قصة ذي القرنين دروس وعبر

2019-01-21

اللجنة العلمية

قصة ذي القرنين دروس وعبر

امتاز قصص القرآن الكريم بسمو غاياته، وشريف مقاصده، وعلو مراميه، اشتمل على فصول في الأخلاق مما يهذب النفوس، ويجمل الطباع، وينشر الحكمة والآداب، وطرق في التربية والتهذيب شتى، تساق أحيانًا مساق الحوار، وطورًا مسلك الحكمة والاعتبار، وتارة مذهب التخويف والإنذار، كما حوى كثيرًا من تاريخ الرسل مع أقوامهم، والشعوب وحكامهم، وشرح أقوام قوم هُدوا فمكَّن الله لهم في الأرض، وأقوام ضلوا، فساءت حالهم، وخربت ديارهم، ووقع عليهم العذاب والنكال.

كل هذا قصه الله في قصص بيِّن، وأسلوب حكيم، ولفظ رائع، ليَدلَّ الناس الخالق الكريم، ويدعوهم إلى الإيمان الصحيح، ويرشدهم إلى العلم النافع، بأحسن بيان، وأقوم سبيل، وليكون مثلهم الأعلى يما يسلكون من طرق التعليم، ونبراسهم فيما يصطنعون من وسائل الإرشاد.

إن النفوس تحب القصص، وتتأثر بها، لذلك تجد في القرآن أنواعًا من القصص النافع، وهو من أحسن القصص،

لذلك فنحن نقدم نموذجًا من القصص القرآني البليغ، نأخذ منها الدروس والعبر ألا هي " قصة ذي القرنين" التي ورد ذكرها في سورة الكهف.

والحديث حول قصة ذي القرنين يدور في المباحث التالية:

المبحث الأول: تمهيد يشتمل على التعريف بالقصة وصاحبها

المبحث الثاني: ذكر الفوائد في العقيدة

المبحث الثالث: ذكر الفوائد في باب الدعوة

المبحث الرابع: ذكر الفوائد التربوية

المبحث الخامس: ذكر الفوائد الفقهية

المبحث السادس: ذكر الفوائد في باب المعاملات

المبحث السابع: الاعجاز العلمي في قصة ذي القرنين

المبحث الثامن: دفع ما يوهم التعارض في آيات في قصة ذي القرنين

المبحث الأول: تمهيد يشتمل على التعريف بالقصة وصاحبها

قصة ذي القرنين من القصص القرآنية الجامعة بين العلم والعمل؛ والحكم والعدالة؛ والقول والفعل؛ والرأي والشورى؛ والقانون والدستور؛ والصبر والحكمة؛ والسلطة والوجاهة، والقوة الروحية والمادية، قصة ذي القرنين الذي جمع شخصية الحاكم العادل، والعالم العامل، إلى جانب ورعه وتقواه وخوفه من الله تعالى، وحثه على نشر قيم العدالة بين الناس ومن هم في حدود مملكته، ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح، ولا يستغل فتوحاته وسيلة في التجبر على رقاب الضعفاء.وتفقده أحوال الرعية في المشرق والمغرب، وتحمله أعباء السفر ومشاقه ليخدم الناس ويتفقد أحوالهم ويبث فيهم روح العمل وحبه ليسيروا حياتهم على أحسن وجه؛ كل ذلك دليل على اهتمامه وحرصه الشديد على هداية الناس.

ذو القرنين الذي سار بجيشه إلى مشرق الأرض ومغربه لم يسجل عنهم أنهم تعدوا على أحدٍ، أو ظلموا أحدًا، أو أكلوا مال أحدٍ، همهم فقط نشر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، ورفع الظلم والحيف عن الناس، إلى جانب تعليم الناس أسس ومبادئ الصناعة والعمل، ويبين بذلك للعالم أجمع أن عالمية الإسلام ماض إلى يوم القيامة لا تحده زمان ولا مكان، فهو الدين الوحيد الذي يستطيع أن يجمع تحت مظلته كافة الأجناس والأقوام ويجعلهم إخوانًا في دين الله، وكذلك تبين رحلاته نشر روح التسامح بين الأقوام، والاستفادة من بعضهم البعض في مجال البناء والحوار الحضاري.

