الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه . وبعد
:
يقول رب العزة سبحانه في سورة البقرة : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ) [ البقرة : 197] .
الحج موسم سنوي ومؤتمر عالمي ، يحضر فيه المسلمون من كل فج عميق
ليشهدوا منافع لهم ، حيث دعاهم ربهم فأجابوه ولبوا نداءه ، وقد اختلط ملوكهم بعامتهم
، ثيابهم الإحرام ( إزار ورداء ) الرءوس عارية مكشوفة ، والألسنة لاهجة بالذكر ، والأصوات
مبحوحة من التلبية ، والأيدي مرفوعة ضراعة لله رب العالمين .
حول بيت الله يطوفون في تذلل قد كشفوا عن أكتافهم ، ورملوا في
أشواطهم حال قدومهم ، تجنبوا من كل عمل ما يؤدي إلى التميز والمفاخرة ، وابتعدوا عن
لهو الحديث وعبث العمل ، وفحش القول والعمل ، يتنافسون في البر والتقوى ، ويتسابقون
إلى كل خير خاص كان أو عامًا .
مئات ألوف من المسلمين ، بل ملايين يأتون رجالاً وعلى كل ضامر
من كل فج عميق ، من أقطار العالم الإسلامي المترامية الأطراف ، وقفوا في صعيد واحد
تنطلق منهم الحناجر حول بيت الله الحرام ، وبين الصفا والمروة ، وعلى جبل عرفة ، وفي
مزدلفة ومنى ، ذكرهم : ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة
لك والملك ، لا شريك لك ) .
التوحيد منطقهم ، والتعبد والذكر شغلهم ، والله مولاهم ومقصدهم
، ورضوانه سبحانه بغيتهم ، لم يجمع بينهم مال ولا تجارة ، إنما جمعهم الشوق إلى بيت
الله الذي تهوى إليه أفئدة من الناس .
المسلم يلقى أخاه المسلم القادم من بلاد بعيدة تاركًا وراءه الأهل
والعشيرة في هموم ومشكلات كثيرة ، قد وفد إلى ربه حاجًّا نائبًا عن قومه ليسأله حاجة
نفسه وحاجة قومه الذين خلفهم وراءه ، آملا أن يرفع الضر عنهم ؛ وأن يكشف الهم الذي
أصابهم ، وأن يقوي الهمم التي ضعفت ، ويشحذ العزائم التي توانت ، وأن يرسل السماء عليهم
مدرارًا بمطر الخير ، وأن ينبت لهم الأرض ، ويدر لهم الضروع ، ويرفع عنهم الجوع والعطش
، ويرزقهم الأمن في الأوطان .
ها هم اليهود قد دنسوا العالم كله ، وظهر رجسهم حول بيت المقدس
، دنسوا الأموال بالربا والغش ، ودنسوا الصحف والمجلات وسائر وسائل الإعلام بالفجور
والعري والسخرية ، فمن يردهم ويرفع عن المسلمين رجسهم ؟
ومن يجمع للمسلمين شملهم ، ويشد من أزرهم ؟ إنه الله الذي وفد
الحجيج إلى بيته طائفين ملبين .
أزمات طاحنة وحرب ضروس اشتدت في البوسنة والهرسك ، واستحكمت في
الشيشان ، بل وفي إرتريا ، وكشمير ، وشتات في الصومال ، عدى الكفر وكشر عن أنيابه ،
وظهر وجهه القبيح وأسفر عن عدائه بكل أعوانه ، وجمع السلاح ليبيد خضراء المسلمين وليستأصل
شأفتهم ، وليبيح أعراضهم ، ويسفك دماءهم ، ويأسر أطفالهم ، فمن يرفع ذلك عنهم ؟
إنه الله الذي وفد الحجيج إلى بيته ملبين ضارعين محرمين داعين
.
في أفغانستان قد ظهرت خلافات طوائف المسلمين مظهرة لصور الخلافات
الموجودة في أرجاء العالم الإسلامي ، فهذا خرافي ضال بخرافته يتمسك بها ويدافع عنها
، وهذا فاسق ماجن بفسقه ، وهذا قومي عابد لقبيلته يقاتل عصبية وحمية لقومه ، وهذا قد
استهوته الزعامة واستولت عليه مشاعر حب الرئاسة وكلهم للإسلام منتسبون ، ومع ذلك فهم
يشهرون السلاح ليسفكوا دماءهم فمن يردهم إلى صوابهم ويعيد إليهم رشدهم ؟ إنه الله الذي
وفد الحجيج إلى بيته ملبين ضارعين محرمين داعين .
في بلاد العالم الإسلامي حيث استبد حكام ظلمة في رقاب المسلمين
لا يرقبون فيهم إلَّا ولا ذمة ، ملئوا منهم السجون ، ومنعوا في المساجد الأذان ، وعطلوا
دروس العلم ، ألهبوا ظهور الناس بالسياط ، وحرَّموا عليهم الاجتماع في الصلوات ، فمن
الذي يرفع عنهم ذلك الذي أصابهم ، ويلين عليهم قلوب حكامهم ، أو يبدلهم من هم خير منهم
وأرفق وأكرم ؟ ومن يولي عليهم أهل الصلاة والصلاح والتقى والإيمان ؟ إنه الله الذي
وفد الحجيج إلى بيته ملبين ضارعين محرمين داعين .
