قد يكون حديثنا عن الطاعة وأنها دين وقربة وتآلف ووحدة قد أثار في أذهان البعض نبذ فكرة المعارضة في النظام الإسلامي على أساس أنها نبذ للطاعة وخروج عن الجماعة ، وقد يفهم البعض الآخر أن نظام الشورى لا يمكن تحقيقه عملاً إلا في ظل تعددية حزبية ، تسمح بقيام المعارضة وبتنظيمها .
والحق أن النظام السياسي الإسلامي لا يؤيد فكرة المعارضة ولا يرفضها في ذات الوقت ، وإنما ينظر إليها باعتبارها فكرة جديدة تخضع لضوابط المصلحة .
إن حديثا عن الطاعة لا يعنى نبذ فكرة المعارضة تماماً ، فالمعارضة لا تكون في كل صورها خلعاً للطاعة أو خروجاً على الجماعة ، بل إن آية الطاعة نفسها تفتح مجالاً واسعاً للمعارضة حين يأمر ولاة الأمور بما يخالف شرع الله تعالى ، وكذلك الأحاديث التي قيدت الطاعة بالمعروف ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وكذلك الحديث عن الشورى ، وافتراض الاختلاف في الرأي بين أهل الشورى ، والحديث عن المناصحة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يفسح مجالاً واسعاً للمعارضة المشروعة لكل ما يخالف الحق .
بل إن السوابق التاريخية في عصر الرسالة وفى عصر الخلافة الراشدة تبين لنا أن المعارضة كانت معروفة ومكفولة في إطار محدد ، وبضوابط معينة .
فقد عارض كثير من الصحابة ما ورد في صلح الحديبية من بنود جائرة .
قال عمر بن الخطاب، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً ؟ قال : بلى .
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى .
قلت : فلم نُعطى الدنية فى ديننا إذن ؟
قال : إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري (1) .
وهنا لم يعترض النبي صلى الله عليه وسلم على معارضتهم إياه ، وإنما بين لهم أن ما يفعله هو الأصلح ، فليس فيه معصية لله ، وإنما فيه نصر للإسلام والمسلمين ، فقال لهم : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان هذا الصلح نصراً عزيزاً للمسلمين، وسماه الله تعالى فتحاً مبيناً فقال: " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " ( الفتح: 1 ).
وفى تقسيم غنائم هوازن وغطفان ، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة أموالاً كثيرة ، واعترض بعض الأنصار على ذلك فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين لهم صواب فعله حتى رضوا جميعاً (2) .
فهذه بعض صور المراجعة والمعارضة الجائزة ، وقد أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر على المعترضين ، ولا بين أن معارضته لا تجوز ، مع أنه رسول الله المؤيد بوحي السماء ، وكثيراً ما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه إلى رأى معارضيه إن استشعر المصلحة والصواب فيه .
ففي غزوة تبوك قل طعام الجيش ، فاستأذن الناس في نحر بعض الإبل ليأكل منها الجند ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فجاءه عمر معترضاً وقال : إذن يقل الظهر ، ثم اقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع ما تبقى من الطعام ويدعو عليه بالبركة ، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حتى أكل الجيش كله (3) .
وفى عصر الخلافة الراشدة اعترض سعد بن عبادة على مبايعة الصديق، ولم يجبره أحد على البيعة.
وفى هذا المسلك إقرار لفكرة المعارضة في ترشيح رئيس الدولة بل والامتناع عن بيعته دونما حرج طالما كان ذلك في حدود احترام حرية الرأي ، أما إذا تعدى هذه الحدود إلى الدعوة إلى نبذ الطاعة والخروج على الحاكم ، فإنه يُعد بذلك عدواناً على الشرعية يلزم القضاء عليه حفاظاً على الجماعة ووحدة الأمة .
وقد اعترض بعض الصحابة على مسلك عمر ابن الخطاب عندما حبس أرض الخراج في العراق والشام ومصر على مصالح المسلمين ولم يقسمها بين الغانمين، ولكن أغلبهم وقف إلى جانب عمر في اجتهاده (4).
وإذا كانت هذه بعض صور المعارضة الجائزة ،
فإن هناك صوراً للمعارضة لا تجوز لأنها تخرج عن إطار الشرعية إلى إطار الطعن والهدم لبنيان الدولة.
والمثال الواضح على هذا النوع اعتراض الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمته، واتهامه إياه بالجور، فقال : اعدل يا محمد .
وقد رفض النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك لأن فيه طعناً في دين الله باتهام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ) (5) .
وكذلك اعترض الخوارج على أمير المؤمنين على بن أبى طالب في قضية التحكيم ، وخروج هؤلاء الناس على جماعة المسلمين لأن الفارق بين الخروج وبين المعارضة السلمية المشروعة كبير ، لهذا قال لهم على : إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ، ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما دامت أيديكم معنا ، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تقاتلون .