عن قصةٍ الرجل الصالح الذي مكَّن الله له، وهيأ له الأسبابَ فأخذ بها، واجتهدَ في استثمارها وتطويرها، فطوَّف في الأرض، وجال في أقطارها، قائدًا ظافرًا، وحكما عادلاً، وسلطانا قويًا، وعبدًا شكورًا، فملأ الدنيا عدلاً ونورًا.

طاف ذو القرنين بجنده وعتاده، لينشر العدالة في ربوع الكون، ويبلّغ دعوة الحق، ويصحح المفاهيم، ويقيم الموازين القسط، ويُرسِّخ القيم الأصيلة، والأخلاق الفاضلة.(1)

ووهبه أسباب النصر والتمكين وأصول السياسة وفنون التدبير، فأحسن استغلال هذه المنحِ والمواهبِ على أتمِّ وجهٍ، بل جعلها ركيزةً ومنطلقًا إلى ريادةِ الكون بالعلم والإيمان، والعدل والإحسان.

التعريف بذي القرنين

لَمْ يَتَجَاوَزِ الْقُرْآنُ ذِكْرَ هَذَا الرَّجُلِ بِأَكْثَرِ مِنْ لَقَبِهِ الْمُشْتَهِرِ بِهِ إِلَى تَعْيِينِ اسْمِهِ وَبِلَادِهِ وَقَوْمِهِ، لِأَنَّ ذَلِك من شؤون أَهْلِ التَّارِيخِ وَالْقَصَصِ وَلَيْسَ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ، فَكَانَ مِنْهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُفِيدُ الْأُمَّةَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةً حِكَمِيَّةً أَوْ خُلُقِيَّةً.(2)

وإن كانت معرفة شخصه لَا تزيد القرآن بيانًا، بل العبرة في خبره ثابتة ولو لم يعلم جنسه وقبيله.(3)

والذي يعنينا أن نتدبر في قصته، ونستخلص منها الدروس والعبر في الدعوة والإصلاح والقيادة والإدارة والسياسة والقضاء، ثم إن السؤال ليس عن شخص ذي القرنين وإنما عن حياته وجهاده وأمجاده.(4)

فليس من صالح القصة حَصْرها في شخص بعينه؛ لأن تشخيص حادثة القصة يُضعِف من تأثيرها، ويصبغها بِصبْغة شخصية لا تتعدى إلى الغير فنرى مَنْ يقول بأنها مسألة شخصية لا تتكرر.

إذن: لو جاء العلم في ذاته سنقول: هذه الحادثة أو هذا العَمَل خاص بهذا الشخص، والحق سبحانه وتعالى يريد أن يضرب لنا مثلاً يعُمُّ أي شخص، ماذا سيكون مَسْلكه وتصرّفه إنْ مكَّنَ الله له ومنحه الله قوة وسلطة؟

ولو حددَ القرآن هذه الشخصية لَقُلْنَا: إنه حَدث فرديّ لا يتعدى هذا الشخص، وتنصرف النفس عن الأُسْوة به، وتفقد القصة مغزاها وتأثيرها.ولو كان في تعيينه فائدة لَعيَّنه الله لَنَا.

والحق سبحانه وتعالى أتى بهذه القصة غير مُشخّصة لتكون نموذجاً وأُسْوة يحتذي بها كل أحد، وإلاَّ لو شخصتْ لارتبطتْ بهذا الشخص دون غيره، أما حينما تكلم الحق سبحانه عن مريم فنراه يحددها باسمها، بل واسم أبيها؛ ذلك لأن ما سيحدث لمريم مسألة خاصة بها، ولن تحدث بعدها أبداً في بنات آدم، لذلك عيَّنها وشخَّصها؛ لأن التشخيص ضروري في مثل هذا الموقف.

