الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الرياء داء عضال، يغضب الرب ويحبط الأعمال حذر منه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، لسوء عاقبته، وخدشه للتوحيد، عافانا الله من خطره وشره.
معنى الرياء: الرياء مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة ليراها الناس فيحمدوا صاحبها.
[فتح الباري جـ11 ص443]
التحذير من الرياء وصية ربانية: إن الله حذرنا من الرياء في الأقوال والأفعال وذلك في كثير من آيات القرآن الكريم، وبين لنا سبحانه أن الرياء يحبط الأعمال الصالحة. قال الله تعالى:
[البقرة:462]
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ عند تفسيره لهذه الآية: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة، ليُشكر بين الناس أو يُقال إنه كريم جواد ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال سبحانه:
[ابن كثير جـ2 ص364]
وقال سبحانه:
[النساء:241]
قال ابن كثير في هذه الآية: لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيرًا عن الصلاة التي لا يُرون فيها غالبًا كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس.
[تفسير ابن كثير جـ4 ص813]
فاحذر أخي المسلم من الرياء لأنه من صفات المنافقين الذين قال الله عنهم في كتابه العزيز
[النساء:541]
وقال سبحانه وتعالى:
[الكهف: 11]
قال ابن كثير في قوله تعالى:
[ابن كثير جـ9 ص502]
وقال جل شأنه:
[الزمر:74]
قال مجاهد في معنى هذه الآية: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم.
[الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ51 ص452]
وقال سبحانه موضحًا عقوبة المرائين يوم القيامة:
[الماعون:4-7]
الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من خطورة الرياء
إن النبي صلى الله عليه وسلم يحب لنا الخير ويحرص على إرشادنا لما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة، قال تعالى:
[التوبة:821]
من أجل ذلك حذرنا في كثير من أحاديثه الشريفة من الرياء لأنه يحبط الأعمال الصالحة ويجعلها هباءً منثورًا.
روى أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر». قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء. يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: «اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤن في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟».
[صحيح، صحيح الجامع حديث 5551]
روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً، أشرك فيه معي غيري تركتُهُ وشِرْكه».
[مسلم حديث 5892]
روى الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سَمَّع، سَمَّعَ الله به، ومن يرائي يرائي الله به». [البخاري 9946، مسلم 6892]
قال الخطابي في معنى هذا الحديث: من عمل عملا على غير إخلاص، إنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جُوزي على ذلك بأن يشهره ويفضحه، فيبدو عليه ما كان يبطنه ويُسرُّه من ذلك.
[الكبائر ص751]
روى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلَّم علمًا مما يُبتغى به وجه الله، لا يتعلمُهُ إلا ليصيب به عَرَضًا من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يومَ القيامة». عَرْف الجنة: ريحها.
[حديث صحيح، صحيح أبي داود 2113]
روى الترمذي عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار».
[حديث حسن، صحيح الترمذي 9312]
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول الناس يُقضى عليه، رجل استشهد فَأَتى به فعرَّفه نِعمهُ فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدتُ. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يُقالَ جَريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقِيَ في النار. ورجل تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأُتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلمتُهُ وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليُقالُ عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسَّعَ الله عليه وأعطاه من أصناف المال كُلِّه، فأُتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جَوَاد. فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار».
[مسلم 5091]
أقوال السلف في ذم الرياء
إن لسلفنا الصالح أقوالاً وأفعالاً تدل على ذمهم الرياء، سوف نذكر طرفًا منها:
1 ـ عمر بن الخطاب: نظر عمر إلى رجل يطأطئ رقبته، فقال له: يا صاحب الرقبة: ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوق في القلوب.
[الكبائر للذهبي ص951]
2 ـ علي بن أبي طالب: قال علي رضي الله عنه: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط في الناس، ويزيد في العمل إذا أثنى عليه وينقص إذا ذم به.
[الكبائر 951]
3 ـ أبو أمامة الباهلي: أتى أبو أمامة على رجل وهو ساجد يبكي في سجوده، ويدعو فقال له: أنت! أنت لو كان هذا في بيتك.
[الكبائر ص951]
4 ـ الحسن البصري: قال الحسن: المرائي يريد أن يغلب قدر الله فيه، هو رجل سوء يريد أن يقول للناس هو صالح، فكيف يقولون وقد حَلَّ من ربه محل الأردياء.
[الكبائر ص851]
5 ـ قتادة بن دعامة: قال قتادة: إذا راءى العبد، يقول الله: انظروا إلى عبدي كيف يستهزئ بي.
[الكبائر ص951]
6 ـ الفضيل بن عياض: قال الفضيل: ترك العمل لأجل الناس شرك، والعمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
[الكبائر ص951]
7 ـ محمد بن المبارك الصوري: قال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت بالليل، فإنه أشرف من إظهاره بالنهار، لأن السمت بالنهار للمخلوقين، والسمت بالليل لرب العالمين.
[الكبائر ص951]
مَثَلُ الرياء: قال بعض الحكماء: مثل من يعمل رياء وسمعة كمثل من ملأ كيسه حصى ثم دخل السوق ليشتري به، فإذا فتحه بين يدي البائع، افتضح وضرب به وجهه فلم يحصل له به منفعة سوى قول الناس: ما ملأ كيسه، ولا يُعطى به شيئًا، فكذلك من عمل للرياء والسمعة، لا منفعة له في عمله سوى مقالة الناس ولا ثواب له في الآخرة.
قال تعالى:
[الفرقان:32]
أي الأعمال التي قصد بها غير ربه تعالى، يبطل ثوابها، وصارت كالهباء المنثور وهو الغبار الذي يُرى في شعاع الشمس.
[الزواجر لابن حجر الهيثمي جـ1 ص08]
أقسام العمل مع الرياء
القسم الأول: عمل فيه رياء خالص:
إن العمل تارة يكون رياءً خالصًا، بحيث لا يُراد به سوى مرآة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، وهذا الرياء الخالص لا يكاد يصدر من مسلم في فرض الصلاة والصيام ولكن قد يصدر منه في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص08]
القسم الثاني: عمل لله مع رياء:
وتارة أخرى يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه في أصله، فالنصوص الصحيحة من السنة تدل على بطلان هذا العمل وحبوطه ثوابه.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص08]
القسم الثالث: عمل يخالطه غير الرياء:
إن العمل إذا خالطه شيء غير الرياء لم يبطل بالكلية، فإن خالط نية الجهاد مثلا نية أخرى غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر المجاهد ولم يبطل بالكلية.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص28]
روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثُلُثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تمَّ لهم أجرهم».
[مسلم 6091]
القسم الرابع: عمل خالص لله ثم تطرأ عليه نية الرياء:
إذا كان أصل العمل لله وحده ثم طرأت عليه نية الرياء، فإن كان خاطرًا ودَفَعهُ فلا يضره بغير خلاف بين العلماء، فإن استرسل معه، فهل يَحبطُ عمله أم لا يضره ذلك ويُجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجَّحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازي بنيته الأولى، وهذا القول مروي عن الحسن البصري وغيره، وذكر ابن جرير الطبري أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذِّكر وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة، ويحتاج إلى تجديد نية.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص38-48]
القسم الخامس: عمل لله يصاحبه ثناء الناس:
إذا كان عمل المسلم عملا خالصًا لوجه الله تعالى ثم ألقى الله له الثناءَ الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح المسلم بفضل الله ورحمته واستبشر به لم يضره ذلك.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص48-58]
روى مسلم عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت الرجلَ يعملُ العمل من الخير، ويَحْمَدُهُ الناس عليه؟ قال: «تلك عاجل بُشرى المؤمن».
[مسلم 2462]