن هل يجزئ أن يصلي أكثر من ركعتين ؟ نص الحديث لا ينفي ذلك .
قال الشوكاني : فهو دال على أنها لا تضر الزيادة على الركعتين ، ومفهوم العدد في قوله : (فليركع ركعتين) ليس بحجة على قول الجمهور ، وفي حديث أبي أيوب الأنصاري عندابنحبان في (صحيحه) والطبراني في (الكبير) أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال : (اكتم الخطبة ، ثم توضأ ، فأحسن الوضوء ، ثم صل ما كتب الله لك ، ثم احمد ربك ومجده ، ثم قل : اللهم إنك تقدر ولا أقدر …) الحديث ، فهذا الحديث يثبت أنه لا بأس بالزيادة عن الركعتين .
قالالنووي في (الأذكار) : قال العلماء : تستحب الاستخارة بالصلاة والدعاء المذكور ، وتكون الصلاة ركعتين من النافلة ، والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب ، وبتحية المسجد وغيرها من النوافل ، ولكن نقل الشوكاني ؛ أن الهم بالأمر ينبغي أن يسبق الصلاة .
وقال القرافي : إن كان همه بالأمر قبل الشروع في الراتبة ونحوها ، ثم صلى من غير نية الاستخارة وبدا له بعد الصلاة الإتيان بدعاء الاستخارة فالظاهر حصول ذلك .
وقت الدعاء
ويقع الدعاء عقب الصلاة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (ثم ليقل : اللهم …) والعطف بـ (ثم) دليل على أن التأخير لا يضر ما لم يكن الفاصل طويلاً ، أو فصل بأعمال كثيرة ، ولا يضر الفاصل خاصة إذا كان بسبب أداء أعمال هي من آداب الدعاء ؛ كالصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم - .
قال شيخ الإسلام : يجوز الدعاء في صلاة الاستخارة وغيرها قبل السلام وبعده ، والدعاء قبل السلام أفضل ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر دعائه كان قبل السلام ، والمصلي قبل السلام لم ينصرف ، فهذا أحسن ، والله تعالى أعلم . (انتهى) .
قال النووي : فإن تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء . (انتهى) . ويدل على ذلك الأحاديث الواردة عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وحديث ابن مسعود ، فلم يرد فيها ذكر الصلاة .
فائدة : قال شارح (الطحاوية) : فالأدعية والتعوذات والرقى بمنزلة السلاح ، والسلاح بضاربه لا بحده فقط ، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًا ، والساعد ساعدًا قويًا ، والمحل قابلا والمانع مفقودًا ، حصلت به النكاية في العدو ، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح ، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثم مانع من الإجابة ؛ لم يحصل الأثر .
والدعاء سبب شرعي لتحقق المطلوب ، فالأسباب قدرية كالأكل سبب للشبع ، والشرب سبب للري ، والجماع سبب للولد ، فالدعاء سبب لمطلوبه ، وكله ينفع بإذن الله تعالى ، فالتعلق بالأسباب شرك في التوحيد ، والإعراض عن الأسباب قدح في الشرع بالكلية ، فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد الهمة للدعاء ، وهو الذي يجعل الدعاء سببًا لتحقق الخير الذي قدره ، فالله هو الذي وفق العبد للعمل ، ثم أثاب عليه ، وهو الذي وفقه للدعاء ، ثم أجابه .
قال مطرف بن عبد الله : نظرت في هذا الأمر فوجدت مبدأه من الله وتمامه على الله ، ووجدت ملاك ذلك الدعاء ، فالدعاء سبب يدفع البلاء ، فإذا كان أقوى منه دفعه ، وإن كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه ، لكن يخففه ، فالدعاء نافع في كل حال .
فالاستخارة أخذ بجميع طرق النجاح والتوفيق ، فإن الله يعلم الخير ، فإما أن يشرح صدر الإنسان وييسر له الأسباب أو يعسرها ويصرفه عن ذلك .
وفي قوله : (أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك) ؛ تعليل الطلب من الله سبحانه ، وهو للاستعانة والاستعطاف وإظهار العبودية والضعف بين يدي ربه بما يكون أرجى لتحقق مقصوده وإجابة طلبه ، حيث يظهر الاستسلام بقوله : (وتعلم ولا أعلم ، وتقدر ولا أقدر) ، فأنا أطلب الخير الذي لا يعلمه إلا أنت ولا يقدر عليه سواك ، وأنا عبدك ولا سبيل لي إلا أن ألجأ إليك ، فأنت ربي لا رب لي سواك .