أما حين يترك المثل أو القصة دون تشخيص، فهذا يعني أنها صالحة لأنْ تتكرر في أيّ زمان أو في أيّ مكان، كما رأينا في قصة أهل الكهف، وكيف أن الحق سبحانه أبهمهم أسماءً، وأبهمهم مكاناً وأبهمهم زماناً، وأبهمهم عدداً، ليكونوا أُسْوة وقُدْوة للفتيان المؤمنين في أيِّ زمان، وفي أيِّ مكان، وبأيِّ عدد.(5)

المبحث الثاني: ذكر الفوائد في العقيدة

إن المتأمل في سيرة ذي القرنين ليجد أنها مليئة بالفوائد العقدية التي يجب أن يسير عليها المسلم في حياته اليومية وسنذكر بعضًا من هذه الفوائد: -

الفائدة الأولى: أن الله تعالى مطلع على كل شيء.

قال تعالى: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف: 91]

قال الطبري: وَقَوْلُهُ: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف: 91] يَقُولُ: وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا عِنْدَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ عِلْمًا، لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِمَّا هُنَالِكَ مِنَ الْخَلْقِ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَسْبَابِهِمْ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ شَيْءٌ.(6)

قال ابن كثير: أَيْ: نَحْنُ مُطَّلِعُونَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِ جَيْشِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أُمَمُهُمْ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى: (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) [آل عمران: 5].(7)

وهنا نقف لنتساءل عن الحكمة التي من ذكر حقيقة إحاطة الله بأخبار ذي القرنين وجيشه، وعلمه بها أثناء حديثه عن فتوحاته!.

إن الحكمة التي قد تبدو لنا هي: أن منهج القرآن قد ربط كل ما يحدث في الكون بإرادة الله ومشيئته وعلمه سبحانه، حتى لا ينسى الناس هذه الحقيقة وهم يتابعون الأحداث، وحتى لا يظنوا أن الناس يتحركون بها بقدراتهم الذاتية، بمعزل عن علم الله وإذنه سبحانه.

فها هو ذو القرنين قام بفتوحات عظيمة، في الجبهة الغربية، ثم في الجبهة الشرقية، وقام بإنجازات عظيمة في الجبهة الشمالية، لكن الله مطلع على أعماله، محيط بأخباره، عالم بإنجازاته، وهو مقدر لها ومريد لها سبحانه.(8)

الفائدة الثانية: من شكر النعمة إرجاعها لمنعمها.

قال تعالى: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98]

قال السعدي: فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل، أضاف النعمة إلى موليها وقال: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي: من فضله وإحسانه عليَّ، وهذه حال الخلفاء الصالحين، إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم، واعترافهم بنعمة الله كما [ص: 487] قال سليمان عليه السلام، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، قال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض فإن النعم الكبار، تزيدهم أشرًا وبطرًا.

كما قال قارون -لما آتاه الله من الكنوز، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة- قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) وقالها ذو القرنين(هذا رحمه من ربي) وانظر إلى عباد الله الصالحين، كيف لا يسندون ما يعملونه إلى أنفسهم، ولكنهم يسندونه إلى الله وإلى فضله.(9)

قال ابن القيم: وَكَذَلِكَ حَقِيقَتُهُ - الشكر- فِي الْعُبُودِيَّةِ.وَهُوَ ظُهُورُ أَثَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ: ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا.وَعَلَى قَلْبِهِ: شُهُودًا وَمَحَبَّةً.وَعَلَى جَوَارِحِهِ: انْقِيَادًا وَطَاعَةً.

وَالشُّكْرُ مَبْنِيٌ عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ: خُضُوعُ الشَّاكِرِ لِلْمَشْكُورِ.وَحُبُّهُ لَهُ.وَاعْتِرَافُهُ بِنِعْمَتِهِ.وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِهَا.وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا يَكْرَهُ.

