قامت الحضارة الحديثة على الفكر البشري والإبداع العقلي بالنظر
في الخواص التي أودعها الله سبحانه في المادة ؛ فاستفادوا منها في الصناعات المختلفة
، فكان من نتاج ذلك مراكب تنقل أجسامهم ، قال تعالى عنها : ( وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُون
)[النحل : 8] ، وكان منها أجهزة أخرى تنقل أصواتهم وصورهم ، وثالثة تنقل أوراقهم وكتابتهم
، وكان منها ما نراه اليوم من الأجهزة الحديثة المتنوعة التي خرجت من إبداع العقل البشري
.
وينبغي ألا ننسى أن هذه الخواص أودعها الله في المادة فنذكره
ونسبحه عند التعرف عليها ، من فعل ذلك فهم العلماء ؛ لقوله تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر :28] ، فكل علم لا يذكَّر الله ولا يزيد
صاحبه خشية لله فليس بعلم .
فالله سبحانه أودع في المادة خواصها ، و لو شاء غيرها .
فمن رحمته أن أبقاها ، وبرحمته سبحانه يغيرها .
فالله هو الذي أفقد النار لإبراهيم إحراقها ؛ فكانت عليه بردًا
وسلامًا ، وهو الذي أفقد الماء لموسى جريانه ؛ فصار كالجبل ،وهو الذي أفقد الحديد في
يد داود صلابته وألانه وهكذا فالله يفعل ما يشاء .
والله الذي خلق لنا ما في الأرض جميعًا ؛ لنستمتع به قد أنزل
دينًا وأمرنا باتباعه والسير عليه ، وأن الذين يخالفونه سيصيبهم شقاء الدنيا وعذاب
الآخرة ، لكنْ غرَّ الناس بريقُ الدنيا وزخرفها ؛ فأخذوا يركضون وراء البريق الزائف
ظانين أن هذا هو السعادة والتقدم والرقي ، حتى هجروا كل فضيلة شرعها الله ، وارتكبوا
كل رذيلة حرمها الله سبحانه .
فوصلوا إلى مستوى أدنى من الحيوان في عيشه وعلاقاته ، فكانت لهم
قلوب لا يعقلون بها ، وآذان لا يسمعون بها ، صار الداء العضال يجري في أوصالهم يفتك
بهم ، فلا يحاولون له دفعًا .
الأمراض الفتاكة تقضي عليهم ، ولا يلتمسون لها علاجًا .
كل واحد يتألم بغير أن يدفعه الألم ليعالج نفسه ، أو يخفف الألم
عن غيره .
أكبر الدول اليوم قامت حضارتها على عقول استوردتها من جميع بلاد
الدنيا .
جعلت في كل بلد لها مندوبين متخصصين ، ينظرون خيرة العقول المفكرة
والأيدي الصانعة ، حتى إذا وجدوها أغروها بعروض مالية كبيرة وزخارف دنيوية بالغة -
إن هم هاجروا إلى بلادهم - فجذبوا الكثير من العقول والأيدي لتعمل عندهم ، وأغدقوا
عليهم العطاء المادي ، ويسروا لهم البحث والمعامل والاختراع ، ووجد كل واحد منهم بغيته
وهوايته ، حتى صار يقضي عمره في معمله يبدع وينتج ويبحث ، لا يكاد يخرج من دائرة بحثه
ولا من نطاق معمله ، يقضي فيه عمره ، ويتعلق به قلبه ، أعطوه المال وفيرًا ، فأخذ يغدق
به على ذويه ؛ ليعوضهم غيابه عنهم ، ويطلب منهم أن يحلوا مشكلاتهم بالمال ، ويعالجوا
به حياتهم ، ويستخدموه فيما يشاءون .
ظن بذلك أنه وفر لهم أفضل الحياة ورباهم خير تربية ، مع أنه تركهم
لتعليم غريب ملحد ، وإعلام ماجن فاسد .
وبعد سنوات خلت حانت منه إليهم التفاتة ، فإذا الأبناء لا يعرفون
شيئًا عن دين أو رب أو إله معبود .
لا يعرفون قيمًا ولا حرامُا من حلال .
قيمهم في المادة حولهم ، وفي الشهوات تعرض عليهم ، والمخدرات
والفواحش ، انغمسوا في ذلك ، والقانون يحميهم ، ويمنع كل من يقف في طريقهم .