وفي الحديث اعتراف بأن كل عطاء إنما هو فضل من الله سبحانه ، فإنه ليس لأحد على الله حق في نعمة ، فكل النعم في البدن أو المال أو غير ذلك يبتدئ بها عبده كالعين ، وإبصارها وسائر الاعطاء وأعمالها ، فهو فضل من الله لم تدفع له ثمنًا ولم تعط عنه عوضًا ، نستخدمه ونحن على الطاعة أو على المعصية ، فإن وفق العبد للحمد ، والشكر فذلك فضل آخر يفتقر إلى حمد وشكر ، وهكذا فالنعم لا تنقطع .
توضيح : قد يظن ظان أن في قوله : (إن كنت تعلم) أن ذلك فيه شك في علم الله تعالى ، وليس الأمر كذلك ، إنما يقول : إن كان الخير الذي تعلمه في كذا فاقدره لي ، وإن كان في غيره فاقدره لي واصرف عني الشر ؛ لأن الله لا يغيب عن علمه شيء .
الدعاء والقضاء : إن الدعاء يدفع القضاء ، ففيالحديث عند الترمذي وابن ماجهعن ثوبان مرفوعًا : (لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر) ، فالاستخارة صلاة يعقبها الدعاء يرجى بها الخير يقدره رب العزة سبحانه وييسره للمستخير .
وفي الحديث : (خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - وعاجل أمري وآجله) ؛ فقد جمع الحديث هذه الأربعة : دين ، ومعاش ، عاجل ، وآجل ، فهذا خير ما يسأله العبد لربه ، فمن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - : (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، والموت راحة لي من كل شر ، إنك على كل شيء قدير ) . والحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة .
فدعاء الاستخارة طلب لمجامع الخير والبركة فيه ، وصرف الشر حتى لا يتعلق به البال ولا يطلبه وهو أكمل الحال من انصرافه عن الشر وانصراف الشر عنه ، وتقدير الخير له ورضاه به ، فإن صرف عنه الشر وبقي القلب متعلقًا به ويطلبه فلا يطيب له خاطره ، وإذا قدره له الخير ولم يرض به كان متكدر العيش ، بل واقع في الإثم لعدم رضاه ما قدره له الله مع كونه الخير له .
فالحديث طلب الأكمل من الوجوه ، وذلك الذي يليق عند الطلب من الله ، وذلك لكماله سبحانه وغناه عن خلقه ومحبته للعطاء ، فالعطاء لا ينقص مما عنده شيئًا ، فمن حسن الظن بالله أن تطلب منه خير الدنيا والآخرة ، ففي الحديث : (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى).
يقول ابن القيم في (زاد المعاد) : هذا الدعاء توحيد وافتقار وعبودية وتوكل وسؤال لمن بيده الخير كله الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو ، الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه ، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه ، فهذا الدعاء هو الطالع الميمون السعيد ، طالع أهل السعادة والتوفيق الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر فسوف يعلمون .
فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه ، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة والإقرار بربوبيته ، وتفويض الأمر إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه والخروج من عهدة نفسه والتبرؤ من الحول والقوة إلا به ، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليه ، وإرادته لها ، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق .
وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بشرع ضمن الشفقة على الخلق وإرشادهم إلى الخير ، فالله أرحم بهم من أنفسهم ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فالخير يسوقه شرع الله على يدي نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
وفي الحديث عجز العبد وضعفه وجهله ، وأن القوة من الله سبحانه ، وكذلك العلم ، فمن تمام العبودية أن يتبرأ العبد من الحول والقوة ، ويرد ذلك لله رب العالمين ، فيسأل الله مقدمًا فقره بين يديه وشدة حاجته إلى ربه في دقيق أمره وجليله ، فيسأله الخير تعليمًا وتقديرًا وإرضاءً ، ويسأله عن الشر صرفًا وإبعادًا ، فيلزم العبودية باستخارة واتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به ، فيسلم إذا وقع القدر راضيًا بقضاء الله لعجزه عن معرفة الخير وثقته في كمال علم ربه وقدرته ، كما قال سبحانه : ( َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) [ النساء : 19] ، وقوله سبحانه : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) [ البقرة :216] .
والحديث دال على أنه لا خالق إلا الله من خير أو شر لا يخلق سواه ، ولا يقدر الأمر ولا يصرفه إلا الله ، لذا فإنه لا يدعى في الخير ولا في الشر سواه ، وهو الذي يجيب عبده إذا دعاه .