حدود المعارضة فى النظام السياسي الإسلامي :
إذا كنا قد قررنا من قبل جواز المعارضة في النظام السياسي الإسلامي واستشهدنا لذلك بسوابق تاريخية عديدة ترجع إلى العصر الأول وهو عصر الرسالة والخلافة الراشدة ، فإننا نتسائل ما هي حدود تلك المعارضة ، وكيف تتشكل ؟
هل هي معارضة فردية أم جماعية منظمة ؟ وقبل أن نجيب على هذه الأسئلة نقرر حقيقتين لا ينبغي أن نغفل عنهما ونحن نخوض غمار هذا الموضوع.
الحقيقة الأولى:
أن الدولة الإسلامية دولة دينية شرعية تقوم على مبادئ سماوية لا يجوز لأحد أن يتخطاها ، ولا يجوز للإرادة الشعبية أن تخالفها إلا إذا تخلت عن دينها .
الحقيقة الثانية :
أن الشريعة الإسلامية أغفلت عن عمد تنظيم هذه الموضوعات ، تاركة إياها لظروف المجتمع فهي متروكة للجماعة تنظمها حسبما يتوافق مع مصالحها .
ويمكن أن نستنتج من ذلك نتائج عدة:
أولاً : الإسلام لا يسمح بمعارضة تستهدف النيل من النظام الإسلامي ، وعلى هذا فلا يجوز قيام أحزاب دينية طائفية تعارض النظام الإسلامي ، وتسعى لإقصائه عن السلطة ، ولا يجوز قيام أحزاب علمانية تسعى إلى نبذ الدين وإقصائه عن الدولة ، ولا يجوز قيام أحزاب تتبنى أيديولوجية تخالف الإسلام وتعتبر الدين أفيون الشعوب كالماركسية .
ولا يجوز للمعارضة أن تنال من الإسلام كدين، فتناقش أمراً من الأمور التي تتعلق بأصول الدين، أو من المعلوم من الدين بالضرورة، فترفضه أو تسعى لتغييره.
فالمعارضة لا يجب أن تخرج في تنظيمها. ولا في أفكارها عن الإطار العام للنظام الإسلامي، وذلك لأن هذا الإطار محدد بنصوص شرعية يجب الوقوف عندها، ويحرم تجاوزها أما في داخل هذا الإطار فالمعارضة جائزة.
وذلك لأنها تؤدى إلى تقليب وجوه الرأي لاستخراج أفضل الحلول والقرارات وذلك يؤدى إلى منع الاستبداد وتحقيق الشورى عملاً .
ثانياً : المعارضة التي يشجع النظام الإسلامي عليها هي تلك التي تهدف إلى تحقيق المصالح العامة للأمة الإسلامية .
ثالثاً : النظام السياسي الإسلامي لا يتقيد بأي نظام آخر ، فلا يقلد نظاماً معيناً ، ولا يرفض أي أسلوب يحقق له المصلحة المنشودة .
رابعاً : لا يجوز أن نترك المعارضة ميدان الجدل والنقاش إلى ميدان الخروج والقتال ، ومن ثم لا يقر النظام الإسلامي حزباً بوليسياً أو عسكرياً مسلحاً .
خامساً : لا يعنى المعارضة خروجاً على الطاعة ، وإنما هي مرتبطة بالجماعة والوحدة ، فالتعددية لا تعنى الفرقة ، فالافتراق في الدين مذموم شرعاً ، والتعددية في الفكر وتقديم المشورة محمود شرعاً وعقلاً ، وبها يزداد الفكر الإسلامي نماءً وخصوبة ، يشهد لذلك ما أورده الفقهاء من أمثلة لهذه التعددية في أمور الاجتهاد والاستنباط ، دون أن يعيب بعضهم على بعض ، وإنما غايتهم الحق ، ولسان حال كل منهم " رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب " .
وقد يرى البعض أن ما انتهينا إليه من إقرار للمعارضة والتعددية أمراً يخالف الشرعة، فالنظام الإسلامي لم يعرف التعددية في صورتها الحزبية، بل إن النصوص تواترت بذم الأحزاب والحزبية.
والحق أن القـول بأن التعددية أمر يخالف الشرع الإسلامي لا دليل عليه ، بل إن السوابق التاريخية تشهد بأن التعـددية المحكومة بالإطار الشرعي العام أمر محمود يحقق مصلحة الأمة .
أما القول بأن النظام الإسلامي لم يعرف التعددية الحزبية فى صورتها المعاصرة فهو حق ، ولكن النظام الإسلامي شهد صوراُ للتعددية تلائم ما كان عليه العصر من بساطة .
وأما القول بتواتر النصوص في ذم الحزبية ، فغير صحيح ، لأن الأحزاب التي ذمتها النصوص هي أحزاب الشرك والكفر ، أما الأحزاب التي تلتزم الإسلام ، وترضى بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً ، فهي أحزاب الإيمان والله تعالى جعل المؤمنين حزباً " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " .
---------------------------
(1) رواه البخارى
(2) البخارى
(3) مسلم.
(4) أبو عبيد القاسم بن سلام – كتاب الأموال ص 59 – 60 .
(5) متفق عليه.