قصة صاحب الجنتين
بين يدي القصة:
سمى الله تعالى المال
خيرًا في كتابه؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ
لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]
وجعله الله قوامًا للأنفس، وأمر بحفظه ومدحه النبي
-صلى الله عليه وسلم- بقوله: "نِعْمَ
الْمَالُ الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"(1)
وجعله الله سببًا لحفظ البدن، وحفظه سبب لحفظ
النفس التي هي محل معرفة الله والإيمان به وتصديق رسله وإنما يذم منه ما استخرج من
غير وجهه، وصرف في غير حقه، واستعبَد صاحبه، وملَكَ قلبه، وشغله عن الله والدار
الآخرة، فالذم للجاعل لا للمجعول، وفي الحديث: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ،
وَالدِّرْهَمِ"(2) فذم عبدهما
دونهما.
وحب المال غريزة في النفس البشرية، وجبلة في
الطبيعة الإنسانية، وليس الإثم والعتب في حب المال إنما الإثم يقوم على أمرين: سوء
جمع المال، وسوء إنفاقه.
ومن أكبر المصائب أن يجنح المال بصاحبه حتى يدفعه
إلى هاوية الجحود ونكران النعم، يدفعه للتكبر والعتو والتعالي على الخلق والخالق
كما حدث مع صاحب الجنتين.
هي قصة: ضربها الله تعالى مثلًا للعظة والاعتبار،
والتذكرة والاستبصار، وتصحيح المفاهيم، وضبط الموازين، وتأصيل القيم، وذلك ببيان
أن العبرة ليست بكثرة المال والولد، فتلك أعراضٌ فانيةٌ، وعاريةٌ مستردَّةٌ، وأن
تقلب أهل الباطل في النعم إمهالٌ واستدراج، ومكابدة المؤمن في الدنيا ابتلاء
وتمحيص، وأن العبرة بالخواتيم.
قصة تبين لنا بأسلوب بليغ، صور عاقبة الجاحدين المغرورين
وحسن عاقبة الشاكرين المتواضعين، تبين لنا الآثار الطيبة التي تترتب على الإيمان
والعمل الصالح، والآثار السيئة التي يفضى إليها الكفر وسوء العمل، تبين لنا أنّ
المتفرد بالولاية والقدرة هو الله عز وجل فلا قوة إلا قوته، ولا نصر إلا نصره، ولا
مستحق للعبادة أحد سواه، ولا ثواب أفضل من ثوابه ولا عاقبة لأوليائه خير من
العاقبة التي يقدرها لهم.
المبحث الأول: الفوائد
المنهجية
الفائدة الأولى: الهدف من القصص أخذ الدرس والعظة.
قال تعالى: {وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [الكهف: 32]
نلاحظ أن الله لم يذكر أسماءً، ولا مكان القصة
وأين جرت أحداثها، لا يذكر مِن هذا وذاك إلا ما دعت إليه الضرورة، وكان في ذكره
فائدة؛ لأن المقصود هو الحدث نفسه وما فيه من العبرة والدروس؛ وهذه الدروس لن
تتغير بتغير الأسماء والأماكن.
فضرب المثل لهذين الرجلين، الشاكر لنعمة الله،
والكافر لها، وما صدر من كل منهما، من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من
العقاب العاجل والآجل، والثواب، ليعتبروا بحالهما، ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس
معرفة أعيان الرجلين، وفي أي: زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة، فالنتيجة تحصل
من قصتهما فقط، والتعرض لما سوى ذلك من التكلف.(3)
الفائدة الثانية: الكبر والغرور يفضيان بصاحبهما
إلى الهلاك.
الكبر من أول الذنوب التي عُصِي الله تبارك وتعالى
بها وهو سبب رئيس في هلاك الأمم السابقة وفي الإعراض عن آيات الله والصد عنها،
وهذا ما وقع فيه صاحب الجنتين عندما تكبر على صاحبه وتفاخر عليه بقوله{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] افتخر بكثرة ماله، وعزة أنصاره من
عبيد، وخدم، وأقارب، وهذا جهل منه.لذا قال له صاحبه ناصحا ومذكِّرا، في حوارٍ
هادفٍ بنَّاء، يقصد من خلاله أن يردَّه إلى الحقِّ: {أَكَفَرْتَ
بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37] فردَّه إلى أصله وطبيعته، بتذكيره
بمادة الخلق التي يتساوى فيها مع سائر البشر، فمن التراب وإلى التراب، ليعالجه من
داء الكبر.(4)
الفائدة الثالثة: فتح باب الدنيا على الإنسان يكون
في أكثر الأمر للاستدراج.