في بلاد أخرى من بلاد المسلمين فشت البدع والخرافات حتى صار الدين
عندهم كهانة ، والعلماء عندهم يتعلقون بالقبور ويعلقون التمائم على الصدور والنحور
، ويطوفون حول التماثيل والأوثان ، ويدعون غير الواحد الديان ، يتخذون دينهم لأهل الضلال
تقليدًا ، ويقربون النذور للأموات تقربًا وتمجيدًا ، من الذي يردهم عن ضلالهم ويخرجهم
من شركهم ويردهم إلى كتاب ربهم ؟ إنه الله الذي وفد الحجيج إلى بيته ملبين ضارعين محرمين
داعين .
في كثير من بلاد المسلمين شباب دفعهم الحماس وأخذتهم الحمية في
غيبة أهل العلم وظلم السلطان قد فارقهم السلوك السوي الصحيح ، وخالفوا الفهم الرشيد
واستعان بهم الشيطان فأغراهم وأغواهم ، ففجروا في الشوارع والطرقات وأشاعوا الذعر في
المجتمعات ، وفعلوا ما لا يرضاه من عنده مسكة من عقل أو مثقال ذرة من إيمان ، من الذي
يُعَرِّف هؤلاء ويردهم إلى صوابهم ويعيد إليهم رشدهم ، ويضع الثقة في قلوبهم نحو علمائهم
ويرشدهم إلى الصواب من السلوك ، ويبين لهم حرمة الدماء والأوطان ، ومن يعرفهم منزلة
الأمن من الإيمان ؟ من يفعل بهم ذلك ؟ إنه الله الذي وفد الحجيج إلى بيته ملبين داعين
محرمين .
مسلمون سكنوا بين ظهراني المشركين والكافرين ، فملئوا عليهم الحياة
كفرًا وفجورًا ، وفسقًا وعريًا وبلاءً ففي طعامهم وشرابهم ، وفي فراشهم وثيابهم ، وفي
طرقاتهم وبيوتهم ، وفي نسائهم وأطفالهم ، وفي صحفهم وإعلامهم ، وفي مدارسهم ومعاهدهم
، وفي كل شيء معهم وحولهم يعرض الكفر في كل ساعة في إلحاح مستمر ، وفي حلقات متصلة
، فإنه فاتته هذه ، وإن حمى نفسه من تلك فلابد أن تصيبه التي بعدها ، ظلمات بعضها فوق
بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها . لا يكاد ينقذ نفسه إن استطاع وكيف يستطيع ؟ فإن توقى
بنفسه حفرة من حفر الكفر ، فإنه يرتطم بصخرة من صخوره ، فكيف به والحال كذلك أن ينقذ
زوجه وولده ، هذا جاره قد باع نفسه للكافرين فهان عليهم ، وهذا رفيقه قد استسلم في
خضم أمواج المشركين حتى صارت زوجه منهم أمًّا لأولاده فكيف ترعاهم ؟ وهو هل يبقى وحيدًا
يقاوم هذه الفتن أم يخرج إلى بلاد المسلمين ؟ فَمَنْ لهؤلاء ؟ من إلا الله الذي وفد
الحجيج إلى بيته ملبين داعين ضارعين محرمين .
هذا والحج إذا عرفت اجتماع في زمان واحد ومكان واحد لأكبر عدد
في أوسع مؤتمر يجمع من أهل الصلاح والتقى في موطن تنزل الرحمة ، والناس في خشوع وخضوع
ورجاء ودعاء وتلبية ، أما الشيطان فما رؤي أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في
يوم عرفة .
فما دعاء الحجيج إذًا ، وما رجاؤهم إن لم يكن لكل هؤلاء جميعًا
يسرون ويعلنون إلى ربهم ، ويجهرون ويخافتون في دعائهم ، لعل الله أن ينظر إليهم فيغير
من حال هؤلاء جميعًا ، فيكون موسم الحج صيحة التغيير ، وصحوة العقول ، واستجابة الدعاء
.
موسم الحج تلبية واستغفار ودعاء ، والتلبية إعلان بالطاعة والامتثال
، والتوحيد والإخلاص والاستغفار باب إجابة الدعاء ، وتفريج الكرب ، وزوال الهم ، وكشف
الضر ، والدعاء صلة بين العبد وربه وعبودية له سبحانه .
فيا معشر الحجيج ! هذه الأمة بآلامها وآمالها تنظر إلى ربها داعية
راجية ، وقد وفدتم أنتم معشر الحجاج إلى بيت الله حجاجًا ومندوبين عنهم ، تعبرون عن
أمنيات المسلمين من ورائكم ، وعن حاجاتهم التي يرجون من ربهم تحقيقها ، فلا تتوانوا
في الدعوات ، ولا تقصروا ، فالآمال معلقة باستجابة الله لدعائكم وشفاعتكم عند ربكم
لأهليكم ؛ لتحمى الأعراض ، وتصان الحرمات ، ويرد الجوع ، ويندحر العدو ، ويستيقظ الصديق
، ويرجع الإيمان بالأمن إلى القلوب والبيوت والأوطان ، والرخاء إلى الأسواق مع الإسلام
، فالدعاء الدعاء ، والإخلاص الإخلاص معشر الحجاج في كل موطن من مواطن إجابة الدعاء
متذكرين حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب
مستجابة ، عند رأسه ملك موكل ، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به : آمين ، ولك
بمثل ) .
والله من وراء القصد .
افتتاحية مجلة التوحيد العدد 288 السنة الرابعة والعشرون - ذو الحجة 1416هـالعدد 288 السنة الرابعة والعشرون - ذو الحجة 1416هـ