الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله … وبعد :
فمن المعلوم الذي لا يخفى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ربى جيلاً لم تشهد له البشرية مثيلاً قبله ولا بعده !!
وكان لهذا الجيل من الخصائص والصفات قدرًا عظيمًا عجيبًا غريبًا فريدًا يجعل القلب يهتاج شوقًا إليهم ، ويمتلئ حبًّا لهم ؛ فقد أودع الله محبتهم في قلوب عباده المؤمنين ؛ فما من مؤمن صادق إلا ويشعر شعورًا عميقًا أنه يحب صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؛ فحبهم إيمان ، وبعضهم نفاق ! وقد كان المسجد النبوي الشريف هو المدرسة والجامعة التي تخرج منها هذا الجيل المبارك الذي وصفهم الله بأنهم : ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) [ الفتح : 29] .
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يربيهم بقوله وفعله ، وكانوا رضي الله عنهم يتخذونه أسوة وقدوة في كل شأن من شئون الدنيا والآخرة .
وكان إذا جلس -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم أحاط به الصحابة من كل جانب ، وتحلقوا عليه في شكل دائرة كالنجوم التي تحيط بالبدر ليلة الكمال ؛ وهذا دليل على محض الرغبة في العلم وتمام الشوق إليه ، وعظيم الحرص عليه مع بالغ الاهتمام وكمال الاحترام ، وكانت مجالس العلم منظمة مرتبة على أيام مخصوصة وفي أوقات مخصوصة كما ثبت في ( البخاري ) أن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، كان يذكَّر الناس في كل خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم ، قال عبد الله ، رضي الله عنه : أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم ، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بها مخافة السآمة علينا (1) - أي خشية الملل .
وكان للنساء أيضًا أيام مخصوصة ( الدروس النسائية ) كما ثبت في ( البخاري )؛ أن النساء قلن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدهن يومًا لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن.
وكان من تربيته -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بشئون المرأة أنه كثيرًا ما يحيل على واحدة من أمهات المؤمنين في شرح مسألة، أو تفصيل مجمل أو توضيح مشكل مما يتعلق بأمور النساء وأحوالهن.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يعلم ويربي من كان مقيمًا معه في نفس الموطن (مكة قبل الهجرة، والمدينة بعد الهجرة)، أمّا من كان بعيدًا عنه فإنه يرسل إليهم الفقهاء والقراء لتعليمهم وتربيتهم.
كما كان -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على نقل العلم وتبليغه إلى غيرهم بعد حفظه واستيعابه وفهمه ؛ كما في ( السنن ) : ( نضر الله امرءًا سمع مني مقالتي فحفظها ووعاها فأداها كما سمعها ، فرب مبلغ أوعى من سامع).
ولم يكن كبر السن مانعًا - عند الصحابة رضي الله عنهم - من التعلم ؛ فقد كانوا يحرصون على التعليم وهم كبار كما ذكره البخاري في ( صحيحه ) في باب ( الاغتباط بالعلم والحكمة ) من كتاب العلم ؛ قال : ( وقد تعلم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في كبر سنهم ) .
ولم يكن الصحابة ، رضي الله عنهم ، في حضور المجالس العلمية النبوية سواء ؛ بل كان منهم من يلازم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يتخلف عنه في حضر أو سفر ؛ كأبي بكر ، وأبي هريرة ، رضي الله عنهما ، ومنهم من تخلف عن مجلسه أحيانًا لتحصيل قوته ورزقه ، وهؤلاء قد بلغ بهم الحرص أنهم كانوا يسألون إذا حضروا عما فاتهم ، أما من بعدت عليهم الشقة ، وكانوا في بلاد أخرى فإنهم يضربون أكباد الإبل إلى المدينة المنورة ليقفوا على حكم الله في كل نازلة نزلت أو واقعة أشكل عليهم حلها .
وقد أدى التفاوت بينهم ، رضي الله عنهم ، في التلقي والمواظبة إلى تفاوت في الرتبة والمنزلة العلمية والتخصص !! فكان فيهم المكثرون من الرواية، ومنهم المقلون، وفيهم أهل الفتوى، ومنهم القراء الذين جمعوا القرآن، ونقلت عنهم وجوه القراءة.
وكان من صفات الصحابة التي تربوا عليها في طلب العلم، والتي يحتاج كل طالب علم بخاصة، وكل مسلم بعامة أن يعرفها:
اهتمام شديد بالحفظ ، ومدارسته بينهم ، ومراجعته ؛ قال أبو سعيد الخدري ، رضي الله عنه : كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قعدوا يتحدثون ؛ وكان حديثهم الفقه إلا أن يأمروا رجلاً فيقرأ عليهم سورة .