قال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}
[الكهف: 35]
وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك
وإلا فهو مما لا يقوله عاقل وهو مما لا يرتضيه فاضل.
ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى
إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه ولم يدر أن
ذلك استدراج.(5)
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ -رضي الله عنه-
عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ
الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ثُمَّ
تَلاَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}).(6)
فهذا الرجل كما ركَّزتِ مقدمة الآيات على وصف
ما أعطاه الله مِن نعيم، وتفضَّل عليه من عطاء لم يكن لينظرَ إلى المعطي وهو الله
تعالى، بل كان تركيزُه على العطاء نفسه؛ لذلك تبدأ الآية الكريمة {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف:
34]، فشُغِل به عن ذكر ربه وفضلِه عليه، بل شغلَتْه نفسُه وتَمَحْور حولها،
ومِن هنا كان جدالُه مع صاحبه وقولُه: (أَنَا)
الفائدة الرابعة: الله
يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.
قال تعالى ذاكرًا قول صاحب الجنتين: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ
خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]
فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن – صاحب الجنتين- بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في
الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على
أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، قَالَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه-: إنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا
مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ، وَلاَ يُعْطِي الإِيمَانَ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ،
فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الإِيمَانَ.(7)
ونلحظ هنا أن صاحب الجنتين قال هذا الكلام على وجه
التهكم والاستهزاء، وهو ظن خاطئ وفهم رديء، قياس فاسد، وما هكذا يكون الإنسان
الواعي والإنسان المؤمن؛ فإن الإنسان إنما ينال الخير كل الخير بإيمانه بالله رب
العالمين، وبما يقتضيه هذا الإيمان من عمل صالح، أما ما يمتلكه الإنسان في هذه
الدنيا، فإنما هو عند العاقل وسيلة يتقرب بها إلى الله، ويؤدي فيها حق الله.(8)
الفائدة الخامسة: كثرة المال ليس دليلًا على
الإكرام، ولا قلته دليلًا على الإهانة.
نرى في هذه القصة
النعيم الدنيوي قد منحه الله لهذا المتكبر ومن عليه به، وأما صاحبه المؤمن فلم يكن
يملك من هذا المتاع إلا القليل، وهذا نوع ابتلاء من الله تعالى لكلا الرجلين.
وقد ذم الله قصيري النظر الذين يظنون هذا الظن
فقال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ} [الفجر: 15، 16]
فالله تعالى ينكر عَلَى الْإِنْسَانِ فِي
اعْتِقَادِهِ إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ لِيَخْتَبِرَهُ فِي
ذَلِكَ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِكْرَامٌ لَهُ وَلَيْسَ
كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ.كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ
مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56].وَكَذَلِكَ فِي
الْجَانِبِ الْآخَرِ إِذَا ابْتَلَاهُ وَامْتَحَنَهُ وضَيَّق عَلَيْهِ فِي
الرِّزْقِ، يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِهَانَةٌ لَهُ.قَالَ اللَّهُ: {كَلا} أَيْ:
لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ، لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ
يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ
يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ
اللَّهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ، إِذَا كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ يَشْكُرَ
اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ فَقِيرًا بِأَنْ يَصْبِرَ.(9)
الفائدة السادسة:
المال وسيلة وليس غاية، وصاحب المنهج السليم لا يتأثر بفقر أو غنى.
الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يتأثر صاحبه
بفقر أو غنى يصيبه، لأن الغنى والفقر مما يمتحن الله به عباده، ولا يجوز للعبد أن
يعترض على نوع الامتحان الذي يمتحن الله به عباده، فقد يمتحن الله الكافر بالغنى
وسعة المال، ويمتحن المؤمن بقلة المال.