هل تتكرر الاستخارة ؟
ليس في تكرار الاستخارة حديث يصح ، وإن كان الأصل جواز ذلك لعموم الأمر بالاستخارة، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا دعا ثلاثًا ، أما ما رواه ابن السني من الحديث مرفوعًا : ( يا أنس إذا هممت بالأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإن الخير فيه ) ؛فقال النووي في (الأذكار) : إسناده غريب ، وفيه من لا أعرفهم ، ونقل العيني في (العمدة) عن شيخه زين الدين قوله : بعضهم معروف بالضعف الشديد ، بل فيه من يتهم بالوضع ، فالحديث ساقط لا حجة فيه .
ومن العموم الذي يستدل به على جواز تكرار الاستخارة ما جاء في حديث أبي هريرة عندالشيخان : (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : قد دعوت فلم يستجب لي ، ويدع الدعاء) .
ماذا يقرأ من القرآن ؟
قال النووي : ويقرأ في الأولى بعد (الفاتحة) : ( قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) [الكافرون :1] ، وفي الثانية : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) [الإخلاص : 1] ، وعلل ذلك بقوله : ناسب الإتيان بهما في صلاة يراد منها إخلاص الرغبة وصدق التعويض وإظهار العجز ، واستحسن بعض أهل العلم قراءة: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) [ القصص : 68] ، وفي الثانية : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ) [الأحزاب :36] ، ولا دليل على تخصيص شيء من القرآن بالقراءة ، بل الأمر فيها على الإطلاق ، فيقرأ ما يقرأ في غيرها من النوافل .
هل تصلى الاستخارة في أوقات النهي ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : النهي عن الصلاة في أوقات النهي من باب سد الذرائع لئلا يتشبه بالمشركين فيفضي إلى الشرك وما كان منهيًا عنه لسد الذريعة لا لأنه مفسدة في نفسه ، فإن يشرع إذا كان فيه مصلحة راجحة ولا تفوت المصلحة لغير مفسدة راجحة ، والصلاة لله فيه ليس فيها مفسدة ، بل هي ذريعة إلى مفسدة ، فإذا تعذرت المصلحة إلا بذريعة شرعت واكتفي بها إذا لم يكن هناك مصلحة وهو التطوع المطلق ، فإنه ليس في المنع منه مفسدة ولا تفويت مصلحة لإمكان فعله في سائر الأوقات ( حتى قال ) : وذوات الأسباب كلها تفوت إذا أخرت عن وقت النهي ، مثل سجود التلاوة ، وتحية المسجد ، وصلاة الكسوف ، ومثل الصلاة عقب الطهارة ، كما في حديث بلال ، وكذلك صلاة الاستخارة إذا كان الذي يستخير له يفوت إذا أخرت الصلاة (1) . (انتهى) .
وذكر في (الموسوعة الفقهية) : أما إذا كانت الاستخارة بالصلاة والدعاء فالمذاهب الأربعة تمنعها في أوقات الكراهية ، نص المالكية والشافعية صراحة على المنع ، ثم ساق أقوالهم ، وبتدبر كلام شيخ الإسلام يتضح أنه إذا كان يفوت وقتها إن أخرت عن وقت النهي جازت للأدلة التي ذكرها . والله أعلم .
فإذا أدى العبد الاستخارة فإنه ينبغي له أن يخلي نفسه من الميل والهوى ما استطاع لذلك سبيلاً؛ ولذا فإنه ينبغي على المستخير أن يشرع في استخارته وهو خالي الذهن غير عازم على أمر معين حتى لا يشوش ميله على سلوكه بعد الاستخارة ، ولذا فإنك تجد من أهل العلم من اعتبر انشراح الصدر من علامات قبول الاستخارة ، ومنهم من لم يشترطه ، وهو الأوفق؛ وذلك لأن هذا الانشراح لم يرد في حديث صحيح ، إنما ورد في حديث أنس السابق الإشارة إلى شدة ضعفه ، فلا يصلح دليلاً ، إنما الأحاديث الصحيحة جاءت تطلب أن يقدر الله له الخير حيث كان ، وذلك بأن ييسر الله المقادير لتحقق الخير ، وذلك يعني أن يسلك نحو هدفه ما يسره الله من سبل ، ويخشى أن يكون تعليقها على راحة النفس تعلق بما للشيطان فيه أثر ؛ لأن النفس يميلها الشيطان ويغويها ، خاصة إذا بدأ العبد الاستخارة والهوى متغلب عليه .
