إن ما يمر به عالمنا الإسلامي الآن يجعلنا نتساءل: لماذا أصبح المسلمون هدفًا للمصائب والكوارث والحروب؟ فالمسلمون هم أكثر الشعوب معاناة على وجه الأرض، فهم وقود للحروب والصراعات، وضحايا للاعتداءات الوحشية في كل بقاع الأرض، ثم تأتي الكوارث الطبيعية لتقف هي الأخرى ضدهم، لنجد أكثر ضحايا الزلازل والفيضانات والأعاصير والمجاعات والأمراض والأوبئة الفتاكة من المسلمين!!
سؤال يتردد على ألسنة الكثيرين، هل هو غضب الله على المسلمين؟ ولماذا لا نجد مثل هذه الابتلاءات في غير المسلمين؟ ولماذا ينعم الله عز وجل بصنوف كثيرة من النعم على غير المسلمين؟
والسؤال يتضمن الكثير من المغالطة، فالمصائب والكوارث ليست حكرًا على المسلمين دون غيرهم، ولكن آثارها السلبية تكون أكثر ظهورًا بين المسلمين المصابين بأمراض الجهل والتواكل والسلبية والتخلف، بينما تخفّ هذه الآثار في المجتمعات المتقدمة وأغلبها من غير المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والبلاء يعمُّ المسلم والكافر، ويكون بالنعمة والنقمة، قال تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور [الملك:2].
وقال تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن (15) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن (16) كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحاضون على طعام المسكين (18) وتأكلون التراث أكلا لما (19) وتحبون المال حبا جما [الفجر: 15- 20].
فليس كل من أكرمه الله في الدنيا بصنوف من النعم هو في الحقيقة مُنعم عليه، وليس كل من قُدِر عليه رزقه مهانًا عند الله، بل إن الله عز وجل يبتلي الإنسان بالنعم كما يبتليه بالمصائب، والإنسان يتقلب في الدنيا بين صنوف من النعم وصنوف من المصائب.
والنعم التي ينعم بها المولى على عباده كثيرة: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [النحل: 18]، وكلها من الله سبحانه وتعالى: وما بكم من نعمة فمن الله [النحل: 53]، والعباد فيها بين شاكر وكافر؛ فالشاكر يبارك له الله في النعم، ويزيده من فضله لئن شكرتم لأزيدنكم [إبراهيم: 7]، والكافر يزيل الله عنه كل أثر للنعمة، ولا يبقى له إلا المصائب والمحن في الدنيا والآخرة: ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم: 7] .
وذلك لأن النعم على قسمين: نعم مطلقة، ونعم مقيدة.
فالنعم المطلقة: هي المتصلة بسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي التي لا تزول ولا تنقطع، وتمامها يكون بالخلود في الدرجات العليا من الجنة، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو يسأل ربه تمام النعمة، فقال له: "هل تدري ما تمام النعمة؟ تمام النعمة أن يرزقك الله الجنة ويحول بينك وبين النار".
قال تعالى: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [آل عمران: 185].
وهذه النعمة المطلقة هي نعمة الإسلام والسنة، وأهلها هم أهل الرفيق الأعلى، أهل الهداية، ولهذا أمرنا الله تعالى أن نسأله في صلواتنا الهداية إلى الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين: اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [الفاتحة: 6، 7].
فالمغضوب عليهم: الذين عرفوا الحق وأعرضوا عنه، والضالون: الذين ضلوا سبيل الرشاد، ليس لهم من هذه النعمة نصيب وإنما هي للمطيعين وحدهم: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [النساء: 69].
وهذه النعمة المطلقة هي التي أسبغها الله وأتمها على عباده المؤمنين بإكمال دينه وإتمام شريعته وإرسال رسوله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة: 3].
وهذه النعمة المطلقة هي التي يفرح بها في الحقيقة، والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس: 58]، وفضل الله ورحمته في الإسلام والسنة جعلنا الله من أهلها.
والنعم المقيدة: هي ما يتفضل به الله على عباده في الدنيا مما يحبون؛ كالصحة والفراغ والغنى والعافية في البدن والزوجة والولد، وهي شهوة وزينة، وهي مشتركة بين المؤمن والكافر، والبَّر والفاجر، وهي مناط الاختبار والابتلاء: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد [آل عمران: 14، 15].
قال ابن كثير: "يخبر الله تعالى أنه زيَّن للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها، قال تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها [الكهف: 7]، فلما زينت لهم هذه المذكورات تعلقت بها نفوسهم، ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسم جعلوها هي المقصود فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خُلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصَّلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فكانت زادًا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.
والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها ابتلاءً وامتحانًا لعباده، ليعلم من يُقدِّم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم، وطريقًا يتزودون منها لآخرتهم، ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، علموا أنها متاع الحياة الدنيا فجعلوها معبرًا إلى الدار الآخرة، فصارت زادًا لهم إلى ربهم". اهـ.
إن لله عبادًا فطنًا
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحيّ وطنا
جعلوها لُجَّة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
وفي الآيات تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترِّين بها، وتزهيد لأهل العقول بها، لذا أخبر الله عن دار القرار، ومصير المتقين الأخيار، وأنها خير من هذه الدار الفانية والنعيم الزائف الزائل، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الزائلة الحقيرة ثم اختر لنفسك أحسنها، واعرض على قلبك المفاضلة بينهما.
والمصائب التي يبتلي الله بها عباده كثيرة؛ من فقر ومرض وتعب وعنت وموت، وهي قدر محتوم يعم المؤمن والكافر والبر والفاجر، والقصد منها الاختبار والابتلاء ليميز الله الخبيث من الطيب.
قال تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد:22 ، 23].
المصائب المكفرة
1- المصائب بسبب الذنوب: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [الشورى: 30]،
من يعمل سوءا يجز به [النساء: 123].
2- المصائب قدر محتوم ينبغي التسليم له: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد: 22- 23]. ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم [التغابن:11].
3- وجوب الصبر على المصائب لأنها ابتلاء من الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون (154) ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [البقرة: 153- 157].
4- المصائب كفارات للذنوب: عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكُها". (البخاري 5640).
وعن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نَصَب ولا وَصَب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكُها، إلا كفر الله بها من خطاياه". [البخاري 5641].
والكفارة: صيغة مبالغة من التكفير، وأصله التغطية والستر، والمعنى أن ذنوب المؤمن تتغطى بما يقع له من ألم المرض، وسائر المصائب.
قال تعالى: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا[النساء:123-124].
والمعنى أن كل من يعمل سيئة يجازى بها إما في الدنيا أو الآخرة، والمرض والمصائب يكون جزاءً للسيئات، وكفارة لها. ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن معنى الآية أن المسلم يجازى على خطاياه في الدنيا بالمصائب التي تقع له فيها فتكون كفارة لها.
أخرج أحمد وابن حبان عن عائشة أن رجلًا تلا هذه الآية، فقال: إنا لنجزى بكل ما عملناه؟ هلكنا إذن. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نعم يجزى به في الدنيا من مصيبة في جسده مما يؤذيه.
وأخرجا أيضًا عن أبي بكر قال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال: "غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض، ألست تحزن؟" قال: بلى. قال: "هو ما تجزون به".
وروى مسلم عن أبي هريرة: أن هذه الآية لما نزلت بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها".
هل المصائب كفارة بنفسها أم بالصبر عليها؟
قال العز بن عبد السلام: "إن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا". وقال القرطبي في المفهم مثل ذلك.
وقال القرافي: "المصائب كفارات جزمًا، سواءً اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا كان التكفير أعظم".
وقال ابن حجر: والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك، فإن لم يكن للمصائب ذنب عُوِّض عن ذلك من الثواب بما يوازنه.
وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن؛ لأن الآدمي لا ينفكُّ غالبًا عن ألم بسبب مرض أو همّ أو نحو ذلك، وإن الأمراض والآلام والأوجاع؛ بدنية كانت أو قلبية تكفر ذنوب من تقع له، وقد ورد في الحديث: "ما من مسلم يصيبه أذى- شوكة فما فوقها- إلا كفَّر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها". (البخاري 5648).
هل المصائب تكفّر جميع الذنوب؟
ظاهر النصوص يفيد ذلك، ولكن أكثر العلماء جعلوا ذلك خاصّا بالصغائر، أما الكبائر فلا بد فيها من التوبة النصوح، واستدلوا بحديث: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر".
والراجح أن الحسنات الماحية ومنها الصبر على القضاء والرضا به توضع في كفة الحسنات، وذلك في مقابلة الذنوب التي توضع في كفة السيئات، فإما أن ترجح بها وإما أن تعادلها.
والحسنات توضع متضاعفة إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئات توضع منفردة.
وربما تعظم الحسنة الواحدة فتطيش بها سجلات عظيمة من الذنوب كما في حديث البطاقة عند أحمد والترمذي.
والله أعلم.