فالمؤمن يعلم أن نعمة الإيمان لا تساويها أي نعمة
يؤتاها الإنسان، ولهذا فهو لا يتزلزل إيمانه أبدًا إذ افتقر هو أو اغتنى أهل
الباطل، فمتاع الدنيا قليل وزائل، ولا يستحق أن يستشرف له نفس المؤمن، ولا يحزن
على فوته أو فقده.لأن مقصد المؤمن الآخرة ومرضاة الله قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ
وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا
عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33: 35]
ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا
منعًا عامًّا أو خاصًّا لمصالحهم، وأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن كل
هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا، منغصة، مكدرة، فانية، وأن الآخرة عند الله
تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، لأن نعيمها تام كامل من
كل وجه، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون، فما أشد الفرق
بين الدارين.(10)
الفائدة السابعة: من أنفق عمره في تحصيل الدنيا
وأعرض عن الدين، حُرم الدين والدنيا معًا
يَقُولُ تَعَالَى: {وَأُحِيطَ
بِثَمَرِهِ} بِأَمْوَالِهِ، أَوْ بِثِمَارِهِ
أي: أصابه عذاب، أحاط به، واستهلكه، فلم يبق منه شيء، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ
وَقَعَ بِهَذَا الْكَافِرِ مَا كَانَ يَحْذَرُ، مِمَّا خَوَّفه بِهِ الْمُؤْمِنُ
مِنْ إِرْسَالِ الْحُسْبَانِ عَلَى جَنَّتِهِ، الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا وَأَلْهَتْهُ
عَنِ اللَّهِ.(11)
فلك أن تعتبر بحال من
أنعم الله عليه نعمًا دنيوية، فألهته عن آخرته وأطغته، وعصى الله فيها، أن مآلها
الانقطاع والاضمحلال، وأنه وإن تمتع بها قليلًا فإنه يحرمها طويلًا.(12)
ولا حظ الفرق بين موقف من ألهته الدنيا عند
المصيبة وبين أهل الإيمان كذلك.
فأهل الدنيا {فَأَصْبَحَ
يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا}
أي: على كثرة نفقاته الدنيوية عليها، حيث اضمحلت وتلاشت، فلم يبق لها عوض.
وأما أهل الإيمان فحالهم كما في حديث صُهَيْبٍ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-:
"عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ
ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ
خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"(13)
المبحث الثاني: الفوائد
التربوية.
الفائدة الأولى: المفارقة بين سلوك الجنتين، وسلوك
صاحبهما
فالجنتان {لم
تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}، وصاحبهما {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}
واستعمال مادة "ظلم" لوصف الطرفين، هو
الذي أوحى بعقد المقارنة بين المالك والممتلك: الجنة غير عاقلة لكنها مع ذلك
تستجيب للأمر اللائق بها -وهو الأمر الكوني-..فإذا توفرت الشروط والأسباب جاءت
النتائج وفق ذلك، فلها أن تخرج كل ما هو كامن فيها من الثمر بدون نقصان ليس محاباة
للرجل ولكن استجابة للأمر فهي قامت بما" يجب" عليها.
لكن الرجل العاقل لم يقم بما يجب عليه ولم يستجب
للأمر اللائق به باعتباره عاقلا -وهو الأمر الشرعي-: فلا هو شكر ربه ولا هو واسى
صاحبه.
خلاصة الأمر أن في قوله تعالى عن كلتا الجنتين:
"وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا" تعريضًا بالرجل الظالم لنفسه وترتيبًا
له في دركة أسفل من الجماد نفسه.
