إن واجب الدعوة إلى الله تعالى هو الواجب العام الذي يشمل أفراد
الأمة جميعًا . قال تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين ) [
يوسف : 108 ] .
فكل مسلم مأمور بالدعوة إلى الله تعالى ؛ لأنه من أتباع النبي
- صلى الله عليه وسلم - ، والآية الكريمة تبين سبيل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو
الدعوة على بصيرة ، ويقول : ( أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) [ يوسف : 108 ] ، ونحن أتباعه
، فالدعوة واجبة علينا .
والدعوة هي التي تنقل الأمة إلى الخيرية ، يقول تعالى : ( كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [ آل عمران : 110] ، فالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر النابع من الإيمان بالله هو دعوتنا .
هذه الدعوة لها سلاحان هامان هما : العلم والصبر فهما شرطًا صحتها
وفاعليتها ، أما شرط قبولها عند الله فهو الإخلاص لله سبحانه ، فالدعوة لابد لها من
العلم لقوله تعالى : ( أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ) [ يوسف : 108 ] ، فالبصيرة
: هي العلم ، وهي الحكمة في قول الله سبحانه وتعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) [ النحل : 125] ، وهي الحق في قوله :
( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر ) [ العصر : 3] .
وحديثنا الآن حول الصبر في الدعوة إلى الله سبحانه .
فالله سبحانه وتعالى ينادي المؤمنين : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
) [ البقرة : 153] ، ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ) [ آل عمران : 200] ، فهو سبحانه يأمر
بالصبر ، بل أن نفوق عدونا صبرًا فنصبر أكثر من صبرهم ؛ فإن الفوز والنصر للصابرين
، فهو سبحانه يقول : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [ البقرة : 249] .
والله يأمر نبيه بالصبر مع من يدعوهم فيقول سبحانه : ( وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
) [ الكهف : 28] .
وليكن صبرنا في الدعوة هو السلاح الواقي : ( وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
) [ آل عمران : 120] ، ولنعلم أن أجر الصابرين عظيم : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ
صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ) [ النحل : 96] ، ( إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ الزمر : 10] .
وتاريخ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم خير مثال يوضح الصبر
العملي . يثبتون على حجتهم مهما خالف القوم ، فهذا نوح يدعو قومه ألف سنة إلَّا خمسين
عامًا لا يمل من دعوتهم ولم يَدْعُ عليهم ، ولم ينحرف نحوهم رغم كثرة عدد الكافرين
ورغم أن زوجه وولده كانوا من الكافرين . فلما أعلمه ربه : ( أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ
مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ ءَامَنَ ) [ هود : 36] ، دعا عليهم فقال : ( رَبِّ
لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا(26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ
يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) [ نوح : 26 ، 27
] ، وصبر على استهزائهم بدعوته .
وكذلك صبر إبراهيم عليه السلام في قومه وكانت الحجة منطقه الذي
يدعوهم به فحاجَّ ملكهم الذي ادعى أنه إله من دون الله فبهت الذي كفر . وحاجَّ عباد
الكواكب فغلبهم وحاجَّ عباد الأوثان بالحجة العملية فأقروا أنهم الظالمون ، لكن لما
غلبهم بالحجة قالوا : ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ ) [ الأنبياء
: 68] ، فالعبد الضعيف ينصر إلهه ، ضعف الطالب والمطلوب . لكن الله جعل النار بردًا
وسلامًا على إبراهيم .
وكذلك صبر إسماعيل على الذبح ففداه الله بذبح عظيم . وصبر يعقوب
على كيد ولده وفراق يوسف فأظفره الله ، وصبر يوسف على ترك الشهوة الحرام لما دعته ذات
المنصب والجمال فقال : معاذ الله . وصبر على السجن مظلومًا . بل لما خير بين الفحشاء
والسجن قال : رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه . وكان عاقبة صبره رفعة في الدنيا
وملكه ، ولأجر الآخرة أكبر .
وكذلك صبر أيوب وصبر داود وصبر موسى صبرًا عظيمًا على فرعون ،
بل وعلى بني إسرائيل يدعوهم فيتفلتون . وصبر عيسى عليه السلام حتى أراد قومه صلبه لما
لم يسطيعوا مجاراته فأنجاه الله منهم ورفعه إليه : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ
وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) [ النساء : 157] .
