الكاتب الصحفي عبده مباشر كتب مقالاً بالأهرام المصرية يوم 7 رمضان 1421هـ الموافق 3/12/2000م، الصفحة التاسعة بعنوان: ((تنقية كتب التراث… لماذا؟)).
وقد بدأ الكاتب مقاله ببيان أن كل الذين يهاجمون الإسلام ويحاولون تشويهه، وكل من يسعى لذلك يجد في كتب التراث الأسانيد التي تدعم فكره وموقفه ووجهة نظره.
ومن هذا المنطلق دعا الكاتب إلى وجوب تنقية كتب التراث الإسلامي مما يشوبها من أخطاء ومغالطات، تساعد على تشويه صورة الإسلام، وحث الكاتب المؤسسة الإسلامية سواء بالأزهر أو غيره من المهتمين بالدعوة إلى الله إلى بذل أقصى الجهد لإنجاز هذه المهمة.
وإلى هنا - والكلام حسن طيب - ولكن ما هالني أن الكاتب شن حملة شعواء على السنة النبوية التي هي الأصل الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن، يما يوهم أن هذه النصوص والأحاديث النبوية ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي مجرد تراث كتبه رجال من القدماء، دونوا فيه أفكارهم ومعتقداتهم!! وضرب أمثلة عديدة لما يستحيل - في عقل الكاتب - أن يكون مقبولاً عند العقلاء، فضلاً عن المؤمنين الموحدين، ولهذا ذكر الكاتب بعض النماذج الحديثية التي اعترض عليها، ونسبها للعلماء الذين دونوها في كتبهم، وذلك مثل قوله:
(وللتدليل على ضرورة وأهمية هذا العمل، سأختار سطوراً من كتب التراث، وأحب أن أوضح أن هناك ما لا يمكن نقله إطلاقاً لما به من فجاجة وتجاوز في المعنى واللفظ. يقول المولى جل وعلا في كتابه الكريم: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) [الفجر: 22].
يقول البخاري ومسلم وغيرهما: (فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا الله، فإذا جاء ربنا عرفناه.فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعون). والخلل واضح فيما قاله البخاري ومسلم ومن سار على نهجهما، فهل للمولى صورة يعرفها الناس؟ بالطبع لا، وهل يبلغ الاجتراء على الله بالقول، أنه يأتي عباده متنكراً؟!
لقد قال المولى عن نفسه: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى:11]، وهو القائل: ( فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال ) [النحل: 74]، وفي موضع آخر يقول البخاري ومسلم وأهل الحديث: ((لا تزال جهنم يلقي فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط)).
وقد قبل عدد من الرواة هذا الحديث، وبدءوا في تأيله ولم يتسائلوا: هل للمولى قدم؟ ولم يتبينوا ما في ذلك من إخلال بتنزيه المولى تبارك وتعالى وما في ذلك من انتقاص للخالق). أهـ.
ثم راح الكاتب يعرض لنماذج أخرى من الأحاديث ما بين صحيح مقبول، وضعيف مردود، وربما موضوع، يجمعها كلها في صعيد واحد، وينسبها للبخاري ومسلم والترمذي وأحمد بن حنبل وابن جرير الطبري والبيهقي وابن حزم والذهبي وابن ماجه وأبي داود، دون أدنى تمييز بين المحدثين الذين ينقلون حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المفسرين والمؤرخين كالطبري والذهبي، والفقهاء كابن حزم، ودون أدنى تمييز بين ما نص العلماء المحققون على صحته، وبين ما جزموا بأنه ضعيف، أو حتى مكذوب لا تجوز روايته إلا للتحذير منها.
وهنا أحب أن أنبه الكاتب - إن كان حسن النية حقاً - أن مسلكه هذا مجرد تشكيك في كتب السنة المعتبرة كأصل من الأصول المتفق عليها عند أهل الإسلام، يعتمد هذا التشكيك على الخلط بين ما هو منسوب للنبي صلى الله عليه وسلم، وبين ما هو منسوب لغيره من العلماء، وما هو مكذوب نبه أهل العلم ضعفه وتركه.
الكاتب يُشكك في البخاري ومسلم!!
إن الكاتب يريد أن يشكك في البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه وأحمد وغيرهم، وهم الذين دونوا لنا ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصوص حديثية، بالغمز تارة، والتصريح بالتهامهم بالتخريف والاستهانة بعقول المسلمين، حتى يوحي للقارئ أهم حفنة كذابين مخرفين!!
ما هو التراث الذي ينبه الكاتب إلى وجوب تنقيته؟ كنت أظن أن الكاتب يريد كتب التاريخ أو الأدب والشعر، ولكن الكاتب - وأمثاله - يعتبرون أن الأدب والشعر العربي تراثاً خالداً، ولكنه - سامحه الله - يقصد سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومناهج النقد التي أسسها العلماء الأجلاء لتمييز حديث النبي صلى الله عليه وسلم صحيحه وسقيمه.
الرسول صلى الله عليه وسلم ينبه على وجب تنقية السنة:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من نبه على وجب تنقية نصوص الوحي الثاني - السنة - مما سيختلط بها من أكاذيب حينما حذر من الكذب عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد من الناس، من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))، وهو الذي قال: ((من روى عني حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)).
