عقيدة الشافعي

2010-10-05

جمال المراكبى

سبق أن تكلمنا عن أصول السنة والعقائد المتفق عليها عند أئمة أعلام الأمة، وسيراً على هذا النهج نتكلم عن عقائد بعض أعيان العلماء، ونبدأ في هذا اللقاء بالحديث عن عقيدة الإمام الشافعي.

محمد بن إدريس الشافعي إمام جليل عظيم القدر ، قال عنه الذهبي : الإمام عالم العصر ناصر الحديث فقيه الملة أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي ، الغزي المولد ، نسيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه ، فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب . وقال عنه الخطيب البغدادي : الإمام زين الفقهاء وتاج العلماء .

وقد صنف العلماء في مناقبه المصنفات ، وأثر الشافعي في الأمة عظيم ، فهو مجدد القرن الثاني بعد عمر بن عبد العزيز ، وهو الذي نصر السنة والحديث وأول من صنف في أصول الفقه وانتشرت أقواله في ربوع الأرض وكثر مادحوه وصار للمذهب الشافعي مدرسة من أكبر المدارس الفقهية إلى يومنا هذا .

وكان الشافعي فقيهاً أديباً شاعراً حسن العشرة اختلف ذات يوم مع أحد جلسائه في مسألة ثم انفض المجلس فإذا به يأتي دار صاحبه ويقرع بابه ليقول له : ألا يسعنا أن نكون إخواناً وإن اختلفنا في مسألة ؟

وعاتب مرةً صديقاً بلغه عنه شيء فكتب إليه:

اذهب فإنك من ودادي طالق
لا طالق مني طلاق البين
فإن ارعويت فإنها تطليقة
ويُقيم وُدُّكَ لي على ثنتين
وإن اعوججت شفعتُها بمثالها
فيكون تطليقين في قرءين
وإن الثلاث أتتك مني بتةً
لم يغن عنك شفاعة الثقلين

وليس مرادي أن أترجم للإمام الشافعي فتراجمه كثيرة ، ولكن مرادي أن أتحدث عن عقيدته لأن الناس يتحدثون عن مذهبه الفقهي فيكثرون ، ولا أرى أحداً من الشافعية يتحدث عن معتقد هذا الإمام ، بل إن اللافت للنظر أن أكثر الشافعية يعلنون دائماً أبداً أنهم في باب العقائد أشاعرة ، فينتسبون للشافعي في فروع الدين ، وينتسبون للأشعري في أصول الدين وهذا يجعل الباحث في حيرة ، ويثير عديداً من التساؤلات هل كان الشافعي أشعرياً ؟؟

هذا محال لأن الأشعري ولد بعد وفاة الشافعي ، فهل كان الشافعي إماماً في الفقه ، ولم يكن إماماً في أصول الدين ، وما هو المنقول عن هذا الإمام في باب العقيدة ؟ ويجد الباحث صعوبة في تحرير هذه المسألة .

لقد تعرض الشافعي في حياته للهمز والطعنن في عقيدته وتعرض لشكاية ظالمة حمل بسببها إلى الخليفة العباسي فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وعند الناس وجيهاً ، ونسبه بعض النواصب للرافضة ظلماً وزوراً لأنه يعلن حبه لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في ذلك :

إن كان رفضاً حب آل محمد    فليشهد الثقلان أني رافضي

قال ابن كثير: ليس برفضٍ حب آل محمد، وكان أهل السنة يحبون محمداً صلى الله عليه وسلم وآله ويجب عليهم ذلك كما يجب عليهم حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

وتعرض للشافعي بعض متعصبي الحنفية فوضع حديثاً في فضل أبي حنيفة وذم الشافعي ونسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذباً فقال : سيكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي ، وسيكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس فتنته على أمتي أضر من فتنة إبليس . ( ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد )

ورد بعض متعصبي الشافعية بمثل ذلك ، ومما يروى في هذا قول بعضهم :

مثل الشافعي في العلـماء       مثـل البدر في نجوم السماء

قـل لمن قاسه بنعمان جهلاً     أيُقاس الضــياءُ بالظلمــاء

وإذا كان الشافعية لم ينقلوا لنا معتقداً منسوباً إلى الشافعي كما نُقل عن أحمد بن حنبل معتقده ، فهذا لأن الشافعي لم يكتب عقيدته ، وما كان العلماء يكتبون عقائدهم إلا بعد ظهور فتنة المعتزلة الجهمية وحملهم الناس على البدعة والقول بخلق القرآن ، وثبات إمام أهل السنة في وجه هذه البدعة حتى رد الله كيدهم في نحورهم فكتب علماء السنة محذرين من عقائد المبتدعة مبينين للناس المعتقد الحق الموافق للسنة .