فَهَذِهِ الْخَمْسُ: هِيَ أَسَاسُ الشُّكْرِ.وَبِنَاؤُهُ عَلَيْهَا.فَمَتَى عُدِمَ مِنْهَا وَاحِدَةً: اخْتَلَّ مِنْ قَوَاعِدِ الشُّكْرِ قَاعِدَةٌ.

وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الشُّكْرِ وَحْدَهُ، فَكَلَامُهُ إِلَيْهَا يَرْجِعُ.وَعَلَيْهَا يَدُورُ.(10)

لقد وقف ذو القرنين أمام هذا العمل العظيم، مظهرًا الشكر لله- تعالى-، والعجز أمام قدرته- عز وجل- شأن الحكام الصادقين في إيمانهم، الشاكرين لخالقهم توفيقه إياهم لكل خير.وقف ليقول بكل تواضع وخضوع لخالقه "هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي".

أي: هذا الذي فعلته من بناء السد وغيره، أثر من آثار رحمة ربي التي وسعت كل شيء.(11)

الفائدة الثالثة: كل من في الأرض أمره إلى زوال وفناء.

قال تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98]

هكذا قال ذو القرنين نُطْقًا بِالْحِكْمَةِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ حَادِثٍ صَائِرٌ إِلَى زَوَالٍ.وَلِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ عَمَلًا عَظِيمًا مِثْلَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّعَهُّدِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ مِنَ الِانْهِدَامِ، وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَسَنَّى فِي بَعْضِ أَزْمَانِ انْحِطَاطِ الْمَمْلَكَةِ الَّذِي لَا مَحِيصَ مِنْهُ لِكُلِّ ذِي سُلْطَانٍ.(12)

(وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) تَذْيِيلٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَجَلٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ)[الرَّعْد: 38] (ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) [يُونُس: 49] أَيْ: وَكَانَ تَأْجِيلُ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ حَقًّا ثَابِتًا لَا يَتَخَلَّفُ.وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِعُمُومِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ حِكْمَةٍ كَانَتْ تَذْيِيلًا بَدِيعًا.(13)

 الفائدة الرابعة: الأخذ بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل.وأنه على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر: (14)

قال تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا) [الكهف: 84، 85]

قال السعدي: أي: ملكه الله تعالى، ومكنه من النفوذ في أقطار الأرض، وانقيادهم له.(وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا) أي: أعطاه الله من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه، ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران، وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إياها، أي: استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه، ولا كل أحد يكون قادرا على السبب، فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به، حصل المقصود، وإن عدما أو أحدهما لم يحصل.

وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم، فلهذا، لا يسعنا غير السكوت عنها، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها، ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة، داخلية وخارجية، بها صار له جند عظيم، ذو عدد وعدد ونظام، وبه تمكن من قهر الأعداء، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأنحائها.(15)

وما آتاه الله سبحانه وتعالى ذا القرنين من أسباب لكل شيء.هي تلك الوسائل السليمة الصحيحة، المؤدّية إلى مسبّبات طيبة كريمة، قائمة على الخير والإحسان.قد يكون للشيء أكثر من سبب، وأكثر من وسيلة يتوسل بها إليه.وبعض هذه الأسباب سليم كريم، وبعضها ملتو خبيث.

فالحصول على المال مثلاً، يمكن أن يتوسل إليه بالعمل الجادّ، وبالكسب الحلال، كما يمكن أن يتوسّل إليه بأسباب كثيرة فاسدة، كالسّرقة، والغصب، والاحتيال، والنصب، والغشّ، والرّبا..ونحو هذا.