هذا والحديث يسأل فيه ربه (ثم رضني به) ، فيكون الرضا يعقب التيسير ، وليس في الحديث أنه سابق عليه ، ومن الناس من يعلق نتيجة الاستخارة على رؤيا يراها في نومه ، وليس في ذلك من دليل ، بل كثيرًا ما يشتبه على الناس الحلم الذي هو من الشيطان ، والذي هو من حديث النفس مع الرؤيا فيختلط الأمر عليه ، وتعليق الاستخارة على مثل ذلك استسلام للشيطان ووقوع في حيله ، ولكن على المستخير أن يسلك ولا يتعجل الإجابة ؛ لأنه أسلم الخيرة لله تعالى .
وينبغي على المسلم أن يسترشد بآراء الناصحين من أهل الخبرة والإيمان من يعلم النصيحة والشفقة منه ويثق بدينه ومعرفته؛ لعموم قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) [ آل عمران :159] .
هذا وليعلم العبد أن الاستخارة ليست طلب معرفة لعلم الغيب الذي ستره الله ، إنما هي طلب تيسير المقدور من عنده سبحانه ، أما راحة النفس ورؤيا النوم فهي تعلق بأمر غيب كشف للعبد ، وذلك من أبواب الشيطان ، والاستخارة جاءت إظهارًا للعبودية ، ومن تمامها تسليم العبد بأن علم الغيب لله سبحانه ، وهذا هو الذي أوقع بعض الناس في الضلال والبدع .
من صور البدع في الاستخارة
قال في (موسوعة الإجماع): وبعض الناس قد يستفتح ويستطلع الغيب من المصحف أو الرمل أو القرعة، وهذا لا يجوز لحرمته.
قال الطرطوشي وأبو الحسن المغربي وابن العربي : هو من الأزلام ؛ لأنه ليس لأحد أن يتعرض للغيب ويطلبه ؛ لأن الله قد رفعه بعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا في الرؤيا - أقول : والرؤيا إنما بقي منها المبشرات - لا أن يطلب بها علم غيب يريد كشفه .
وقالالقشيري في (السنن والمبتدعات) : ولقد أعرضوا ويا للأسف عن هذا العلم اللطيف السهل السماوي في الاستخارة بما سماه الله فسقًا في قوله : ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) [المائدة :3] ، وسماه الله فسقًا ، لأنه تعرض لدعوى علم الغيب وضرب من الكهانة، فتراهم يستخيرون عند ضراب الودع والرمالين الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ، - صلى الله عليه وسلم - ) ، وتارة تراهم يستخيرون بالسبحة يهمهمون عليها ، ثم يعدون قائلين : الله. محمد . علي . أبو جهل ، فسبحان الله ! ما أسخف عقولهم ! وما أشد حمقهم وجهلهم إذ يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ويقول الساعاتي في (بلوغ الأماني) : وقد ابتدع الناس عمل الاستخارة بأنواع شتى لم يرد شيء منها في كتاب الله ولا في سنة رسوله ، ولم يقل به أحد من علماء السلف ولا الخلف ، وإنما هي بدع شيطانية سرت واشتهرت بين عامة الناس ، فمن تلك الأنواع ما يقال له : استخارة على السبحة ، ومنها استخارة على كأس القهوة ، ومنها استخارة لعبة الورق المشهورة باسم (الكوتشينة) ، ومنها الاستخارة بالمصحف ، ومنها استخارة التبييت . إلى غير ذلك من الأمور التي ليس لها أصل في الدين ، فتراهم إذا أهمهم أمر من أمور الدنيا أسرعوا إلى من يتوسمون فيه الصلاح ، أو من يحفظ القرآن ، أو من يدعي علم الغيب ، ويسألونه عمل الاستخارة ، فيوافقهم على اعتقادهم ويعمل لهم الاستخارة ، ويخبرهم بالنتيجة في المستقبل رجمًا بالغيب ، ولا يرشدهم إلى الاستخارة الشرعية . (انتهى) .
تلك جملة من أحكام الاستخارة وأقوال العلماء وتفصيل السنة من البدعة ، فالزم الشرع تكن من الفائزين في الدنيا والآخرة ، وإياك وطريق الهمج الرعاع أتباع كل ناعق ، والله يحفظنا وإياكم وسائر المسلمين من البدع والمعاصي . (آمين) . والله من وراء القصد.
(1) من (مجموع الفتاوى) (جـ23) وراجع الفصل من (ص210 - 216) فهو فصل بديع .