أيها الداعية، لا تنسَ نفسك
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا
محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن الدلالة على الله تعالى والدعوة إلى دينه هي من أرفع الأعمال
قدرًا وأعلاها شرفًا؛ أثنى عليها رب العزة فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وقد توَّج الله تعالى الداعين إليه بتاج الفلاح في الدنيا
والآخرة؛ فقال عزَّ من قائل: {وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل
عمران: 104]
وإن من أقبح الغبن وأعظم الخسران أن يحرم الداعية نفسه من الخير الذي يدعو
إليه، أو أن يظن أن دوره هو دلالة الناس على الله وهو لا يعرفه؛ بل ينبغي أن يعلم
الداعية أنه أوَّلُ الناس وأولاهم بدعوته؛ فإن الله قد أنكر على بعض عباده فقال: {أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وقال: {يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:
2]
وإن القلب ليكاد ينخلع خوفا عندما يقرأ المرء
قول النبي صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار،
فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار،
فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد
كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه.(1)
من أجل
ذلك كان منهج الرسل عليهم السلام موافقة الأفعال للأقوال لمراد الله عز وجل؛ قال
تعالى على لسان شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا
تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
فينبغي للداعية أن يكون على وجَل، وألا يركن إلى شهرة أو إلى وقوع كلامه من
الناس موقع الاستحسان فإن أكابر الدعاة والواعظين من السلف كانوا يخشون على
أنفسهم؛ وتأمل هذين المثالين لرجلين من أعظم واعظي الإسلام وهما الحسن البصري،
وابن الجوزي:
روى الإمام أحمد في الزهد بسنده إلى علي بن زيد قال: بات الحسن عندنا قال:
فبات باكيًا قال: فلمّا أصبح قلت: يا أبا سعيد، لقد أبكيت الليلة أهلنا قال: يا
علي، إني قلت: يا حسن يعني نفسه لعل الله نظر إليك على بعض هنَاتك فقال: اعمل ما
شئت فلست أقبل منك شيئًا.(2)
وقال ابن الجوزي:
ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم علي يدي أكثر من
مائتي نفس، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل، ويحق لمن تلَمَّح هذا الإنعام
أن يرجو التمام.
وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي.ولقد جلست يومًا، فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف، ما فيهم إلا من قد رقَّ
قلبه، أو دمعت عينه، فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت؟! فصحت بلسان وجدي: إلهي
وسيدي! إن قضيت عليَّ بالعذاب غدًا، فلا تعلمهم بعذابي، صيانة لكرمك، لا لأجلي،
لئلا يقولوا: عذَّب من دلَّ عليه.(3)
وكان يقول رحمه الله في مناجاته: إلهي لا تعذب لساناً يُخبر عنك، ولا عينًا
تنظر إلى علوم تدلّ عليك، ولا يدًا تكتب حديث رسولك؛ فبعزتك لا تدخلني النار.(4)
ونسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يهدنا
ويهدي بنا ويجعلنا سببًا لمن اهتدى؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
---
(1) أخرجه مسلم (2989).
(2) الزهد لأحمد بن حنبل
(1604)
(3) صيد الخاطر (ص: 249)
(4) ذيل طبقات الحنابلة
(2/ 499)