الفائدة الثانية:
الإرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها، بما عند الله من الخير
لقوله: {إِنْ تَرَن أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ}.أي
إن ترني أفقر منك فأنا أرجو أن يرزقني الله سبحانه جنة خيرًا من جنتك في الدنيا أو
في الآخرة أو فيهما، فذلك ليس بالذي تعجز عنه قدرة الله..فالله سبحانه يملك الناس
ويملك ما بأيدي النّاس، وبسلطان قدرته، وبتقدير حكمته، يبدّل أحوال الناس كيف
يشاء.(14) وكان هذا من دأب النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه أن يذكرهم بما أعده الله
لهم في الآخرة تسلية لهم.فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَشْرَبُوا فِي إِنَاءِ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَلْبَسُوا الدِّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(15)
فلا يغرنَّك تقلُّبُ الكفار في نِعَم الله رغم عصيانِهم له، ولا تستغرِبْ
مكابدة المؤمنين مشاقَّ الفقر رغمَ طاعتهم لله.
الفائدة الثالثة: الندم بعد فوات الأوان لا ينفع،
إنما ينتفع من سمع القصة واعتبر.
{يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتى من قبل
شركه فتمنى لو لم يكن مشركًا فلم يصبه ما أصابه، قيل ويحتمل أن يكون توبة من الشرك
وندمًا عليه فيكون تجديدًا للإيمان لأن ندمه على شركه فيما مضى يشعر بأنه آمن في
الحال فكأنه قال: آمنت بالله تعالى الآن وليت ذلك كان أولًا، لكن لا يخفى أن مجرد
الندم على الكفر لا يكون إيمانًا، وإن كان الندم على المعصية قد يكون توبة إذا عزم
على أن لا يعود، وكان الندم عليها من حيث كونها معصية، وعلى فرض صحة قياسه بها لم
يتحقق هنا من الكافر ندم عليه من حيث هو كفر؛ بل بسبب هلاك جنتيه، والآية فيما بعد
ظاهرة أيضًا في أنه لم يتب عما كفر به وهو إنكار البعث، والقول بأنه إنما لم تقبل
توبته عن ذلك لأنها كانت عند مشاهدة البأس والإيمان إذ ذاك غير مقبول غير مقبول إذ
غاية ما في الباب أنه إيمان بعد مشاهدة إهلاك ماله.
فتكون الجملة تنبيهًا
على أن قوله {يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ} كان عن اضطرار وجزع عما دهاه ولم يكن عن ندم
وتوبة.كقوله تعالى: {فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
وهكذا حال أكثر الناس، يذكرون الله تعالى عند
الشدائد والمحن، وينسونه عند السراء والعافية.(16)
الفائدة الرابعة: من خذله الله لا ينصر أبدًا
قال الله تعالى: {وَلَمْ
تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} أي: لما نزل العذاب بجنته، ذهب عنه ما كان يفتخر
به من قوله لصاحبه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ
مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} فلم يدفعوا عنه من
العذاب شيئًا، أشد ما كان إليهم حاجة، وما كان بنفس منتصرًا، وكيف ينتصر، أي: يكون
له أنصارًا على قضاء الله وقدره الذي إذا أمضاه وقدره، لو اجتمع أهل السماء والأرض
على إزالة شيء منه، لم يقدروا؟ (17)
الفائدة الخامسة: القيم في خبر صاحب الجنتين
القيم قضية منهج ومصير، كلٌّ ينشدها، وما كلٌّ
يُوفق لها، تفاوتت فيها النظرات، واختلفت فيها الرغبات، من طلبها بهداية المولى
حازها، ومن تنكب طريقها فاتته، وكان ما حصله نقيض ما طلبه.
هذا، وقد أبان المولى - جل وعلا - هذه القضية في
خبر صاحب الجنتين وصاحبه؛ بيانًا لحقيقة القيم وزيفها، وأثرهما على أصحابهما،
وعاقبة كلٍّ منهما.
وكانت قيم صاحب الجنتين أرضية لم تتجاوز المال
والعشيرة، فقال لصاحبه: أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا، وذلك جهل منه، وإلا، فأيُّ
افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية،
أما هذا المؤمن قيمته: التوحيد والإيمان، قالها
مخبرًا عن نفسه، على وجه الشكر لربه، والإعلان بدينه، عند ورود المجادلات والشبه،
تلك القيمة التي تملي عليه رحمة الخلق بالتوجيه والدعوة، قيمة الإيمان التي لا
يضير معها قلة المال والولد أو انعدامُهما، فهي الباقية وما عداها زائل.
