الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلى رسل الله أجمعين. أما بعد:
فقد أنزل الله الأمانة في القلوب، فامتلأت القلوب بالإيمان، وشعرت النفوس بالأمن والأمان، ثم نزل القرآن فعلم الناس من القرآن ومن السنة حدود هذه الأمانة وما ينبغي عليهم بشأنها.
وقد حدث النبي -صلى الله عليه وسلم - عن الأمانة، حديثين حديثًا في نزولها، وتمكنها من القلوب، والتأكيد عليها بنصوص الوحي، وحديثًا عن رفعها من القلوب، وقلة الأمناء وندرتهم حتى لا تكاد ترى رجلا يؤدي الأمانة.
ففي الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حديثين قد رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر، حدثنا أن الأمة نزلت في جَذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكْت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء، ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان". قال حذيفة: ولقد أتى عليَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلمًا ليردنه عليَّ دينُه، ولئن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنه على ساعيه، وأما اليوم فما كنت لأبايع إلا فلانًا وفلانًا.
والأمانة ضد الخيانة، وتطلق على كل ما عهد به إلى الإنسان من التكاليف الشرعية وغيرها، فالإيمان أمانة، والطاعة أمانة، وكل حق لله تعالى على العباد فهو أمانة، وكل حق للغير عليك فهو أمانة، والولاية أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة له.
حديث القرآن عن الأمانة
1- الأمر بها في قول الله تعالى: [إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا] {النساء:58}.
فأمر الله عباده بأداء الأمانات كاملة غير منقوصة ولا مبخوسة إلى أهلها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار والمأمورات التي لا يطلِّع عليها إلا الله تعالى.
2- مَدْح أهلها في سياق مدح المؤمنين الخاشعين. قال تعالى: [قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم على صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون] {المؤمنون: 1- 11}. فأفلحوا بأداء الأمانة في الصلاة بالخشوع فيها، والزكاة بأدائها، واللغو بالإعراض عنه، والفروج بحفظها، والعهود بمراعاتها فاستحقوا بذلك الفلاح والفوز بالجنة.
3- بيان ثِقَلها وجرأة الإنسان على تحملها. قال تعالى: [إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما] {الأحزاب: 72، 73}.فعظَّم الله شأن الأمانة التي ائتمن عليها المكلفين من امتثال الأوامر واجتناب المحارم، وبيّن أنه سبحانه عرضها على المخلوقات العظيمة عرض تخيير، فأشفقن من حملها وحملها الإنسان على ضعفه وعجزه، فكان جاهلا بمؤنتها، ظالمًا لنفسه بتعرضه لهذا الحمل الثقيل، وانقسم الناس بحسب قيامهم بها إلى ثلاثة أقسام: منافقون أظهروا القيام بها وهم كاذبون، ومشركون تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون قاموا بها ظاهرًا وباطنًا، فاستحق المنافقون والمشركون العذاب الأليم، واستحق المؤمنون أن يتوب الله عليهم ويغفر لهم فيما قصروا فيه وعوضهم النعيم المقيم عما تحملوه وقاموا به.
4- ربطها بتقوى الله عز وجل والحث عليها في التعامل. قال تعالى: [فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه] {البقرة: 183}.
5- النهي عن ضدها. قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون] {الأنفال: 27}، فأمر الله بأداء الأمانات، ونهى عن الخيانة.
6- نَفْي محبة الله تعالى للخائنين. قال تعالى: [إن الله لا يحب الخائنين] {الأنفال:58}، وقال: [إن الله لا يحب كل خوان كفور] {الحج:38}.
7- سوء عاقبة الخيانة.قال تعالى: [ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين] {التحريم: 10}.
قبض الأمانة وقبض العلم
تُقبض الأمانة من القلوب، فيصبح الأمين خائنًا، ويندر الأمناء، وفي الحديث: "ينام الرجلُ النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكْت، ثم ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل". والوكت: سواد في لون الجلد، والمجل ما يكون باليد من أثر العمل، وبالجلد من أثر الحرق، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم - : "كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا" أي: منتفخًا وليس فيه شيء من الخير.
وإن كان العلم يقبض بموت العلماء، كما في الحديث: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من قلوب العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رءُوسًا جهالاً فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". فإن الأمانة تقبض من قلوب الأمناء، فيتحول الأمين من الأمانة إلى الخيانة- والعياذ بالله- حتى لا تكاد تجد رجلا أمينًا، وحتى تنقلب المعايير، فيقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. نعوذ بالله من ضعف الأمانة وقلة الأمناء.
من لي بإنسان إذا اغضبته
وجهلتُ كان الحلم رد جوابه
وتراه يصغي للحديث بقلبه
وبعقله ولعله أدرى به
إذا كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وهو الصحابي الجليل يشكو قلة الأمناء في زمانه، فماذا يقول الواحد منا ونحن في آخر الزمان؟ ونبينا -صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة". قالوا: وكيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
اللهم اجبر عجزنا، وتولَّ أمرنا، ووفقنا للتمسك بدينك وشرعك وسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم - ، واجعل لنا من قول نبينا -صلى الله عليه وسلم - : "لا تزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" أوفر حظ ونصيب.
والله من وراء القصد.