وفى قوله تعالى: (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) إشارة إلى أن الأسباب التي وضعها الله سبحانه وتعالى في يد ذي القرنين، وأقام نظره وقوله عليها، هي الأسباب السليمة الصحيحة المعزولة عن الأسباب الفاسدة الظالمة..وهذا هو السرّ في النظم الذي جاء عليه النظم القرآني، من إفراد كلمة (سبب)، ليكون ذلك إشارة دالة على أنه سببٌ واحدٌ، متخيّر من بين كل الأسباب، وأنه السبب الصالح السليم فيها، أو هو أصلح وأسلم الأسباب..ويكون معنى النظم: (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)..أي آتيناه سببا من كل شيء يعالجه، ويعمل فيه، وهو السبب الموصّل إليه على أكمل صورة وأعدلها..وفى تنكير السبب، ما يغنى عن وصفه، إذ أن هذا التنكير يحمل في كيانه- مع هذا الأسلوب الذي عليه النظم القرآني- تنويها به، ورفعًا لقدره، واستعلاء بمكانته بين الأسباب المتداخلة معه في الوصول إلى الغاية المتّجه إليها.(16)

فالإنسان عليه أن يستثمر ما آتاه الله من أمور؛ ليحصل على أسباب القوة، أعطاه الله أسبابًا موصلة، واستعان بذلك على قهر البلدان لتخضع لحكم الإسلام والتوحيد، وسهل الله له الوصول إلى أقاصي العمران، ففعلاً وصل إلى أقاصي العمران، وعمل بتلك الأسباب، هذه الأسباب التي ينبغي على من صارت بيده أن يستعملها لمرضاة الله، ونشر دينه، لقد أخذ ذو القرنين بالأسباب واستفاد مما منحه الله إياه من مظاهر ووسائل وطرق أحسن استغلالها وتوظيفها، فَأَتْبَعَ سَبَبًا  كثيرون الذين يمنحهم الله أسباب القوة لكن لا يستعملونها في طاعة الله إذا استثمروها، وكثير منهم لا يستثمرها أصلا فعنده عقل لا يستعمله، وعنده مال لا يستثمره، وعنده طاقة بشرية تحته من أولاد وغيرهم أيضاً معطلة، لكسله وتواكله وتوانيه لا يستعمل هذه الأسباب، فلا يؤدي به ذلك إلى النجاح، وهذا درس بليغ ينبغي التوقف عنده والتفكير فيه.

لقد تتبع السبلَ والوسائل التي تعينه على تحقيق أهدافه وطموحاته في الدعوة والإصلاح ونشر العدالة والرحمة في شتى الأرجاء، فلم يكن ما قام به ذو القرنين من خوارق العادات بل كان تمكينه من منطلق الأخذ بالأسباب، وفق نواميس الكون، حيث هداه الله للأسباب ووفقه إليها.(17)

والأخذ بهذه الأسباب الكونية على تمامها مع اقترانها بالأسباب الشرعية، يتحقق للمرء ما يريده، وينال خيري الدنيا والآخرة، ويُوفق ويُسدد في طريقه(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69]، وأما من قصَّر في أحد هذين الأمرين أوكليهما، فإما أن يفشَل ويُخفق في طريقه ولا يتحقق هدفه، وإما أن يُستدرج بتحقيق مراده، وربه ساخط عليه وهو يظن أنه موفق مسدد، عياذاً بالله تعالى.

الفائدة الخامسة: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض.ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالاً.لما له من خفيّ الحكم وباهر القدرة.فلا إله سواه.(18)

على هذا، فليس لتخصص فضلٌ على تخصص مطلقًا، بل إن الأمر نسبي، فما يُفضل لشخص ربما لا يُناسب شخصًا آخر..وهكذا رفع الله الناس بعضهم فوق بعض درجات في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ، والمناظر والأشكال و الألوان، وقسم التخصصات بين خلقه ويسر لكل طريقًا خُلق له، والأذواق تتعدد والمواهب شتى، والناس معادن، ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات.

الفائدة السادسة: العقوبات تطهر المؤمن ولا تطهر الكافر.

