الحمد لله ، خلق الإنسان وصوره فأحسن خلقه وتصويره ، فتبارك الله
أحسن الخالقين ، وشرع له من الدين ما يصلح به أمره حالاً ومعادًا ، فهو الذي قال :
( الرَّحْمَنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْءَانَ(2)خَلَقَ الْإِنْسَانَ ) [ الرحمن : 1 - 3] ،
ثم اصطفى الله من خلقه رسلاً أوحى إليهم بشرعه ليكونوا للناس قدوة يسيرون على منهجهم
، ويتعلمون من مسالكهم ، وجعل خاتمهم النبي الأمين محمدًا صلى الله عليه وسلم ، ثم
جعل الله له في الأرض بيوتًا ، من دخلها حل على الرحمن ضيفًا ، فأمر برعايتها ، ونهى
عن إزعاج من دخلها ، وأمرنا أن نؤمنه ، فجعل لها حرمة وأمر بصيانتها ، ثم شرع للداخل
إليها عبادة يستقبل فيها قبلة شرفها الله سبحانه ، وأمره بالسكينة والوقار وجمع القلب
تدبرًا مع اللسان ذكرًا ، فهو ينصب وجهه إلى وجه عبده في صلاته ، فالفقير يناجي الغني
، والضعيف يقف بين يدي القوي ، والعاجز ينصب وجهه للقادر الحكيم ، فلا ينبغي له أن
يلتفت لا بوجه ، ولا بقلب ، ولا بعمل .
لذا أمر الشارع الحكيم المصلي أن يخلي الأعضاء من كل ما يشغلها
، حتى تتفرغ للقاء ربها ، فأمره بالوضوء والتطهر ، ففي الحديث : (الطهور شطر الإيمان)
، وفي الحديث : (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) ، وفي الحديث : (لا صلاة لمن لا وضوء
له) ، وفي الحديث : (لا صلاة بحضرة طعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان) ، والأخبثان هما
: البول ، والغائط ، وفي الحديث : (إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء
، ولا يعجلن حتى يفرغ منه) .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى في ثوب له أعلام طواه
في صلاته ، وقال : (اذهبوا به إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية (1) أبي جهم ، فإنها ألهتني
آنفًا في الصلاة) ، وكذلك أمر عائشة ، رضي الله عنها ، أن تحول الستر ؛ لأن فيه تصاوير
، وقال : (فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي) .
فالشرع جاء بإفراغ العبد من الشواغل ليتفرغ لربه في لقائه ، فهو
يناجي ربه ، فإن عرض له من هذه الشواغل ما لا يصبر عليه ؛ كالبول ، أو الغائط ، قطع
صلاته ؛ لأن خروجها يفسد الصلاة ، فإن كانت ريحًا ، فلا يخرج حتى يتيقن الخروج ؛ لأن
الشك في الحدث لا يزيل الطهارة ، فإن كان العارض الذي شغله من الفضلات الطاهرة ؛ كالبصاق
، والنخامة ، فإن الشرع قد علمنا فيها الأدب الرفيع الذي فيه رعاية الصلاة وصيانة المساجد
، والأدب مع الله في موقفه بين يديه ، وإيمانه بالملائكة معه ، ومراعاة وقوف المسلمين
في الصلاة من حوله .
ففي الحديث : (إن المؤمن إذا كان في صلاة فإنما يناجي ربه ، فلا
يبزقن بين يديه ، ولا عن يمينه ، ولكن عن يساره ، أو تحت قدمه) ، وفي الحديث : (إذا
كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه ، فإن الله تعالى قبل وجهه إذا صلى) ، وفي الحديث
: (البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) ، وفي الحديث : (من تنخم في المسجد فليغيب
نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه) .
لذا فالواجب على المصلي ألا يترك من أثر ذلك في المسجد إلا غيبه
، سواء حدث منه ، أو رآه في المسجد ، وإنما يكون ذلك باصطحاب المنديل وأوراق التنظيف
، وعدم إلقائها إلا في المكان الذي لا يحدث أذى للمسلمين ، فهذا الأدب الرفيع والتعليم
السامي جاء به الشرع حماية للصلاة والمساجد وزوارها .
