إذا كانت سلطات الحاكم محددة ومقننة شرعاً ، وإذا كان الحاكم لا يتولى منصبه إلا للقيام بأعبائه ومهامه على أكمل وجه ، فإن الحاكم لابد أن يكون مسئولاً مسئولية تامة عن أعماله ، فالقاعدة البدهية أنه حيث تكون السلطة تكون المسئولية ، وليس من المقبول أن تتجمع فى يد الحاكم كل هذه السلطات ، ولا يوجد من يسأله عن أخطائه ، أو أن يُسأل عنها أحد سواه .
إن قاعدة عدم مسئولية رئيس الدولة ، وأن الملك لا يخطىء ، ليست إلا رواسب للوثنية التى تدعو إلى تقديس الحاكم وتأليهه، والتى جاء الإسلام للقضاء عليها ، وتحرير البشر من أغلالها (1) .
وتنقسم مسئولية الحاكم المسلم إلى قسمين : قسم شرعى دينى . وقسم سياسى .
والقسمان مترابطان، فهما وجهان لعملة واحدة، أو هما مظهران لقاعدة المسئولية.
أولاً : المسئولية الدينية : من الطبيعى أن تتبوأ المسئولية الدينية مكانة رفيعة فى دولة عقائدية تؤمن بالله واليوم الآخر ، وتسعى لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وتطبق شرعاً إلهياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وتشترط فى أمامها وفى كل الولاة شروطاً خاصة من أهمها : العلم ، والعدالة التى تعنى التقوى والورع .
ونلمس أثر هذه المسئولية فى ضمير العبد المؤمن ، فى مخافته من ربه ، وفى محاسبته لنفسه قبل أن يحاسبه ربه، لأنه يؤمن أنه لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ؟ وعن علمه ما عمل به ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟ وعن جسمه فيما أبلاه . ( الترمذى ) .
وأشد الناس سؤالاً يوم القيامة : من يُسأل عن المسلمين جميعاً ، وهو : الحاكم المسلم : " كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام الذى على الناس راعٍ ، وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راعٍ على أهل بيته ، وهو مسئول عن رعيته .. " الحديث . ( متفق عليه )
ولا شك أن جزاء التفريط والتضييع يتضاعف بالنسبة لمن يسأل عن الناس جمعياً ، وذلك مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزى وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذى عليه فيها " ( مسلم ) .
" ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة " . ( مسلم )
لقد لعبت المسئولية الدينية دوراً هاماً فى حياة الأمة الإسلامية ، وتركت أثراً ملموساً فى تاريخ الدولة الإسلامية ، فبها بزغ نجم عمر بن عبد العزيز فى ظلمات الجور والأثرة .
لقد استشعر الصديق هذه المسئولية فقال لأبيه " طوقت عظيماً من الأمر : ولا يُدان إلا بالله " ( ابن سعد ) .
ومما يؤثر عن عمر قوله : " لو ماتت شاة بشط الفرات ضائعة لظننت أن الله سائلى عنها يوم القيامة " ( ابن الجوزى – تاريخ عمر بن الخطاب ) .
" وددت لو أنى خرجت منها كفافاً لا على ولا لى " ( ابن الجوزى ) .
ومما يؤثر عن عثمان قوله : إن وجدتم فى كتاب الله أن تضعوا رجلى فى قيود فضعوهما . ( ابن سعد ) .
ويوضح أبو مسلم الخولانى فلسفة الإسلام فى الإمرة والولاية حين يدخل على معاوية فيقول : السلام عليك أيها الأجير ، فلما أنكر الجالسون قال لهم معاوية : دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول .
فيقول أبو مسلم : إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعيتها ، فإن أنت هنأت جرباها ، وداويت مرضاها ، وحبست أولاها على أخراها ، وفاك سيدها أجرك ، وإن أنت لم تهنأ جرباها ، ولم تداو مرضاها ، ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها . ( السياسة الشرعية لابن تيمية ) .