نظر صاحب هذا العقل الفذ ، والعمل المنتج ، والاختراعات الحديثة
البارعة ، بعد سنوات طويلة ، إلى أبنائه وقد كبروا ، وشبوا ، وقوي عودهم ، واكتمل بنيانهم
فوجدهم فجأة بغير أن يشعر بالمقدمات : الولد يُدمن المخدرات ، والبنت تحمل من السفاح
.
فلما عارض البنت في علاقاتها الآثمة الماجنة ، إذا بها - كما
علموها في دور العلم عندهم - تستغيث بالشرطة ؛ فخفوا لنجدتها من أبيها وشرفه ، وهددوا
صاحب العقل الفذ ، والاختراع النافع ، إن هو تعرض لها ؛ فمصيره السجن يدخل فيه ، والعقوبة
الشديدة تقع عليه ، بالسلاح والقوة يحمون الرذيلة ، ويهددون الفضيلة .
نظر بعد فوات الأوان ، وأفاق بعد طول زمان ، كل شيء من حوله تفلت
.
لا يستطيع أن يرجعهم إلى بلده ، ولا أن يجعلهم ينطقون بلغته ،
ويفهمون قوله .
ينظرون إليه أنه يسطو على الحريات فيمنعها لأنه رجعي غير متحضر
.
قامت الحضارة على عاتقه ، لكنه غير متحضر .
نعم ، هذا النابغة وأمثاله ليسوا متحضرين ، بل متخلفون ، ليسوا
أكثر من حمالين ، أو أدوات تحمل الحضارة .
وهكذا تعاملهم الحضارة في أول صدام حدث بينها وبينهم .
صار أبناء النابغة بلهاء متسكعين ، المال لا يرفعهم ، والغنى
لا يحرسهم . فقدوا كل شيء ، نظر صاحب العقل فوجد أنه قد باع نفسه بأبخس الأثمان .
باع ولده وابنته وزوجه . باع عرضه وشرفه وهويته .
ذلك لأنه تعلق بزخارف الحياة ، ولم ينتبه إلى شرع الله ودينه
، لم يراع حلاله وحرامه .
لم يقوم نفسه وزوجه وولده .
حتى وجد التفسخ قد بلغ أقصاه ، وجد أنه لما وقف في هذا التيار
يريد له تغييرًا ؛ جرفه التيار .
لم ينظروا إلى قيمة أبحاثه ومخترعاته ، ولا إلى ما قدمه للأمم
حوله ليستفيدوا منها .
وجد نفسه يُلْقَى على الأرض كالمتاع الذي فقد صلاحيته .
هكذا هو كالأوراق الحديثة تستخدم مرة واحدة ثم تلقى على الأرض
.
كأوراق التنظيف تلقى بعد استخدام واحد .
كأكياس التغليف ، كل شيء في الحضارة يستخدم لمرة واحدة ، ثم يلقى
في القمامة ، وهكذا العقلاء بعقولهم يكونون عند هؤلاء .
هذا الإنسان صاحب الكيان الكبير .
استخرج ما عنده ، ولما أراد أن يوجه ولده وزوجه وابنته ، بعيدًا
عن الانحراف ، بعيدًا عن العار ، بعيدًا عن المخدرات ، تعاون الجميع ؛ فألقوه في القمامة
.
قد انتهى دوره ، فهو كسائر الأشياء من حوله ، يستخدم مرة واحدة
.
لا تزال تلك اللعبة الخطيرة كما هي حتى اليوم .
هذه البلاد تبث مندوبين لها في كل بلاد الدنيا ، تستورد لها العقول
.
ألم تمتلئ بالعقول ؟! ألم تكتف بما استوردته ؟! إن كل بلاد الدنيا
تربي عقولاً .
وهي تستهلك العقول .
كل بلاد الدنيا تخرج من وراء الأفذاذ .
بينما هم يخرجون من وراء الأفذاذ بلهاء .
تستخدم العقول مرة واحدة ، ثم تحطم أصحابها في أول صدام لها لتلقيها
في القمامة .
استوردوها بالأموال ، لكنهم تركوا الأموال والمخترعات ، وخرجوا
منها بغير شيء ، لكل ذلك ينادي علماء الإسلام بالتحذير من السفر إلى بلاد الكفر وخطره
على العقيدة والأخلاق ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ..