الحمد لله الشارع الحكيم الرحيم ، جعل شرعه حماية للحرمات ، وصيانة للدماء ، وحياة للخلق جميعًا ، فشرع سبحانه شرعًا حكيمًا متكاملًا إبقاءً للنفوس وأمنها ، فجعل لها شرعًا حمى الخلق ووقاهم من عدوان بعضهم عمدًا كان أو خطأ ، فجعل أعظم الذنوب بعد الشرك بالله هو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ؛ فيقول الله سبحانه : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) [ البقرة : 179] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
فانظر فإن الذي أخرج الحي من الميت جعل في القصاص الذي هو موتٌ ، حياة باعتبار ما يئول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضًا إبقاء على نفوسهم ، واستدامة لحياتهم ، وأمنًا في أوطانهم .
ولهذا نجد كثرة القتل والجرائم عند الأمم التي زعمت المدنية ، فحكمتْ القوانين الوضعية ، فلم تجاز الجاني بما يستحق ، بل حكمت عليه بالسجن ظَنًّا منها أن هذا رحمة ومدنية ، ولم ترحم المقتول ودمه الذي سفك ، ولا أهله الذين فقدوه ، ولا بنيه الذين تيتموا ، أو زوجاته اللائي ترملن بعده ، ولم ترحم من حوله من البشر الذين فقدوا الأمن على دمائهم ، وأصبح أولئك الجناة يستطيعون الحياة في السجون ، فروعوا الآمنين ، وأفزعوا الناس من حولهم ، فليتدبر أولئك الذين عدلوا عن الشرع الشريف الكامل بقانون أرضي ساقط ، أولئك الذين لم يفكروا في عواقب الأمور ، ولو كانوا من أولي الألباب لتدبروا وعقلوا وانزجروا .
ولم يجعل الشارع الحكيم لضعف أو قوة أو علو أو عشيرة أثرًا في تلك الأحكام ، بل سوى بين البشر في حق الحياة ، وعوض أهل المجني عليه وشفى صدور أوليائه ، قطعًا لتسلسل العدوان وإحلالاً للأمن والأمان بدلًا من الخوف والفزع ، فبعد أن كانت بعض قبائل العرب تقيد الأنثى منها بذكر من غيرها ، وبالعبد منها حرًّا من سواها تنظر أنها أرفع شأنًا من غيرها فتحكمهم بالطبقية البغيضة والعصبية الحمقاء ، قال الله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة : 178 ،179] .
هذا ولقد جعل الشرع القصاص في قتل العمد إلا أن يعفو ولي الدم ، فينتقل من القتل إلى الدية وتكون حاَّلة عاجلة وفي مال الجاني ، وجعل الأعضاء بنظائرها طالما أنه ممكن ، وإلا فالدية للأعضاء - أما القتل الخطأ وشبه العمد ففيه الدية وتكون على العاقلة وتكون مغلظة في القتل شبه العمد ، أي : أربعون منها في بطونها أولادها ، فانظر إلى الدية تحيط بمال الجاني فتجعله فقيرًا متسولًا إن عفي عنه ، ليعتبر به غيره أن حيًّا قد أحيط بماله ، أو ميتًا بعد القصاص بقتله ، وأما في شبه العمد والخطأ فإن العاقلة تحمل الدية ، وتكون مؤجلة على ثلاث سنين ، وأنما ذلك ليتمكن أهل كل بيت من أبنائهم فيربوهم فلا يتمرد أحد على عاقلته ولا يرى الرجل المنكر في عصبته ويتركهم وشأنهم ، فانظر - رعاك الله - كيف جعل الشرع الحكيم الأسرة متعاونة على فعل المعروف وعلى البر والتقوى ، ومتعاونة للتناهي عن المنكر والبعد عن المعاصي ليصبحوا خير أمة أخرجت للناس .
فالدية مائة من الإبل تقسم على أسنان الإبل : فبنت المخاض ( ما زادت عن السنتين) ، وبنت اللبون ( ما لها سنتان ودخل الثالثة ) والحقة ما لها (ثلاث سنين ودخل الرابعة) والجذعة ( ما لها أربع سنين ودخل الخامسة ) والخلفات ( ما في بطونها أولادها) وهي في المغلظة من الدية، وقد خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في حجة الوداع فقال : (فإن دماءكم ، وأموالكم، وأعراضكم ؛ حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم ؛ كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ) .