ومن الواضح أن هذه المسئولية محددة المعالم ، يعلمها أهل التقوى والورع من الحكام ، ويقوم العلماء بدور التنبيه والتذكير لمن غفل عنها منهم ، وكلما قوى الوازع الدينى بين المسلمين قوى الإحساس بهذه المسئولية بين جميع فئات الأمة وأفرادها ، وكلما ضعف الوازع الدينى ضعف الإحساس بها ، حتى لا نكاد نرى لها مكاناً فى دنيا الناس ، وكيفما تكونوا يُول عليكم ، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
ثانياً : المسئولية أمام الأمة :
هذا هو الوجه السياسى لقاعدة المسئولية ، فإن الوازع قد يضعف ولا يكفى لسير الحاكم على الطريق المستقيم ، ومن هنا فقد أوجب الشرع على الأمة أن تأخذ على يديه حتى يلتزم الحق ويعاوده ، وعلى هذا فالأمة دائمة المراقبة والمحاسبة لولاة الأمور ، وتستمد الأمة هذا الحق فى الرقابة من نصوص الشرع ، ومن وضعيتها ومسئوليتها عن أحكام الشرع ، فالأمة مسئولة عن إقامة شرع الله ، وهى المخاطبة بأحكام الشرع ، وقد تم نصب الإمام لأجل ذلك ، فإذا حاد عن الشرعية وخالف الشريعة ، كان لزاماً على الأمة أن تأخذ على يديه لترده إلى جادة الصواب .
وإذا كانت الشورى إحدى أسس الحكم فى الدولة الإسلامية ، فإن الشورى تعد كذلك أساساً لقاعدة المسئولية ، ورقابة الأمة ، فالأمة تشارك فى صنع القرار السياسى ، وتحاسب الحاكم عن طريق ممثليها من أهل الحل والعقد .
وإذا كان الحاكم نائباً عن الأمة ، فإن قاعدة الوكالة تقضى بأن يكون للأصيل – الأمة – حق مراقبة الوكيل – الحاكم – وذلك لضمان سيره على وفق إرادة الأمة .
والنصيحة – كواجب تبادلى بين الأمة وبين الحاكم – تعطى الأمة الحق فى مراقبة الحاكم ومساءلته ، وتوجيه النصح له ، فالدين النصيحة ، ومناصحة ولاة الأمور من أوجب الواجبات التى رضيها الله تعالى لنا : " ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمور ، ولزوم جماعة المسلمين " .
والمناصحة تختلف باختلاف حال الناصح ومكانته ، وباختلاف حال المنصوح له ، وقد سبق أن فصلنا ذلك فى مقال سابق .
لقد جعل الله سبحانه الأمور بالمعروف والنهى عن المنكر من سمات هذه الأمة وأوجبه عليها " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ " ( آل عمران : 110 ) .
فيجب على الأمة أن تأمر حاكمها بالمعروف ، وتنهاه عن المنكر ، وتأخذ على يديه ، وتحمله على الحق ، وسندها فى ذلك قول الله تعالى : " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ " ( آل عمران : 104 ) .
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطيع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " ( مسلم ) .
" سيكون بعدى خلفاء يعملون بما يعلمون ، ويفعلون ما يؤمرون ، وسيكون بعدى خلفاء يعملون بما لا يعلمون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن أنكر عليهم برىء ، ومن أمسك يده سَلِمَ ، ولكن من رَضِى وتابع " (1) والنصوص فى ذلك كثيرة .
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أنجح الوسائل لمراقبة الأمة حاكميها ومحاسبتهم ، ولكن بوسائله المشروعة ، ومن أهمها : العلم ، فإنه كمبضع الجراح إذا استعمله الطبيب الحاذق كان الشفاء مرجواً ، وإذا استعمله الجاهل كان الموت محتوماً .
ومن هنا يتضح لنا أن عامة الناس وأكثرهم لا يحسنون محاسبة ولاة الأمور ، وإنما يقوم بذلك أهل الحل والعقد ، وهم الذين يرجع إليهم جماهير الأمة فيما يحتاجونه من أمور الدين والدنيا على السواء .
ولأن الأمر قد يصل إلى حد عزل الحاكم من منصبه وتحريك الصراع ضده وهذا أمر لا يحسنه عامة الناس ، ولو تصدوا له لكان ما يفسدون أكثر مما يصلحون .
وقد خرج الرعاع على الخليفة الراشد عثمان بن عفان ، ولم يتبعوا فى ذلك أهل الحل والعقد وأهل العلم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت النتيجة : فتنة كبرى عانت منها الأمة الإسلامية طويلاً .
وقد أشار النبى صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال لعثمان : " لعل الله يُقمصك قميصاً ، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم " (2) .
وقد يظن بعضهم – حين يسمع مثل هذا الحديث – أن الإسلام يمنع عزل الحاكم وإن جار ، وأن الخليفة يحكم بمقتضى حق إلهى مقدس ، لا يجوز لأحد من الناس مساءلته ، وهذا ما يدعيه أكثر المستشرقين وأذنابهم من المستغربين والعلمانيين .
والحقيقة : أن الإسلام لا يقر الاستبداد ، ولا يمنح الحاكم حقاً إلهياً مقدساً ، ولكنه – أيضاً – لا يقر الفوضى بحال ، وعليه فلا يجوز لعامة الناس أن يقوموا على الحاكم ، تحركهم أهواؤهم ، فتصير فتنة . تسفك بها الدماء ، وتنتهك الحرمات ، ولو استجاب الحاكم لهم – على جهلهم – صار الحل والعقد بيدهم ، وهم ليسوا أهلاً لذلك .
وأخيراً نختم هذا الموضوع ببعض السوابق التاريخية فى هذا الصدد .
السوابق التاريخية كأساس للمسئولية :
لقد جاءت السوابق التاريخية فى عصر الخلافة الراشدة وما بعدها مؤكدة على قاعدة مسئولية الحاكم أمام الأمة .
فهذا أبو بكر يقرر حق الأمة فى مراقبة حكامها فى أول خطاب له فيقول : " أيها الناس إنى وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينونى ، وإن أسأت فقومونى ، أطيعونى ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت فلا طاعة لى عليكم " (3) .
وفى تاريخ عمر بن الخطاب : أنه كان بينه وبين رجل كلام ، فقال له الرجل : اتق الله يا أمير المؤمنين . فقال رجل من القوم : أتقول لأمير المؤمنين اتق الله ؟ فقال عمر : دعه فليقلها لى نِعمَ ما قال ، لا خير فيكم إذا لم تقولوها ، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم (4) .
وصعد معاوية المنبر فقال عند خطبته : " إنما المال مالنا والفىء فيئنا فمن شئنا أعطيناه ، ومن شئنا منعناه " ، فلم يجبه أحد ، فلما كان فى الجمعة الثانية قال مثل ذلك فلم يجبه أحد ، فلما كان فى الجمعة الثالثة ، فقال مثل مقالته ، قام إليه رجل من حضر المسجد فقال : كلا إنما المال مالنا والفىء فيئنا فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا .
فنزل معاوية فأرسل إلى الرجل فأدخله ، فقال القوم : هلك الرجل ، ثم دخل الناس فوجدوا الرجل معه على السرير – سرير الملك – فقال معاوية للناس : إن هذا أحيانى أحياه الله .
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سيكون بعدى أمراء يقولون ولا يُرد عليهم ، يتقاحمون فى النار كما تتقاحم القردة " وإنى تكلمت فى أول جمعة فلم يُرد على فخشيت أن أكون منهم ، ثم تكلمت فى الجمعة الثانية فلم يَرُد على أحد ، فقلت فى نفسى إنى من القوم ، ثم تكلمت فى الجمعة الثالثة فقام هذا الرجل فرد على، فأحيانى أحياه الله (5) .
---------------------------
(1) مازالت هذه القاعدة موجودة حتى الآن فى الأنظمة المعاصرة ، ففى النظام الرئاسى المعروف بالولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن مساءلة الرئيس سياسياً أمام البرلمان أو حتى أمام الشعب ، وليس أمام جماهير الشعب – إذا كانت لا توافق على سياسة الرئيس – سوى خيار واحد ، هو : ألا تعيد انتخابه مرة أخرى ، ولكن يمكن مساءلة الرئيس جنائياً فى حالة الخيانة العظمى أو الرشوة أو غير ذلك من الجنايات ، وأقصى عقوبة يمكن الحكم بها هى العزل ، وتتوقف إجراءات المحاكمة إذا قدم الرئيس استقالته . وفى النظام البرلمانى تُعد قاعدة عدم المسئولية أحد أركان هذا النظام ، فذات الملك مصونة لا تمس ، والملك لا يخطئ ، ومن ثم لا يُسأل سياسياً ولا جنائياً ، وقد لجأت هذه الأنظمة إلى مساءلة الوزراء نيابة عن الملك ، ومن ثم انتقلت السلطة الفعلية إلى الوزارة ، وبقى للملك سلطة اسمية فقط . هذه قاعدة المسئولية فى أعرق الأنظمة الديمقراطية ، أما فى الأنظمة الشمولية والديكتاتورية فليس هناك مجال للحديث عن قاعدة مسئولية الحاكم أصلاً.
(2) أخرجه الترمذى وقال : حسن غريب – وابن أبى عاصم فى السنة وصححه الألبانى ج2 ص560 ح رقم 1173 .
(3) البداية والنهاية ج6 ص 340 بسند صحيح .
(4) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزى ص 142 .
(5) رواه الطبرانى فى الكبير والأوســط ، وأبو يعلى ورجاله ثقـات . مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج5 ص 239 .