فالقيمة الحقة تكمن في الإيمان بالله وما حثَّ
عليه، وفيضُ تلك القيمة غدقٌ في الدنيا: تواضعًا، وعزةً، وثباتًا على المبادئ،
وحسنَ ظن بالله، ورضًا بنواله، والآخرة خيرٌ وأبقى، والقيم الزائفة ما جانبت ذلك
الإيمان؛ فأفرزت أوهامًا، وغرورًا، وتكبرًا ربما قاد إلى جحود النعم والسقوط في
هوَّة الكفر السحيق التي قد يعسر الخروج منها، وكانت تلك القيمة الزائفة سبب
الشقاء والخِذلان في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشق، وما لهم من الله من واق.
المبحث الثالث: الفوائد
الدعوية.
الفائدة
الأولى: النصح والارشاد دور الدعاة والمصلحين
تلحظون معي أن الله تعالى سمى هذا الرجل صاحبًا،
ومعنى ذلك أنه ملازم له يريد إصلاحه والأخذ بيده، وهذا شأن الدعاة الناصحين، ألا
يتخلوا عن العصاة والمذنبين والمنحرفين، عليهم أن يكونوا معهم وبجانبهم، يأخذون بأيديهم
إلى طريق الصواب، ثم في قوله: {وَهُوَ
يُحَاوِرُهُ} (الكهف:
34).وهذه المحاورة أشار إليها القرآن في الآية
السابقة في قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ
فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (الكهف: 34)
فيبدو أن هذه المحاورة التي كانت بين الرجلين، كانت محاورة القصد منها الوصول إلى
الحقيقة، وإن كان الرجل الكافر ما زال معتزًا بماله ونفره وحشمه وخدمه.(18)
الفائدة الثانية: المفاخرة إنما تكون بطاعة الله
وعبادته
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ
بِرَبِّي أَحَدًا} فأقر بربوبيته لربه،
وانفراده فيها، والتزم طاعته وعبادته، وأنه لا يشرك به أحدا من المخلوقين، ثم
أخبره أن نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام، ولو مع قلة ماله وولد، أنها هي النعمة
الحقيقية، وأن ما عداها معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال، فإن ما عند الله، خير
وأبقى، وما يرجى من خيره وإحسانه، أفضل من جميع الدنيا، التي يتنافس فيها
المتنافسون.
فهو يقول له إن فخرت علي بكثرة مالك وولدك،
ورأيتني أقل منك مالا وولدا -فإن ما عند الله، خير وأبقى، وما يرجى من خيره
وإحسانه، أفضل من جميع الدنيا، التي يتنافس فيها المتنافسون، أما الذي يجب حصول
المفاخرة به فطاعة الله وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين.
هكذا الإيمان الحق، يجعل المؤمن يعتز بعقيدته،
ويتجه إلى الله وحده الذي تعنو له الجباه، ويرجو منه وحده ما هو خير من بساتين
الدنيا وزينتها.(19)
الفائدة الثالثة: تغيير المنكر باللسان في قصة
صاحب الجنتين
لقد وصف الله أمة محمد
-صلى الله عليه وسلم- بالخيرية عندما يتحقق فيها
شروطُ الخيرية الثلاثة: (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ
خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 110]
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ
مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»(20)
فصاحب الجنتين قد أنعم
الله عليه بنعيمٍ كبير؛ فقد أعطاه جنتينِ، لا جنة واحدة،
وكانت تلك الجنتانِ
مزروعتينِ بالأعناب، وتحيط بهما أشجار من النخيل، وتنبت الزروع بين الجنتينِ، وقد
فجر الله بينهما نَهرًا للسقيا، واستجابت الجنتانِ لأمرِ الله، فأنتجتا ثمارًا
يانعةً ناضجةً، تسرُّ الناظرين بهذا النسق الجميل للجنتينِ ووفرة الثمار وطيب
نضجها.
لكن هذا الرجل لم يكن لينظر إلى المعطي وهو الله
تعالى؛ بل ركَّز على العطاء نفسه، فشُغل به عن ذكر ربه وفضله عليه.