اعتناء عظيم بالضبط والفهم لما يسمعون ، حتى إنهم إذا سمعوا ما لم يفهموا من العلم استعادوه حتى يفهموه ؛ قال أنس ، رضي الله عنه : إنه كان يراجعه - أي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- - هذا ، ثم هذا ، فنقوم كأنما زرع - أي العلم - في قلوبنا .
إقبال جماعي - من الجميع - على العلم ؛ المتفرغ منهم ، وغير المتفرغ ، فالتاجر منهم يتعلم، والمتعلم كان يتاجر .
حرص واضح على تعليم نسائهم وأبنائهم وإمائهم وجيرانهم.
وقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، يتواضعون للعلم، ويرويه بعضهم عن بعض، حتى إنه ليجتمع في سند الحديث الواحد أحيانًا أربعة من الصحابة يروي بعضهم عن بعض !!
وكانوا، رضي الله عنهم، يتأدبون مع من يتعلمون منه؛ وقد أثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما، مواقف جليلة تشهد بذلك.
كما ورد عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وصية جامعة مفيدة تستحق أن تكتب بماء الذهب ! قال فيها رضي الله عنه : ( من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه دونهم بالتحية ، وأن تجلس أمامه ، ولا تشر عنده بيدك ، ولا تغمزن بعينك ، ولا تقولن قال فلان خلافًا لقوله ، ولا تسارر في محله ، ولا تأخذ بثوبه ، ولا تلح عليه إذا ملّ ، ولا تسأم من طول صحبته ، فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء - يعني الرطب - فإن المؤمن العالم لأعظم أجرًا من الصائم الغازي في سبيل الله ، فإذا مات العالم انثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة ) .
وقد ربى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على توقير الكبير، سواء كان كبيرًا في السن أو كبيرًا في العلم، ومع ذلك فقد كانوا يختلفون أحيانًا في الفهم والفقه؛ ولكن اختلافهم كان في أدب وتواضع وإجلال واحترام.
وكانوا، رضي الله عنهم، يأخذون العلم عن أهله مهما كانت طبقته أو درجته، كروايتهم عن التابعين.
ولم يمنعهم تفاوت الحسب والنسب أن يأخذوا العلم عمن هو دونهم ، فجاءت رواية الأكابر من الصحابة عن الموالي !! كما روى أبو بكر وعمر وأسامة وابن عمر ، رضي الله عنهم ، عن بلال ، رضي الله عنه ، وقد ذكر ذلك الحافظ ابن حجر ، رحمه الله ، في ( الإصابة ) في ترجمته لبلال بن رباح .
ومن خصائص الصحابة التي هم فيها موضع الأسوة والقدوة أنهم كانوا يرجعون إلى الحق إذا ظهر لهم ، ويعترفون به ، ولهم في ذلك مواقف كثيرة لا يتسع المقام لذكرها وبسطها .
وكان الصحابة، رضي الله عنهم، يجمعون في طلب العلم بين الحرص والتواضع؛ حتى إنهم ليرحل بعضهم لبعض في طلب العلم !! أو طلب علو السند؛ كما روى البخاري وغيره أن جابر بن عبد الله قد سافر في طلب حديث واحد، وقصته في ذلك مشهورة.
وكانوا ، رضي الله عنهم ، يتنافسون ويتزاحمون على طلب العلم ، ويرغب بعضهم بعضًا في ذلك ، كم روى عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أنه خرج إلى السوق ، فقال لمن فيه : أتجلسون هاهنا ، وميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم في المسجد ، فتعجب الناس من ذلك ، وسارع بعضهم إلى المسجد ، ثم رجعوا ، فقالوا : ما وجدنا شيئًا !! قال أبو هريرة: أما رأيتم أحدًا ؟ فقالوا: بلى رأينا أقوامًا يصلون وقوفًا ، يقرءون القرآن ، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام ، فقال أبو هريرة ، رضي الله عنه ، ذلك ؛ لأن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر .
رحم الله أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم، فقد اصطفاهم الله لصحبة نبيه، وصنعهم على عينه، فكانوا أصحاب نية صادقة وعزيمة قوية؛ فهم جيل الأسوة، والقدوة.
فنسأل الله أن يلحقنا بهم في الصالحين، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
---------------------------
(1) البخاري بشرح فتح الباري كتاب العلم (ج1 ص 197).