علو الهمة في تحصيل العلم

2008-06-29

أبو عبد الرحمن وليد دويدار

الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على خاتم الأنبياء و المرسلين ، و على آله و صحبه و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد : فإن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه و لا يشركوا به شيئاً ، فتنافس في ذلك المتنافسون ، و اجتهد فيه المجتهدون ، و الله تعالى يقول : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) [العنكبوت/69] ، و أحق الناس بالاجتهاد في طلب الأخرى و الزهد في الدنيا ؛ هم طلبة العلم .

والعلم والعمل توأمان، أمّهما علو الهمة ، قال الله تعالى : ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )) [آل عمران/133] ، و قال سبحانه : (( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ )) [الحديد/21] ، وقال عز و جل : (( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ )) [الواقعة/10، 11] ، قال الإمام السعدي – رحمه الله تعالى - : أي: السابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات. أولئك الذين هذا وصفهم، المقربون عند الله، في جنات النعيم، في أعلى عليين، في المنازل العاليات، التي لا منزلة فوقها.

 و صحَّ عن رسول الله –صلي الله عليه وسلم- أنه قال : ((  إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها )) ] السلسلة الصحيحة : 1627 [ ، يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى - : وعلو الهمة أن لا تقف – أي : النفس - دون الله ، ولا تتعوض عنه بشيء سواه ، ولا ترضى بغيره بدلا منه ، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية ، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم )) [مدارج السالكين] ، و من علامة كمال العقل علو الهمة ! والراضي بالدون دنيء !!.

 و لقد ضرب لنا أسلافنا أروع الأمثلة في علو همتهم في طلبهم العلم ، فهذا معاذ بن جبل –رضي الله عنه- أسلم و هو ابن ثماني عشرة سنة ، و توفي و هو ابن ثمان و عشرين سنة ، أسلم عشر سنوات فقط ، و يقول رسول الله –صلي الله عليه وسلم-  عنه : (( إن العلماء إذا حضروا ربهم عز و جل ، كان معاذ بين أيديهم رتوة – أي : رمية – بحجر )) [ السلسلة الصحيحة : 1091 ]  ، و هذا عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما - ، حبر الأمة ، و ترجمان القرآن يقول : لما توفي رسول الله –صلي الله عليه وسلم-  ، قلت لرجل من الأنصار : يا فلان هلمَّ فلنسأل أصحاب النبي –صلي الله عليه وسلم-  ، فإنهم اليوم كثير . فقال: واعجباً لك يا بن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي –صلي الله عليه وسلم- من ترى ؟ ! فتركت ذلك وأقبلت على المسألة فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني فيقول:  يا بن عم رسول الله ما جاء بك ألا أرسلت إليّ فآتيك. فأقول: أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث  ، قال : فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ ،  فقال : كان هذا الفتى أعقل مني .

شعار طالب العلم، قول الله تعالى: (( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )) [المطففين/26]، فالعاقل صابر للشدائد لعلمه بقرب الفرج، والجاهل على الضد من ذلك.

    و إذا كانت النفوس كبارا            تعبت في مرادها الأجسام

و عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-، هذا الكُنيِّف – الوعاء – الذي مُلئ علماً ، يقول : والذي لا إله غيره لقد قرأت مِن فِيِّ رسول الله –صلي الله عليه وسلم-  بضعا وسبعين سورة ، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلِّغَنيه الإبل لأتيته . صدق رسول الله –صلي الله عليه وسلم- إذ قال: والذي نفسي بيده لهما – أي: ساقيه - أثقل في الميزان من أُحُد.

        أخي طالب العلم: علو الهمّة راية الجِدِّ، و بَذْرُ النِّعَمِ، و إذا طلب رجلان أمراً ظفر به أعظمهما مروءةً، و من ترك التماس المعالي بسوء الرجاء لم ينل عظيماً، و قد قيل لبعض الحكماء: من أسوأ الناس حالاً ؟ قال : من بعُدت هِمَّتُهُ ، و اتسعت أمنيَّتُهُ ، و وَقَصُرَتْ آلَتُهُ ، وقَلَّتْ مَقْدِرَتُهُ .