وقال الله سبحانه : ( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ ) [ الإسراء : 33] وقد فسر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله :( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
ويقول رب العزة سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 92 -93] .
ويقول رب العزة سبحانه :(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[المائدة:32].
فالقتل ثلاثة أقسام عمد وشبه عمد وخطأ
أما العمد : فهو قصد المكلف قتل معصوم الدم بما يغلب على الظن أنه يقتل به ، من ذلك : الإحراق بالنار ، أو الإغراق في الماء ، أو الإلقاء من شاهق أو وضع السم في الطعام والشراب ، أو حقنة في جسمه ، أو هدم الحائط عليه ، أو خنق النفس أو حبسه مع منع الطعام والشراب عنه ، أو تقديمه إلى حيوان مفترس ، أو دفعه أما سيارة أو مهلك ، أو ضربه بما يقتل غالبًا كالسلاح الناري أو السكين أو الحجر الثقيل ، أو تتابع الضرب بالعصا ، أو إصابته في مقتل بما دون ذلك ، وكذلك الشهود يشهدون على معصوم الدم فيقتل ثم يرجعون عن الشهادة ، كل هذه من أدوات القتل العمد .
أما شبه العمد : فهو ما ليس عمدًا محضًا ، ولا خطأ محضًا ، فهو كأن يقصد المكلف معصوم الدم بما لا يقتل عادة كالعصا الخفيفة والحجر الصغير من غير تتابع وفي غير مقتل ، فإن كان الضرب متتابعًا أو في مقتل أو كان المضروب مريضًا أو صغيرًا لا يحتمل فإن ذلك عمدٌ والدية في شبه العمد مغلظة .
أما القتل الخطأ : فهو أن يفعل المكلف ما يباح له من رمي صيد ، أو قصد غرض فيصيب معصومًا ، أو يحفر بئرًا فيتردى فيها إنسان ، ويلحق بالقتل الخطأ العمد الصادر عن المجنون والصبي ، والدية في القتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة ومؤجلة إلى ثلاث سنين في كل سنة ثلثها .
وأما القتل العمد : ففيه القصاص أو العفو إلى دية أو أكثر منها أو دونها ، كان لولي الدم العفو مجانًا ، وتكون الدية في مال الجاني وحالة غير مؤجلة .
والدية مائة من الإبل ، وتغليظها أن يكون أربعون منها في بطونها أولادها .
وأما ما دون النفس ففيه القصاص أو الدية ، وإنما يشرع القصاص إذا أمكن بغير حيف وبمماثلة ، فإن لم يمكن كانت الدية ، ولا يشرع القصاص في الجروح إلا بعد أن تندمل .
دية الأعضاء : كل عضو لا نظير له : كالأنف ، واللسان ، ففيه دية كاملة ، وما يوجد منه عضوان : كالعين ، والأذن ، والشفة ، واليد ، والرجل ، وثدي المرأة ، وثندوة الرجل ففيه نصف دية . وتقسم الدية على الأعضاء الأكثر كالأجفان ففي كل جفن ربع دية ، والأصابع ففي كل أصبع عُشر دية بغير تفريق بينها . سواء أصابع اليد أو القدم .
فإن أصابه بضرب أو أفزعه فأفقده النطق ففيه دية كاملة ، وإن أفقده بعض الأحرف فبحسبها، فإن الدية تقسم على عدد الحروف (ثمانية وعشرين) وقطع الذكر أو جزء منه ، أو جزء من اللسان يفوت النطق ، أو الأنف أو مارنتها ففيها دية كاملة . وفي ذهاب العقل دية كاملة ، وفي شعر الرأس دية كاملة ، وفي شعر اللحية دية كاملة ، وفي الحاجب نصف دية .
وهكذا ففي فقد كل عضو ديته، وفي ذهاب وظيفته ديته كذلك.
