الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافَر بالقرآن إلى أرض العدو. [كتاب الجهاد]
وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أن يسافَر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو.
وفي رواية لمسلم: «لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو».
وكأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعيش بيننا وهو يحذرنا من هذا الأمر العظيم، أن يتمكن أعداء الله تعالى من هذا النيل، فيتعرضوا للقرآن بشيء من الامتهان.
استعرضت هذا الحديث حين تناقلت وكالات الأنباء الخبر الذي بثته مجلة النيوزويك الأمريكية عن قيام بعض الجنود الأمريكيين بإهانة القرآن في معتقل جوانتنامو، ذلك المعسكر الذي يحوي الكثيرين من أبناء المسلمين من كل بلاد الأرض بتهمة الإرهاب أو دعم الإرهاب، بينما تمارس الولايات المتحدة الأمريكية كل صنوف الإرهاب تجاه الإسلام والمسلمين.
والعجيب أن المجلة عادت وكذبت الخبر حين تظاهر المسلمون في الهند وباكستان وأفغانستان، ثم تأكد الخبر مرة أخرى باعتراف المحققين الأمريكيين؛ من تناول القرآن بالإهانة ويعلنون ذلك على الملأ يستفزون مشاعر المسلمين، ولكن ماذا يملك المسلمون سوى أن تظاهر المئات أو الآف ينددون ويحرقون العلم الأميركي ثم ينفض الجمع، ويرجع الحال إلى ما كان عليه بل أسوأ مما هو عليه، وننسى أنهم هم الذين علمونا التظاهر وجعلوه وسيلة للضغط على حكوماتنا لتحقيق المزيد من مصالحهم وأهدافهم، ولهذا تعجب أخي القارئ أن تكون الأيام الماضية هي أيام المظاهرات.
مظاهرات المطالبين بالكفاية، ومظاهرات المبايعين والمؤيدين، ومظاهرات اللبنانيين، ومظاهرين المنددين، حتى أصبح عالمنا بحق عالم مظاهرات.. مظاهرات، هذا الذي تملكه أمة الغثاء حين تتداعى عليها الأمم ولو حدث هذا في زمن العز والتمكين لجيشت الجيوش لقتال الكافرين ومحاكمة المعتدين كما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع حين امتهنوا امرأة مسلمة هتكوا عرضها وكشفوا عورتها.
وكما فعل المعتصم العباسي حين جيش الجيوش لقتال الروم لأنهم اعتدوا على امرأة مسلمة فنادت: وامعتصماه.
ولكننا في زمن الغربة، زمن الضعف والذل والتخاذل، نعجز أن نقول مقالة عبد المطلب جد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين جاءت جيوش النصارى لهدم الكعبة فقال: للبيت رب يحميه، ثم أخذ بحلقة باب الكعبة وقال:
لاهُمَّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك
وانصر على جيش الصليب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدوًا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدالك
إن كتاب ربنا عز وجل أعظم من أن تدنسه هذه الحماقات، فهو القرآن العظيم، والفرقان بين الحق والباطل، والمهيمن على الكتب السماوية وهو محفوظ بحفظ الله عز وجل، محفوظ من التبديل والتغيير والزيادة والنقصان، وهو عند الله تعالى في لوح محفوظ وكتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون، قال تعالى: [فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ] [الواقعة: 75- 80].
قال قتادة: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فيمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس.
وقال بعضهم: وما تنزلت به الشياطين؛ لأنه لا يمسه إلا المطهرون، بل نزل به رسول كريم هو الروح الأمين جبريل على قلب خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ]، وكما قال تعالى: [إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ] [التكوير: 19- 22]. وقيل في معنى «المطهرون» أي من الجنابة والحدث، ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب، أي لا يمس القرآن إلا طاهر كما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو.
ومع هذا فقد نالوه وأهانوه في زمن الغثائية، وما فعلوا ذلك إلا حين أهانه المسلمون وتخلوا عن أحكامه واكتفوا بتعليمه والتبرك به وقراءته على الأموات وترك تدبره وفهم معانيه وتطبيق أحكامه.
تدبر القرآن
قال تعالى: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا] [النساء: 82].
وقال تعالى: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا] [النساء: 83].
وقال تعالى: [وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ] [الأعراف: 204-205].
وقال تعالى: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: 24].
وقال تعالى: [لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [الحشر: 21].
فماذا يُنتظر من أمة جعلت كتاب ربها وراءها ظهريًا إلا الصراخ والمظاهرات.
القرآن الكريم معجزة النبي الخاتم، أحسن الحديث، الكتاب الذي لا يغسله الماء يعجز المسلمون عن فهمه وتدبره والعمل بحلاله وحرامه وابتغاء العز فيه، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وإن ما توعدون لآت».
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا». فهل تصدق علينا هذه المتابعة أم يشكونا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال ربنا عز وجل: [وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا][الفرقان].
الحث على تعاهد القرآن
القرآن كتاب كريم، محفوظ بحفظ الله. قال تعالى: [بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ] [البروج: 21- 22].
وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مالٍ نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرؤه نائمًا ويقظان». [مسلم].
فعلينا معشر المسلمين أن ننتصر لكتاب ربنا عز وجل بل نننتصر لديننا، نحرص على القرآن نتعاهد حفظه وتلاوته، فخير ههذه الأمة من تعلم القرآن وعلمه وفهمه وتدبره، وأقبل عليه، وعمل به، ودعا إليه وجاهد به كما قال تعالى: [وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا].
علينا أن نكون إيجابيين في رد فعلنا، نغير من سلوكنا ومن مناهجنا، نقترب من منهاج الهداية وسبيل العز، نعلمه للأجيال القادمة ونعلمهم كيف يحترمون كتاب الله ويتلونه حق تلاوته.
لكن هل يُرجى هذا من أمة الغثاء والضعف والتخاذل. يا أمة ذلت حين تخلت، للقرآن رب يحميه.
والحمد لله رب العالمين.