استانبول بين العلمانية والعربية

2010-09-28

صفوت نور الدين

الحمد لله واسع الفضل ، يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ويحيي الأرض بعد موتها ، أحيا الأرض بمطر السماء ، وأحيا البشر بوحي الأنبياء ، فكان المثل كما جاء في حديث البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) .

هذا ولقد مررت في أحد مطارات أمريكا ، فجلسنا ننتظر صاحبًا لنا يأتي بالسيارة ينقلنا إلى المسجد الذي نذهب إليه ، فرأيت شابين من (الأمريكان السود) ، وبيد أحدهما مصحف ، فألقيت السلام عليه ، فرد هاشًا ، فلما كلمه صاحبي ظهر أنه لم يُسلم بعد ، وأن رفيقه رآه يستمع إلى الموسيقى ، فأعطاه هذا المصحف يقرأ فيه ، فترك الموسيقى وانهمك في القراءة ، فرأينا مجالاً مناسبًا لبيان عقيدة ، الإسلام ، فلما دعوناه للشهادة لم يتأخر ، فإذا بالآخر يأتي مسرعًا يعانقنا هو وصاحبه ، ثم خرجنا إلى سيارتنا ، كان ذلك في دقائق ، وأنا أحدث أصحابي عن المخاوف على المسلمين وأبناءهم في هذه البلاد يدخل الكفر عليهم من كل مكان، فهل يدخل هذا الذي نطق بالشهادتين الإسلام ؟ وكيف يثبت عليه ؟ وكلام العلماء في روجيه جارودي ليس ببعيد ، فكثير من الناس يغترون بحديثي العهد بالإسلام ، فهم في حاجة إلى استمرار رعاية ودوام عناية ، وتعليم سلوك وتربية .

وبينما كنت في طريق عودتي إلى مصر مررت على (استانبول) ، هكذا يكتبونها بالحروف اللاتينية ، بعد أن غير أتاتورك لهم حروف لغتهم من العربية إلى اللاتينية - استخف قومه فأطاعوه - فبدل لهم الحروف العربية ، مع أنه أبقى لغتهم التركية ، إلا أنه عزلهم بذلك عن كل مظاهر الإسلام ، فأصبحت ترى رجالهم ونساءهم بينهم وبين الإسلام - خلقًا وسلوكًا - بون شاسع ، ولقد لقينا في الساعات الطويلة التي أمضيناها في المطار مهانة وسوءً لم نعهد مثله ، فضلاً عن فقدان المسجد والإرشاد إلى الصلاة ، وكل مظاهر الصيام غير ظاهرة - حيث كنا في رمضان - وسوقهم الحرة في المطار تكاد تطبق على بيع الخمور وأدوات السفور .

هون علينا الساعات الطويلة أن التقينا مع جماعة من المسافرين القادمين من أوزباكستان ، تلك البلاد التي خرجت للإسلام بعد أن تفجر الاتحاد السوفيتي من داخله ، فإذا بهم مجموعة رجال قدموا للعمرة ونزلوا وهم في طريقهم إلى جدة ، ومعهم نساءهم اللاتي قد تلفعن في ثيابهن فلا يبدوا منهن عين ولا ظفر ، فيسر الله عز وجل بهم قطع ذلك الوقت الطويل ، حيث قضينا ليلة طويلة من ليالي رمضان فتعرفت عليهم ، حيث أنهم يعتنون بتحفيظ القرآن للأبناء والنساء ، وقال لي شيخهم : أنتم أهل مصر لا تعتنون في بيوتكم بتعليم الأولاد النحو والصرف !! نعم هكذا قالها : النحو والصرف ، فصرت أنظر إلى اللافتات التركية مكتوبة بالحروف اللاتينية ، وإن كانت بعض الكلمات تراها عربية النطق ، وإن كان التحريف قد أخرجها عن صلتها بالعربية ، والمتدبر يرى الحروف العربية أكثر الحروف وفاءً بالنطق بأقصر طريق ؛ لذا فإنك ترى بلاد الغرب يشتهر عندهم الاختصار باستخدام الحروف الأولى من الكلمات ، وليس المجال لنقد الحروف اللاتينية ، وبيان ميزات الحروف العربية ، ولكن العرب لا يجيدون عرض قضاياهم وبيان الكنوز التي عندهم حتى ترى الأجيال المعاصرة منهم تلهث وراء أهل الكفر ، يظنون ما هم فيه سعادة وتقدم ، والله سبحانه يقول : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [ النور : 39] .

فرأيت أن الله امتن على أقوام في وسط الشيوعية فحافظوا على إسلامهم، ويعيبون على العرب المسلمين أنهم لا يتعلمون النحو والصرف !!

فكأن المظهر الذي رأيته في مطار تركيا لا يعبر عن حقيقة الناس في البلاد، فلا بد من أناس يحتفظون بدينهم ويحافظون على أبناءهم، حتى إذا أزال الله الغمة عاد القوم إلى إسلامهم يظهرون به.

لذا فإن واجب الدعاة أن يجتهدوا ، فيعلموا الناس دين الإسلام ولغة القرآن الكريم ، لا يصرفهم عن ذلك تشويش المشوشين ، ولا إغراء غير الواعين ؛ لذا فإن المساجد والقائمين عليها ينبغي أن يعتنوا بتعليم القرآن الكريم ولغته في المساجد والبيوت ، ويفهموا أن هذه مهمة الوالدين التي لا تسقط عن كاهلهم .

فالحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود إلا يُولد على الفطرة ، فأبواه يُهودانه ، أو يُنصرانه ، أو يُمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟) ثم يقول أبو هريرة ، رضي الله عنه : (  فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون ) [ الروم : 30] .

فالدواء إذًا إحياء دور الدعاة اجتهادًا في تعليم الشرع الذي أنزله رب العالمين يعرفون الناس جميعًا أركان الإسلام الخمسة ليعملوا بها ، وأركان الإيمان الستة ليعتقدوها ، ويعلمونهم القرآن الكريم ولغته (النحو والصرف) .

والله من وراء القصد .

عدد المشاهدات 10423