هنا جاء دَور الرجل الفقير ماديًّا، والغني بالله،
الفاهم لدَوره كمؤمن في إنكار منكر صاحبه ومحاولته تغييره له بلسانه، هذا الفقير
الذي لا مال له ولا نفر، ولا جنة عنده ولا ثمر؛ فإنه معتزٌّ بعقيدته وإيمانه
ذكَّره بأصلِ خلقتِه من ضعفٍ ومن مادةٍ ضعيفةٍ
مَهينة، مذكرًا هذا المغرور أنه مخلوق من تراب مثلما تم خلق ما يملكه (الجنتين) مِن
تراب، وأن الله هو الخالق، ثم يكفر به!
ثم يأتي دوره في النصح والإرشاد لصاحبه، فيقول له:
(وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ
مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا) [الكهف: 39]، فيعلمه أن الأصلَ أن يرتبطَ قلبُ
العبدِ بالله في كل الأحوال.
بعد هذا العرض نجد أن الرجل المؤمن قام في الواقع الحقيقي بتطبيق الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان وهي المرتبة الثانية من مراتب تغيير المنكر.
إن تغييرَ المنكر باللسان يستطيع أن يقوم به
الكثيرون لو فقه المسلمون دورهم تجاه دينهم، وكانت لديهم الغَيرة على الإسلام.لكن
بالضوابط الشرعية.
المبحث الرابع: الفوائد
العقدية.
الفائدة الأولى: تذكر الإنسان مبدأ أمره وخلقه،
موعظة وذكرى عظيمة.
يَقُولُ تَعَالَى
مُخْبِرًا عَمَّا أَجَابَهُ صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ، وَاعِظًا لَهُ وَزَاجِرًا
عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالِاغْتِرَارِ: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا}؟
وَهَذَا إِنْكَارٌ وَتَعْظِيمٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ جُحُودِ رَبِّهِ، الَّذِي
خَلَقَهُ وَابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مَنْ طِينٍ وَهُوَ آدَمُ، ثُمَّ جَعَلَ
نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ
أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 280] أَيْ: كَيْفَ تجحَدُون
رَبَّكُمْ، وَدَلَالَتُهُ عَلَيْكُمْ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، كُلُّ أَحَدٍ
يَعْلَمُهَا مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ
إِلَّا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا ثُمَّ وُجِدَ، وَلَيْسَ وُجُودُهُ
مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ
بِمَثابَتِهِ فَعُلِمَ إِسْنَادُ إِيجَادِهِ إِلَى خَالِقِهِ، وَهُوَ اللَّهُ، لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَلِذَا قَالَ: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أَيْ: أَنَا لَا أَقُولُ بِمَقَالَتِكَ، بَلْ
أَعْتَرِفُ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أَيْ: بَلْ هُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ.(21)
الفائدة الثانية:
الافتخار الذي لم يُعترف بفضل الله فيه ولم يشكر الله عليه يحبط الأعمال
صاحب الجنتين افتخر على صاحبه بشيئين:
1 - بكثرة المال 2 - العشيرة والقبيلة.
افتخر عليه بالغنى والحسب، يقول ذلك افتخارًا وليس
تحدثًا بنعمة الله بدليل العقوبة التي حصلت عليه.
وَذَلِكَ اغْتِرَارٌ مِنْهُ، لَمَّا رَأَى فِيهَا
مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ فِي
جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا، ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَفْنَى وَلَا تَفْرَغُ وَلَا
تَهْلَكُ وَلَا تُتْلَفُ وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ، وَضَعْفِ يَقِينِهِ
بِاللَّهِ، وَإِعْجَابِهِ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَكُفْرِهِ
بِالْآخِرَةِ.
فالمال والولد لا ينفعان إن لم يعينا على طاعة
الله{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا
وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37].(22)
الفائدة الثالثة: القادر على الابتداء قادر على
الإعادة، والشك في البعث كفر بالله تعالى
الاستفهام في قوله: {أَكَفَرْتَ} للإنكار والاستبعاد، لأن خلق الله تعالى له من
تراب
ثم نطفة، ثم تسويته إياه رجلا، يقتضى منه الإيمان
بهذا الخالق العظيم، وإخلاص العبادة له، وشكره على نعمائه.
