* جعل الله سبحانه للوالدين نعمة الولادة والتربية الصالحة والعناية التامة بالأولاد . والوالدان هما أكبر الخلق وأعظمهم نعمة على الإنسان بعد رسل الله تعالى وقد جعلهما الله سبباً لوجوده والعناية به منذ الحمل حتى الرجولة ، لذا جاء الشرع الشريف قرآناً وسنة بالبيان الكامل والأمر الواضح بالإحسان للوالدين والتنفير الشديد من عقوقهما أو التقصير في حقهما .
* يقول صاحب الظلال عند قوله تعالى : " وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " من سورة الإسراء :
يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء ، ذلك لأن الحياة وهى متدفقة في طريقها بالأحياء لا توجه اهتمامهم إلى الوراء إلى الأبوة ، إلى الحياة المولية ، إلى الجيل الذاهب ، ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف . وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
* إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد ، إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشرة ، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان ، فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ويندفعون بدورهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية. وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف .
* وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد. بعد الأمر المؤكد بعبادة الله ( انتهى ) .
ومما يدل على عظم حق الوالدين وفحش عقوقهما :
أولا: أن الله سبحانه قرن في مواضع متعددة من كتابه بين الواجب الأول وهو توحيده عز وجل وبين الإحسان إلى الوالدين .
ثانياً : أن الله سبحانه امتدح من أنبيائه يحيى وعيسى بسبب ذلك فقال في شأن يحيى : "وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا " وفى شأن عيسى : " وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا " .
ثالثاً : تعليق الخروج للجهاد والهجرة على إذنيهما .
رابعاً : أن الله سبحانه أمر بالمعروف في صحبتهما بعد قوله فلا تطعهما - أي إذا جاهداك على الشرك - فلا يباح عندئذ العقوق أو فحش القول مع أنه لا تجوز طاعتهما في ذلك .
خامساً : الأمر بالبر للوالدين ولو كانا كافرين ، فلما استأذنت أسماء بنت أبى بكر في صلة أمها الكافرة قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نعم صلى أمك " (1) .
سادساً : أن بر الوالدين لا ينقطع بموتهما إنما يستمر بالدعاء لهما بعد الموت ، والعمل بوصيتهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي من طريقها .
سابعاً : إذا أمرا ولدهما بطلاق زوجته فعليه الامتثال .
لحديث ابن حبان أن رجلاً أتى أبا الدرداء فقال : إن أبى لم يزل بي حتى زوجني وإنه الآن يأمرني بطلاقها قال : ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق امرأتك غير أنك إن شئت . حدثتك بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سمعته يقول: "الوالد أوسط أبواب الجنة " فحافظ على ذلك الباب إن شئت أو دع . قال : فأحسب عطاء قال: فطلقها (2) .
وحديث أبى داود عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي : طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " طلقها " (3) .
ثامناً : جعل الرضا من الوالدين رضا من الله لحديث الترمذى مرفوعاً : "رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد" (4) .
* جاء في موارد الظمآن : رأى ابن عمر رضى الله عنهما رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة فقال : يا ابن عمر أراني جازيتهما ؟ قال : ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن أحسنت ، والله يثيبك على القليل والكثير (5) .
وفى المستطرف : قال رجل لعمر بن الخطاب رضى الله عنه : إن لي أما بلغ منها الكبر أنها لا تقضى حاجتها إلا وظهري لها مطية فهل أديت حقها قال : لا ، لأنها كانت تصنع بك ذلك وهى تتمنى بقاءك وأنت تصنعه وتتمنى فراقها .
وبر الوالدين له ثمار يانعة عظيمة فهو :
1. يعدل ثواب الحج والعمرة والجهاد أو يزيد فتعلق الخروج إلى ذلك بإذنيهما .
2. بلوغ نعيم الجنة والنجاة من النار .
3. البركة فى العمر والرزق ونجابة الولد .