وأما من ضرب امرأة حاملًا أو خوفها فألقت حملها فعليه غرة وهي نصف عشر دية الرجل. فإن ماتت المرأة ففيها دية كاملة، وإن ألقت الحمل ثم ماتت فيه دية كاملة وغرة؛ لأنه بضربها وقعت جنايتان.
والجراحات في الوجه والرأس عشرة :
1- الحارصة (بالحاء المهملة) : وهي خدش الجلد وشقه .
2- الدامية : وهي التي تشق الجلد حتى يظهر منها الدم ، فإن قطر منها فهي دامعة .
3- الباضعة : هي التي تأخذ في اللحم ، أي : تشقة وتقطعه .
4- المتلاحمة : وهي التي تغور في اللحم .
5- الائطة (السمحاق) : وهي شقة تصل إلى قشرة رقيقة بن عظم الرأس ولحمه .
6- الموضحة : وهي التي تبدي بياض العظم ، وفيها خمس من الإبل ، فإن تعددت ففي كل واحدة خمس من الإبل .
7- الهاشمة : وهي التي تكسر العظم ، ففيها عشر من الإبل إذا كان هشم العظم بإظهاره ، فإن كان بغير إظهار ففيها خمس .
8- المنقلة : وهي التي تنقل العظم ففيها خمسة عشر من الإبل .
9- المأمومة : وهي الشجة التي بلغت أم الرأس ، ففيها ثلث دية .
10- الدامغة : التي انتهت إلى الدماغ فلا تتصور الحياة بعدها ففيها دية كاملة .
11- أما الجائفة : وهي الطعنة تنفذ إلى الجوف ، ففيها ثلث الدية ، فإن خرجت من الجانب الآخر ففيها ثلثا دية والجائفة تكون في سائر الأعضاء .
12- والجروح الخمس : الحارصة ، والدامية ، والباضعة ، والمتلاحمة، واللائطة، فيها حكومة ، وذلك بأن يجتمع من أهل الخبرة فيقولون : لو كان هذا عبد فبكم يقدر ثمنه ؟ فإن قالوا : بمائة دينار ، ثم يقولوا : وبسبب ذلك الجرح كم ينقص من ثمنه ؟ فإن قالوا: خمس ففي هذا الجرح نصف عشر دية، وإن قالوا: عشر ففيه عُشر دية وهكذا.
أخا الإسلام هذا المقال إشارات إلى شرع الله الكامل في حماية الدماء ، صيانة الإنسان ليحل الأمن وينتشر الأمان في الناس ، ويأمنون في مجتمعاتهم ، وليس المقال لاستيعاب هذا الباب الهام من أبواب الفقه ، ولكن لننظر كيف صار رعاة الإبل والشاة من أهل الجاهلية فقهاء لما دخلوا الإسلام ؛ فعلمهم وأمنهم وأمن بهم ، وكيف أن الأمم الراقية المتحضرة لما بعدت عن الإسلام صارت مثل حيوانات الغابة ، يعدو كل واحد منهم كيف شاء ، ويهرب من القصاص كلما استطاع ذلك ، وفي الإسلام احترام الدماء غاية الاحترام ، فمنه إذا أصاب أحد عَينًا مبصرة فضعف بصرها فإنه يقاس مدى إبصار العين السليمة ومدى إبصار العين المصابة ، ثم تحدد الدية على قدر نقص ذلك الإبصار ، فإن صارت نصف السليمة في بصرها ففيها ربع دية ، وهكذا .
وكذلك القتيل لا يعرف من قتله ففيها القسامة، وهي باب جليل لصيانة الدماء وحقنها وعدم تسلسل الجريمة.
أردت بذلك العرض نقل مختارات في شأن الدماء لا استيعاب أمر فقهي دقيق كهذا حتى نعلم أن الله شرع لنا الخير كله ، وأن التقصير والضياع إنما هو عندنا ، فيا ويح العلمانيين الأغبياء خاصة وقد ضللوا وراءهم كثيرًا من العامة والبلهاء فظنوا جهلهم علمًا، فرددوا أقوالهم؛ فسيحشرون معهم؛ لأن الطيور على أشكالها تقع، ولقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: (أنت مع من أحببت).
والله من وراء القصد ومنه العون .