والظاهر أن نسبة الكفر بالله تعالى إليه لشكه في
البعث من أوجه: الشك في قدرته تعالى، وفي أخباره سبحانه، وفي حكمته ألا ترى إلى
قوله عز وجل {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما
خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ}، بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَمَا
أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}، يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الشَّكَّ فِي الْبَعْثِ كُفْرٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، كما قال تعالى {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا
تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5] ولا يستلزم قول
صاحب الجنتين قبل ذلك: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ
إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْها مُنْقَلَبًا}
أنه كان مؤمنًا، لأنه قال ذلك على سبيل الفرض والتقدير، لا على سبيل الاعتقاد
واليقين، بدليل تردده في إمكان قيام الساعة، ولأن اعترافه بوجود الله تعالى لا
يستلزم الإيمان الحق، فالكفار كانوا يعترفون بأن الله تعالى هو خالق السموات
والأرض، ومع هذا يشركون معه في العبادة آلهة أخرى.(23)
الفائدة الرابعة: الإيمان بالخلق يستوجب الإيمان
بالخالق، وإخلاص العبودية له سبحانه وتعالى
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ
أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ
رَجُلًا (37)
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 37، 38] فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد
والإمداد، وواصل عليك النعم، ونقلك من طور إلى طور، حتى سواك رجلا كامل الأعضاء
والجوارح المحسوسة، والمعقولة، وبذلك يسر لك الأسباب، وهيأ لك ما هيأ من نعم
الدنيا، فلم تحصل لك الدنيا بحولك وقوتك، بل بفضل الله تعالى عليك.
فكُلُّ ذَلِكَ
يَقْتَضِي إِيمَانَ العبد بِخَالِقِهِ الَّذِي أَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى
الْوُجُودِ، وَجَعَلَهُ بَشَرًا سَوِيًّا، يقتضى منه الإيمان بهذا الخالق العظيم،
وإخلاص العبادة له، وشكره على نعمائه.(24)
الفائدة الخامسة: لا
يقوي أحد على ما في يده من ملك ونعمة إلا بالله ولا يكون إلا ما شاء الله
قال تعالى {وَلَوْلَا
إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} والمعنى: هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك
الله منها الأمر ما شاء الله، اعترافًا بأنها وكلّ خير فيها إنما حصل بمشيئة الله
وفضله، وأن أمرها بيده: إن شاء تركها عامرة وإن شاء خرّبها، وقلت {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}(25) إقرارًا بأن ما قويت به على
عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته وتأييده، إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك
يده إلا بالله تعالى.
وقولَه تعالى: {لَا
قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}، لها ثلاثةَ أوجهٍ.
أحدُها: أن قائلَها يتبرأُ من حولِهِ وقوتِهِ، ويسلِّمُ
الأمرَ إلى مالِكِهٍ.
والثاني: أنه يعلمُ أنْ لا قوةَ للمخلوقينَ إلا باللَّه،
فلا يخافُ منهم؛ إذ قُواهُم لا تكونُ إلا باللَّهِ، وذلك يوجبُ الخوفَ من اللًّهِ
وحدَهُ.
والثالثُ: أنَّه ردَّ على الفلاسفةِ والطبائعيين الذين
يدَّعونَ القُوى في الأشياءِ بطبيعتها، فإنَّ هذه الكلمةَ بيَّنتْ أنَّ القَويَّ
لا يكُونُ إلا باللَّه.(26)
الفائدة السادسة: ينبغي للإنسان إذا أعجبه شيء أن
يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا
شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}
[الكهف: 39] هَذَا تَحْضِيضٌ وَحَثٌّ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ: هَلَّا إِذَا
أَعْجَبَتْكَ حِينَ دَخَلْتَهَا وَنَظَرْتَ إِلَيْهَا حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَى مَا
أَنْعَمَ به عليك، وأعطاك من المال والولد مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُكَ، وَقُلْتَ: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ}؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضَ السَّلَفِ: مَنْ
أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ حَالِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ،
فَلْيَقُلْ: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ
إِلا بِاللَّهِ}.(27)
ويفهم منه استحباب قول ذلك عند رؤية ما يعجب
مطلقًا سواء كان له أو لغيره وأنه إذا قال ذلك لم تصبه عين الإعجاب.