وكان صبر نبينا الخاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم الصبر
وعاقبته خير عاقبة وجعل ذكره باقيًّا حيث جعل الله معجزة كل نبي تنتهي قبل موته ، فلم
يبق إلا أكبر معجزة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهي التي أبقت في القلوب الإيمان
بالأنبياء وبمعجزاتهم وبنزاهتهم وصدقهم وصبرهم في دعوتهم لأممهم .
والله سبحانه جعل في كل أمة رسولًا . فلما ختم الرسالات جعل الدعاة
إلى الله هم الذين يخلفون الرسل في هذه الدعوة فيقومون بها فلابد أن يتخذوا من الصبر
والعلم والإخلاص عدة لهم حتى يؤيدهم الله بقوته .
والله سبحانه قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) [ المائدة
: 3] .
فمنهج الإسلام منهج كامل لا يحتاج إلى إضافة أو حذف أو تغيير
؛ لأن الله أكمله وأتمه ورضيه . من أجل ذلك كانت الدعوة إلى الله بالقرآن والسنة كما
فهمها خير القرون الذين زكاهم الله وزكاهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - هو المنهج الصواب
الذي يجب علينا أن نصبر على تعلمه ، وأن نعلمه الأهل والأقارب ، وأن نصبر على تعليمه
للناس .
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصابر الأول ، إمام
الصابرين في كل أمر .
وجاءه الوحي يعلمه الصبر من أول نزوله حيث جاءه الملك في الغار
يقول له : ( اقرأ . قال : ( ما أنا بقارئ ) . قال : ( فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد
) ، ثم قال لي : ( اقرأ) ) . فمع التكليف ضمه ضمة قوية لتعلم الصبر .
· فلما أمره
: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) [ الشعراء : 214] ، كان أول كافر به عمه
أبو لهب فصبر .
· فلما جاءه
قومه يعرضون عليه العروض للتخلي عن الدعوة قال : ( والله لو وضعو الشمس في يميني والقمر
في يساري على أن أدع هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما فعلت ) ، فصبر على الدعوة
.
· قال شيخنا
: ضعيف ، ولكن صحَّ نحوه بلفظ لا أستحضره .
· فلما آذاه
قومه بالسباب والهجر وسائر صنوف الأذى صبر ، فلم يَدْعُ عليهم ، بل دعا لهم بالهداية
.
· فلما أخرجوه
صبر في الهجرة .
· فلما قاتلوه
صبر لقتالهم .
· و أخذ يصبر
في دعوة الناس ، فيقبل من جاهلهم ، ويعفو عن مسيئهم ويرشد ضالهم ويحلم على من يسفه
عليه .
· ولقد سار
سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم على منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة والصبر
. فصابروا في طلب العلم والعمل به والدعوة إليه ، فنشر الله بهم الإسلام حتى ملأ آسيا
وأفريقية ، ودخل أوربا ، فنحن بعض ثمارهم .
· فالمسلم
في حاجة إلى الصبر لتحصيل العلم وطلبه . فيصبر مع القرآن والسنة حفظًا وفهمًا . ويصبر
على لزوم الصحيح من الأفهام ، فلا تغره شبهات أهل الضلال ، ولا تنحرف بهم سبل الشيطان
، فتفرقهم عن سبيل المؤمنين ، ثم يصبر المسلم على العمل بذلك العلم فتكون القلوب معتقدة
الحق والجوارح عابدة لربها مقتدية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والسلوك موافقًا لذلك
العلم في النفس والمال . وكل أمر لله فيه مقال .
ثم يصبر المسلم على ترك المعاصي رغم توفر دواعيها في النفس والمجتمع
من حوله ، ثم يصبر على دعوة الناس لذلك العلم متحملًا صعاب الدعوة صابرًا مع المتعلمين
، يرفق بهم ، ويحسن إليهم .
صبر المسلم في بلاد الكفر
1- صبر الثبات
على الإيمان اعتقادًا وعملًا .
2- صبره على
تعليم أهله وتثبيتهم على الحق .
3- صبره في
مواجهة الدعوات الضالة التي تشتت على الناس دينهم .
4- صبره على
العصاة حتى يلتزموا الطاعة ، ويتركوا المعصية .
5- صبره على
أن يكون ممتثلًا الإسلام في نفسه ، فلا يراه الناس على محرم ، ولا يهجر طاعة ، ولو
دعته لذلك حاجة ولكن يصابر ذلك .
6- صبره على
إحسان صلته بربه في سره وعلنه .
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
مجلة التوحيد العدد 285 السنة الرابعة والعشرون - رمضان 1416هـ