4. إجابة الدعاء وجلب التيسير وزوال الهم .
5. مرضاة الله عن العبد البار بوالديه .
* ولقد حافظ الشرع على حرمة والدَيْ غيرك فإن انتهكت حرمتهما لأحد بسباب فرد عليك فسب والديك كنت أنت الساب لوالديك أنت ، فعن ابن عمر رضى الله عنه قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : "من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه - قيل : يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " ( متفق عليه ) .
قالالذهبي في الكبائر: ( موعظة ) . أيها المضيع لآكد الحقوق المعتاض من بر الوالدين العقوق . الناسي لما يجب عليه الغافل عما بين يديه . بر الوالدين عليك دين وأنت تتعاطاه باتباع شين ، تطلب الجنة بزعمك ، وهى تحت أقدام أمك . حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج وكابدت عند الوضع ما يذيب المهج ، وأرضعتك من ثديها لبناً ، وأطارت لأجلك وسناً ، وغسلت بيمينها عنك الأذى وآثرتك على نفسها بالغذاء ، وصيرت حجرها لك مهداً وأنالتك إحساناً ورفداً فإن أصابك مرض أو شكاية أظهرت من الأسف فوق النهاية ، وأطالت الحزن والنحيب وبذلت مالها للطبيب ولو خيرت بين حياتك وموتها لطلبت حياتك بأعلى صوتها ، هذا وكم عاملتها بسوء الخلق مراراً فدعت لك بالتوفيق سراً وجهاراً . فلما احتاجت عند الكبر إليك جعلتها أهون الأشياء عليك فشبعت وهى جائعة ورويت وهى قانعة وقدمت عليها أهلك وأولادك بالإحسان وقابلت أياديها بالنسيان وصعب لديك أمرها وهو يسير وطال عليك عمرها وهو قصير هجرتها وما لها سواك نصير ، هذا ومولاك قد نهاك عن التأفف ، وعاتبك في حقها بعتاب لطيف . ستعاقب في دنياك بعقوق البنين . وفى أخراك بالبعد عن رب العالمين، يناديك بلسان التوبيخ والتهديد " ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ " (انتهى ) .
وبعد فما تتسع المجلدات لبيان حق الوالدين وعظم ثواب البر وفحش العقوق وسوئه ولكن نكتفي بذلك القدر وفى العدد القادم إن شاء الله تعالى نجعل الكلام على بقية حديث "لا يجزى ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه " والله من وراء القصد .
(1) متفق عليه . أخرجه البخاري ( رقم 262 ، .. ) ، ومسلم ( 1003/49،50 )، من حديث أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما .
(2) صحيح . أخرجه ابن حبان في صحيحه ( 425 - الإحسان ) ، وقد أخرجه أيضاً أحمد والترمذى وابن ماجة والحميدى والطيالسى والحاكم وغيرهم، وانظر الصحيحة ( رقم 913 ).
(3) حسن . أخرجه أبو داود ( رقم 5138 ) ، والترمذى ( رقم 1189 ) وصححه ، وابن ماجة ( رقم 2088 ) ، وابن حبان وغيرهم ، وانظر الصحيحة ( رقم 918 ) .
(4) صحيح . أخرجه الترمذى ( 1899 ) ، وابن حبان ، والحسن بن سفيان ، وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما ، وانظر الصحيحة ( رقم 516 ) .
(5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد ( رقم 11 ) ، وابن المبارك في البر والصلة ، والبيهقى في الشعب ( رقم 7926 ) ، وغيرهم . وانظر رسالة ( بر الوالدين ) للإمام أبى بكر الطرطوشى وكذلك بر الوالدين لأبى الفرج ابن الجوزى .
قال الله جل وعلا " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ " الآية فإياك أن تنفق أوقاتك وأيامك وساعاتك وأنفاسك فيما لا خير فيه ولا منفعة فيطول تحسرك وندمك وحزنك بعد الموت .
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز عليه من الإنفاق في غير واجب