وقد نُقل عن الشافعي مساءل متفرقة في العقيدة تدل على عقيدته ومذهبه منقولة في تراجمه.

وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجلين اختلفا فِي الِاعْتِقَادِ . فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي السَّمَاءِ فَهُوَ ضَالٌّ . وَقَالَ الْآخَرُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي مَكَانٍ وَهُمَا شَافِعِيَّانِ فَبَيِّنُوا لَنَا مَا نَتَّبِعُ مِنْ عَقِيدَةِ " الشَّافِعِيِّ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ ؟

فأجاب : الْحَمْدُ لِلَّهِ اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاعْتِقَادُ " سَلَفِ الْإِسْلَامِ " كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه ؛ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمَشَايِخِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ كالفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ نِزَاعٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ . وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ الثَّابِتَ عَنْهُ فِي التَّوْحِيدِ وَالْقَدَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِاعْتِقَادِ هَؤُلَاءِ وَاعْتِقَادُ هَؤُلَاءِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَهُوَ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ خُطْبَةِ " الرِّسَالَةِ ": الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ . فَبَيَّنَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم .أهـ

وذكر رحمه الله في القصيدة المنسوبة إليه في السنة قوله :

هذا اعتقاد الشافعي ومالك       وأبي حنيفة ثم أحمــد يُنْقَلُ

فإن اتبعت سبيلهم فمـوفق      وإن ابتدعت فما عليك مُعَوَّلُ

وقد صنف بعض الفضلاء في عقيدة الشافعي مصنفات لم تُنقل إلينا وقد جاء في ترجمة الحافظ عبد الغني المقدسي المتوفى سنة 600 هـ أن له مصنفاً بعنوان عقيدة الشافعي ( ذيل طبقات الحنابلة)

وذكر الذهبي في ترجمة الشافعي أن الهكاري له كتاب في عقيدة الشافعي روى فيه بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى قال سمعت الشافعي يقول : وقد سُئل عن صفات الله تعالى وما يؤمن به فقال : لله أسماء وصفات جاء بها كتابه ، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته لا يسع أحداً قامت عليه الحجه ردها لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها ، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجه عليه فهو كافر ، فأما قبل ثبوت الحجه فمعذور بالجهل ، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية والفكر ولا نكفر بها أحداً إلا بعد إنتهاء الخبر إليه بها ، ونُثبت هذه الصفات ، وننفي عنه التشبيه ، كما نفاه عن نفسه فقال : "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " الشورى:11

( سير أعلام النبلاء جـ10 صـ79- 80 )

وما نقله ابن تيمية وابن القيم والهكاري يدل على أن معتقد الشافعي في الأسماء والصفات لم يكن يختلف عن عقيدة إخوانه من العلماء المتبعين للأثر ، خاصة وأن الشافعي كان معروفاً بنصرته للسنة وحرصه على اتباع الأثر حتى قال عنه أحمد بن حنبل : ما رأيت أحداً أتبع للأثر من الشافعي .

وسوف أنقل لك حفظك الله طرفاً من أقوال الشافعي في مسائل الإيمان والقدر والقول في القرآن والقول في الصحابة وغيرها من المسائل ليتبين لك أن معتقد الشافعي هو معتقد أهل السنة والجماعة المتبعين للأثر ، المنكرين على المتكلمين والفلاسفة ما ابتدعوه في أصول الدين .

قول الشافعي في الإيمان :

قال السبكي في طبقات الشافعية جـ1 صـ130 : وإلى مذهب السلف ذهب الإمام الشافعي ومالك وأحمد والبخاري وطوائف من لأئمة المتقدمين والمتأخرين . أهـ

ومذهب السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان خلافاً للمرجئة .

وقد نقل البيهقي وابن عبد البر عن الربيع بن سليمان قال : سمعت الشافعي يقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص .

والمنقول عن الشافعي في هذا الباب يطول ذكره

والعجيب أن السبكي نقل في طبقاته أن أبا حنيفة والأشعري خالفا في هذه المسألة وقالا : الإيمان هو التصديق ، وأن المشهور من مذهب الأشعري أنه لا يقبل الزيادة والنقص ، وذكر عدداً ممن خالف من الأشاعرة الذين وافقوا السلف ، ومع ذلك فقد حاول الانتصار لرأي الأشعري وترجيحه ، ثم حاول رفع الخلاف في المسألة زاعماأنه خلاف لفظي .