والصلاة صلة بين العبد وربه ، والعبد مأمور بإقامة الصلاة والصدق
فيها ، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : (بني الإسلام على خمس : شهادة ألا إله إلا
الله وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة …) ، ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم لرجل
سأله عن الفرائض ، فقال له : (خمس صلوات في اليوم والليلة …) ، حتى قال : (أفلح إن
صدق) .
ومما ينبغي الانتباه إليه أن الإقامة والصدق منزلة لا يكفي فيها
مجرد الأداء ، فليس كل من أدى الصلاة يكون قد أقامها ؛ لذا قال النبي صلى الله عليه
وسلم للمسيء صلاته : (ارجع فصل فإنك لم تصل) .
ففلاح العبد في تصحيح صلاته وإقامة أركانها ؛ لذا جاء الشرع بأحكامها
كاملة مستوفاة ، فوجب على المسلم أن يحرص على إقامتها ؛ لأنها أول ما ينجي العبد يوم
القيامة ، وهي أثقل الأعمال في الميزان ، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: (إن أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح
، وإن فسدت فقد خاب وخسر) .
والمسجد يستمد مكانته من إضافته إلى الله المعبود ، عز وجل ،
فهو بيت الله الذي وضعه لعباده ، وأمرهم بالإخلاص له فيه ، فقال سبحانه : ( وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) [ الجن : 18] ، وقال سبحانه
: ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [ الأعراف : 29] ، والمسجد وثيق الصلة بالإسلام
وشرائعه وشعائره ؛ لذا أمر الله عباده ببنائه ورفع عمده ، كما أمرهم أن يحققوا عمارته
بعبادته بالذكر وإقامة الصلاة ، فقال سبحانه : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ(36)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ) [ النور : 36 ، 37] ، فمكانة المسجد في الإسلام تفرض
على المسلمين عمارته في بنيانه وأركانه ، وفي عبادة ربهم وذكره ، وفي تطهيره وتنظيفه
وتطييبه وصيانته ؛ لذا وجب على كل أهل بلد أن يبنوا مساجدهم بالقدر الذي يتسع لهم لأداء
الصلاة حتى تتربى فيه نفوسهم ويتعلم أبناؤهم ، كذلك وجب على المسلمين إزالة كل ما يؤذي
المصلين من روائح خبيثة ، أو منظر غير لائق ، فكلف سبحانه نبيين كريمين بأول بيت وضع
للناس ، فقال سبحانه : (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين
والركع السجود ) [ البقرة : 125] ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتطييب المساجد ،
خاصة قبلتها ، ونهى من أكل من الطعام ما له رائحة يكرهها الناس أن يشهد الجماعة في
المسجد ؛ زجرًا له وحرصًا على ألا يتأذى المصلون بريحه ، ففي الحديث : (من أكل من هذه
الشجرة - يعني الثوم - فلا يؤذينا في مسجدنا) ، وفي رواية : (فإن الملائكة تتأذى مما
يتأذى منه الإنس) ، وألحق العلماء بالمساجد في ذلك مجامع الناس كمصلى العيد وشهود الجنائز
، وألحقوا بالثوم ما له رائحة كريهة يتأذى بها الناس .
وأشرف موضع في المسجد قبلته ، وهي مكان وقوف الإمام ، وهي أيضًا
موضع اتجاه كل مصل ؛ لذا أمر الله بصيانتها أكثر من غيرها ، ففي الحديث : (فإن الله
قبل وجهه إذا صلى) ، وفي الحديث ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير وجهه وتغيظ
على أهل المسجد لما رأى بصاقًا في جدار القبلة وهو يصلي ، فقال حين انصرف : (إذا كان
أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه ، فإن الله قبل وجهه إذا صلى) .
هذا والله من وراء القصد .
---------------
(1) نوع من
الثيباب .
مجلة التوحيد العدد 308 السنة السادسة والعشرون - شعبان 1418هـ