و قد قيل :

إني رأيت وقوف الماء يفسده           إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ

والأُسد لولا فراق الأرض ما افترست             والسهم لولا فراق القوس لم يصبِ

والشمس لو وقفت في الفلك دائ مة            لملّها الناس من عـربٍ ومن عجمِ

روى الخطيب البغدادي في كتابه الماتع الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع : كان رجل يطلب العلم فلا يقدر عليه فعزم على تركه فمر بماء ينحدر من رأس جبل على صخرة قد أثر الماء فيها فقال : الماء على لطافته قد أثر في صخرة على كثافتها والله لأطلبن العلم فطلب فأدرك .

و لم أر في عيوب الناس عيباً            كنقص القادرين على التمام

ودّ الشيطان أن يظفر منك بكبوه ؛ ليْجلب عليك بخَيْلِهِ و رَجْلِهِ . فكن رجلاً رجله في الثرى، و هامة همته في الثريا، و من كدَّ كد العبيد؛ تنعَّمَ تنعّمَ الأحرار.

بدأ الحافظ ابن منده – رحمه الله تعالى – رحلته في طلب العلم و هو ابن عشرين سنة ، و رجع و هو ابن خمس و ستين سنة .

وقال - رحمه الله - : طفت الشرق و الغرب مرتين .

لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله            لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

 وقيل للشافعي كيف شهوتك للعلم ؟ قال : أسمع بالحرف مما لم أسمعه من قبل فتود أعضائي أن لها سمعا تتنعم به مثل ما تنعمت به الأذنان . فقيل له : كيف حرصك عليه ؟ قال : حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال . قيل : كيف طلبك له ؟ قال : طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره .

وصايا السلف في علو الهمة ، و الصبر على تحصيل العلم :

·   قيل لابن المبارك : إلى متى تكتب العلم ؟ قال: لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد.

· قال يحيى بن كثير: لا يُستطاع العلم براحة الجسم

·  قال الجنيد: ما طلب أحدٌ شيئاً بجدٍّ وصدقٍ إلا ناله، فإن لم ينله كله نال بعضه.

·  قال خلف بن هشام البزار: أشكل علي بابٌ من النحو، فأنفقت ثمانين ألف درهم حتى حذقته.

·  قال الشافعي: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من العلم، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في إدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.

·  قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله ؟ قال : بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب.

·  قال ابن الجوزي: من أنفق عصر الشباب في العلم فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس ، ويلتذُّ بتصنيف ما جمع ، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم ، هذا مع وجود لذاته في الطلب الذي كان تأمل به إدراك المطلوب.

·  قال شيخ الإسلام: إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين .

·  قال ابن قدامة المقدسي:  و ينبغي له – لطالب العلم - قطع العلائق الشاغلة، فإن الفكرة متى توزعت قصرت عن إدراك الحقائق ، وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شيء .

·  سُئل سهل بن عبد الله التستري: إلى متى يطلب الرجل الحديث ؟ قال: حتى يموت، ويصب باقي حبره في قبره.

·  قال أبو موسى بن الحافظ عبد الغني المقدسي عند موته: لا تضيعوا هذا العلم الذي قد تعبنا عليه.

·  قال الإمام أحمد بن حنبل: رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور، والشامات، والسواحل، و المغرب ، و الجزائر ، و مكة ، و المدينة ، و الحجاز ، و اليمن ، و العراقين جميعاً، و فارس ، و خراسان ، والجبال والأطراف، ثم عدت إلى بغداد ، وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة -وسادة- فحممت ، فرجعت إلى أمي رحمها الله ولم أكن استأذنتها ، ولو كان عندي تسعون درهماً كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري ، وخرج بعض أصحابنا ولم يمكنني الخروج لأنه لم يكن عندي شيء. و قال ابن الجوزي رحمه الله: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع المسند .

·    قال الإمام الشافعي:

أَخي لَن تَنالَ العِلمَ إِلّا بِسِتَّةٍ            سَأُنبيكَ عَن تَفصيلِها بِبَيانِ

ذَكاءٌ وَحِرصٌ وَاِجتِهادٌ وَبُلغَةٌ            وَصُحبَةُ أُستاذٍ وَطولُ زَمانِ

عدد المشاهدات 21470