قوله في القدر :

سُئل الشافعي عن القدر فقال :

 

ما شئت كان وإن لم أشأ
وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد علىما علمتَ
ففي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننتَ ، وهذا خذلتَ
وهذا أعنتَ وذا لم تُعن
فمنهم شقيٌ ومنهم سعيدٌ
ومنهم قبيحٌ ومنهم حسن
 

( مناقب الشافعي للبيهقي – وشرح أصول اعتقاد أهل السنة )

وقال رحمه الله : مشيئة العباد هي إلى الله تعالى ولا يشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ، فإن العباد لم يخلقوا أعممالهم وإن القدر خيره وشره من الله عز وجل ، وإن عذاب القبر حق ، ومسألة أهل القبور حق ، والبعث حق ، والحساب حق ، والجنة والنار حق ، وغير ذلك مما جاءت به السنن . ( مناقب الشافعي )

وقال : القدرية الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هم مجوس هذه الأمة " الذين يقولون إن الله لا يعلم المعاصي حتى تكون . ( مناقب الشافعي )

قوله في القرآن :

قال رحمه الله : من قال القرآن مخلوق فهو كافر . ( شرح أصول اعتقاد أهل السنة )

وذكر عنده رجل من الجهمية فقال : أنا مخالف له في كل شيء وفي قوله لا إله إلا الله ، أنا أقول : لا إله إلا الذي كلم موسى تكليماً من وراء حجاب وهو ويقول : لا إله إلا الذي خلق كلاماً أسمعه موسى من وراء حجاب . ( ابن عبد البر ، والبيهقي )

قوله في الصحابة :

قال رحمه الله : أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم ، فرحمهم الله وهنأهم بما أتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين ، فهم أدوا إلينا سُنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوه والوحي ينزل عليه ، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاماً وخاصاً وعزماً وإرشاداً ، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا ، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد ، وورع وعقل وآراؤهم لنا أحمد وأولى من آرائنا عندنا لأنفسنا والله أعلم .

وأخرج البيهقي عن ربيع بن سليمان قال : سمعت الشافعي يقول في التفضيل : أبو بكر وعمر وعثمان وعلى.

وأخرج البيهقي عن محمد بن عبد الله بن الحكم قال : سمعت الشافعي يقول : أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم .

ومن شعره في الصحابة ما رواه صاحب المناقب وصاحب الطبقات عن  المزني :

شهدت بأن الله لا رب غيره
وأشهد أن البعث حق وأخلص
وأن عرى الإيمان قول مُبَيَنٌ
وفعل زكي قد يزيد وينقص
وأن أبا بكر خليفة أحمد
وكان أبو حفص على الخير يحرصُ
وأُشهدُ ربي أن عثمان فاضلٌ
وأن علياُ فضله متخصص
أئمة قوم يُهتدى بهداهم
لحا الله من إياهم يتنقصُ
فما لغواة يشتمون سفاهة
وما لسفيه لا يُجاب فيخرص
 

قوله في الرؤية :

قال الشافعي : في كتاب الله عز وجل :" كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون "  " المطففين" دلالة على أن أولياءه يرونه على صفته . وفي رواية : دلالة على أن أولياءه يرونه يوم القيامة بأبصارهم .

( الإبانة جـ3 صـ59 – الاعتقاد للبيهقي صـ 63 – اللالكائي شرح أصول الاعتقاد حـ 883 – وابن كثير في ترجمة الشافعي )

قوله في ما ورد في الحديث من صفات الله عز وجل :

عن يونس بن عبد الأعلى قال : سمعت الشافعي يقول : ما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فلا يقال له لم وكيف.

( الإبانة جـ3 صـ203  الرد على الجهمية )

وعن الربيع بن سليمان قال : قال الشافعي رحمه الله : وليس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اتباعها بفرض الله عز وجل والمسألة بكيف في شيء قد ثبتت فيه السنة لا يسع عالماً .

قوله في أهل البدع وأصحاب الكلام :

قال الشافعي : ما رأيت أحداً ارتدى شيئاً من الكلام فأفلح .

وقال: لو أردت أن أضع على كل مخالف كتاباً كبيراً لفعلت ولكن ليس الكلام من شأني، ولا أحب أن ينسب إلى منه شيء .

وأخرج الهروي عن يوسف بن يحيى البوطي قال : سألت الشافعي أأصلي خلف الرافضي ؟ قال : لا تصل خلف الرافضي ولا القدري ولا المرجيء ، قلت : صفهم لنا ، قال : من قال :الإيمان قول فهو مرجيء ، ومن قال إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامين فهو رافضي ، ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري.

وبعد .. فهذه نبذ مختصرة من أقوال الشافعي حررها من نقل مذهبه وكتب في فضائله ، فهل يقال بعد ذلك إلا أن الشافعي كان كسابقيه من أئمة السلف وعلى معتقدهم وهل يقبل من أحد بعد ذلك أن يقول أنا شافعي المذهب أشعري المعتقد ؟!

عدد المشاهدات 10384