ومما جاء في فضل لا قوة إلا بالله
حديث أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ، وفيه فقَالَ رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: " يَا أَبَا مُوسَى - أَوْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ - أَلاَ
أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الجَنَّةِ " قُلْتُ: بَلَى، قَالَ:
"لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"(28)
وعن أنسِ بنِ مالكِ، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا خرجَ الرجُلُ مِن
بيته، فقال: بِاسْمِ الله، توكلتُ على اللهِ، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله"
قال: "يُقالُ حينئذٍ: هُدِيتَ وكفِيتَ وَوُقِيتَ، فتتنحَّى له الشياطينُ،
فيقول شيطانٌ آخرُ: كيفَ لك برجلِ قد هُدِيَ وكُفِيَ ووقي؟ "(29)
---
(1) أحمد (17763)، البخاري في الأدب المفرد(299)، وصححه
الألباني في صحيح الأدب المفرد (229)
(2) البخاري(2886)
(3) تيسير الكريم الرحمن (ص: 476)
(4) التفسير الموضوعي لسورة الكهف (ص: 55)، زهرة التفاسير
(9/ 4530)
(5) مفاتيح الغيب (21/ 463)روح المعاني (8/ 262)
(6) رواه أحمد (4/ 145) وصححه الألباني بشواهده في السلسلة
الصحيحة (1/ 774)
(7) رواه ابن أبي شيبة (35687) والبخاري في الأدب المفرد
(275) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (ص: 119) وقال: له حكم المرفوع.
(8) تيسير الكريم الرحمن (ص: 477) تفسير العثيمين: الكهف
(ص: 70)، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 273)
(9) تفسير ابن كثير (8/ 398)، وانظر: مع قصص السابقين في
القرآن؛ صلاح الخالدي ص362، المستفاد من قصص القرآن؛ عبدالكريم زيدان ص 607
(10) تيسير الكريم الرحمن (ص: 765)، وانظر: المستفاد من قصص
القرآن ص608
(11) تفسير ابن كثير (5/ 160)، تفسير المراغي (15/ 152)
(12) تيسير الكريم الرحمن (ص: 478)
(13) مسلم (2999)
(14) فتح البيان في مقاصد القرآن (8/ 54)، التفسير القرآني
للقرآن (8/ 622)
(15) البخاري(5426 )، مسلم (2067)
(16) روح المعاني (8/ 269)، تفسير العثيمين: الكهف (ص: 75)،
التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 522)
(17) تيسير الكريم الرحمن (ص: 478)
(18) التفسير الموضوعي (ص: 243)
(19) مفاتيح الغيب (21/ 462)، تيسير الكريم الرحمن (ص: 477)،
التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 521)
(20) مسلم (49)
(21) تفسير ابن كثير (5/ 158)
(22) تفسير ابن كثير (5/ 157)، تيسير الكريم الرحمن (ص:
478)، تفسير العثيمين: الكهف (ص: 69)
(23) روح المعاني (8/ 263)، فتح البيان في مقاصد القرآن (8/
52)، تفسير العثيمين: الكهف ص: 71، التفسير الوسيط (8/ 518)، أضواء البيان (3/
276)
(24) تيسير الكريم الرحمن (ص: 477)، أضواء البيان (3/ 274)
(25) لا قوة إلا بالله: كلمة استسلام وَتَفْوِيضٍ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى وَاعْتِرَافٍ بِالْإِذْعَانِ لَهُ وأنه لا صانع غيره ولا راد
لأمره وأن العبد لا يملك شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ. شرح النووي على مسلم (17/ 26)
(26) الكشاف (2/ 723)، تفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 658)
(27) تفسير ابن كثير (5/ 158)، روح المعاني (8/ 266)، تفسير
القاسمي (7/ 35)، تفسير السعدي (ص: 478)
(28) البخاري(6409)، مسلم (2704)
(29) أبو داود(5095)، الترمذي(3426)، صححه الألباني في صحيح
الجامع(6419)