وقد أخطأ الكاتب حين روى هذه الأحاديث الموضوعة دون بيان حالها، وتحذير العلماء منها، مثل قوله:
((إن آخر وطئة وطأها الله تعالى كانت بمدينة الطائف)).
((إن الرب سيطوف في الأرض بعد خرابها وقد خلت عليه البلاد)).
((إن الله خلق الملائكة من نور صدره وذراعيه)).
وهذه كلها أحاديث موضوعة وضعها الزنادقة، وقيض الله لها أهل العلم فبينوا زيفها وكذبها، ولو رجع الكاتب لأقوال أهل العلم لعلم أنها أحاديث موضوعة مكذوبة لا يحل روايتها، إلا للتحذير منها، فلماذا يطلب تنقيتها وقد نقاها العلماء فعلاً وهو لا يدري!!
الخلط بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة!!
ثم خلط الكاتب بهذه الأحايث المكذوبة أحاديث صحيحة أو حسنة، ولكنه رواها بالمعنى الذي خطر له منها، ثم عاد ليستنكرها، كقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى النساء الأجنبيات فتعجبنه فيأتي إلى واحدة من نسائه ليقضي حاجته من النساء، والحديث ليس بهذا اللفظ الفج.
ومثل قوله: ذكروا أن موسى عليه السلام ضرب ملك الموت حتى فقأ عينه، وعاد إلى الله أعور لمجرد أن الله أمره بقبض روحه.
ومثل قوله: وعن خليل الرحمن إبراهيم أبي الأنبياء، قال البعض: إن إبراهيم سيستغفر ويشفع لأبيه الكافر يوم القيامة، فيأبى الله ويتحول أبوه إلى ضبع يتلطخ في نتنه.
ولو رجع الكاتب إلى شروح السنة كشرح البخاري لابن حجر، أو شرح مسلم للنووي، لعلم أن أهل العلم قد تكلموا على هذه الأحاديث ببيان سلامتها، وردوا على أهل البدع الذي انتقدوها وطعنوا من خلالها في السنة النبوية كلها، وبينوا المعنى المراد منها ومن أمثالها بما يطول المقام جداً لو استقصيناه.
دور العلماء في التنقية والتصفية!!
لقد قام العلماء الأفذاذ من لدن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بتنقية السنة مما يشوبها، فوضعوا علم الجرح والتعديل حين قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظرون لأهل العدل الثقات الضابطين فينقلون عنهم، ويتركون أهل الفسق والبدعة وغير الضابطين فلا ينقلوا عنهم، بل ويحذرون منهم.
ولا يزال العلماء العاملون يجدون في هذا العمل، ويُخرجون للناس الصحيح ويميزونه عن الضعيف، وذلك بمنهج واضح منضبط، ولهذا نجد أن كتب السنة غير الصحيحين قد خرجت للناس مطبوعة محققة، وكتب الشيخ الألباني - رحمه الله - وتلامذته وكتب إخوته من العلماء شاهدة على ذلك، فليرجع إليها الكاتب ليرى الجهد المبذول للتنقية والتصفية.
وإذا كان الكاتب يرد بعض النصوص الصحيحة، لأن عقله لا يقبلها، كما في المثال الذي نقلناه عنه، وفي الأمثلة التي ذكرها ، فإنني أقول له: وماذا ستصنع في آيات القرآن الكريم التي لن يقبلها عقلك، ماذا تقول في قول الله الذي استشهدت به: ( وَجَاءَ رَبُّكَ )، وهل يمكن لله أن يجيء وينتقل ويتحرك؟!
اعذرني أيها القارئ الكريم، فليس هذا التساؤل من عندي، ولكنه تساؤل يورده بعض أهل البدع على أهل الحق لتشكيكهم في القرآن والسنة، ثم يعمد بعضهم إلى التأويلات المنحرفة لآيات القرآن الكريم، زاعمين أنهم ينزهون الله سبحانه عن النقص.
ماذا يقول الكاتب في هذه الآيات: ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال: 30]، ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) [التوبة: 67]…إلخ!!
وهل يعقل أن يوصف الله سبحانه بالمكر أو بالنسيان أو الاستهزاء؟ هل سيرد الكاتب نصوص القرآن أيضاً بدعوى تنقية التراث أم سيحاول أن يـأولها كما يفعل الكثيرون، أم سيؤمن بها بغير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل، مع اعتقاد تنزيه الله عن كل نقص كما هو منهج أهل السنة والجماعة: ( كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
على الكابت أن يقرأ منهج أهل السنة والجماعة!!
إن ما سيفعله الكاتب مع هذه الآيات يستطيع أن يفعل مثله بسهولة ويسر مع الأحاديث الصحيحة التي لا يعقلها، ولهذا أختم مقالي بنصيحة للكاتب أن يقرأ منهج الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، ويترك مناهج أهل البدع والضلال.
قال الله تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) [النحل: 43].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإن شفاء العي السؤال)). نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والله من وراء القصد.