قال تعالى: "ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً" فدل ذلك على أن العقوبات لا تطهر الكافرين، فالمسلم تطهره العقوبات، أما الكافر فلا، فإنه يعذب في الدنيا وفي الآخرة، نعوذ بالله من ذلك.(19)

الفائدة السابعة: إِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ

قال ابن كثير: قوله تعالى: (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا) أَيْ: شَدِيدًا بَلِيغًا وَجِيعًا أَلِيمًا.وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ.(20)

المبحث الثالث: ذكر الفوائد في باب الدعوة

من خلال البحث في قصة ذي القرنين نجد أنها قد حوت كثيرًا من الفوائد الدعوية ونستطيع أن نجمل الكلام في بعض هذه الفوائد: -

الفائدة  الأولى: العمل الصالح مذكور عند الله قبل أنْ يُذكَرَ عند الخلق.

قال الشيخ الشعراوي  في تفسير قوله تعالى (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا):  وأيُّ شرف بعد هذا الشرف، إن الحق تبارك وتعالى يتولّى التأريخ لهذا الرجل، ويُؤرّخ له في قرآنه الكريم الذي يُتلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة والذي يُتحدّى به، ليظل ذِكْره باقياً بقاء القرآن، خالداً بخلوده، يظل أثره فيما عمل أُسْوة وقُدْوة لمن يعمل مثله.إنْ دَلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن العمل الصالح مذكور عند الله قبل أنْ يُذكَرَ عند الخلق.فأيُّ ذكْر أبقى من ذكر الله لخبر ذي القرنين وتاريخه؟.(21)

وقال أيضا: فذِكْر ذي القرنين في كتاب الله شرف كبير، وفي إشارة إلى أن فاعل الخير له مكانته ومنزلته عند الله، ومُجازىً بأنْ يُخلّد ذكره ويبقى صِيته بين الناس في الدنيا.(22)

الفائدة الثانية: بيان مراتب وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لقد وصف الله أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بالخيرية عندما يتحقق فيها شروطُ الخيرية الثلاثة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)(23)

قال النووي: وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَيْضًا مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدِّينُ.(24)

وهذا الحديثُ عظيمُ الشَّأنِ؛ لأنَّهُ نصَّ على وجوبِ إنكارِ المنكَرِ، وبيان مراتبه.

قالَ النَّوويُّ: "وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ أَعْنِي بَابَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ قَدْ ضُيِّعَ أَكْثَرُهُ مِنْ أَزْمَانٍ مُتَطَاوِلَةٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ إِلَّا رُسُومٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ بِهِ قِوَامُ الأمر وملاكه واذا كثر الخبث عَمَّ الْعِقَابُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ وَإِذَا لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِقَابِهِ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْآخِرَةِ وَالسَّاعِي فِي تَحْصِيلِ رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهَذَا الْبَابِ فَإِنَّ نَفْعَهُ عَظِيمٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَهَبَ معظمه..."(25)

من هذا العرض نجد أن ذا القرنين قام في الواقع الحقيقي بتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (باليد)؛ كما جاء في الحديث: ((مَن رأى منكم منكرًا، فليُغيره بيده))، فهذا الإنكار هو أقوى درجات الإنكار؛ لأنه إزالة للمنكر بالكلية وزجرٌ عنه، ولا يكون هذا التغيير ممن لا يملِك سلطةً؛ إذ قد ينكر منكرًا، فيقع فيما هو أنكر، وليس ذلك من الحكمة، وقد علَّق الإنكار باليد على الاستطاعة، وهذه الدرجة الأولى لولي الأمر في الولاية العامة والخاصَّة.

فسلوك ذي القرنين كان سلوكًا ربانيًّا؛ حيث استطاع أن يستخدم كل الوسائل التي سخرها الله له في سبيل الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].

ويتجلى ذلك في تحرُّكاته جهة المغرب والمشرق وتحرُّكاته بين السدين، فكان تغييره تغييرًا فيه إصلاح وحفظٌ وأمنٌ وطاعة.

وقد تحقَّقت فيه خصال ثلاث يراها بعض العلماء ضرورية لمن يقوم بمثل هذه المهام: رفيق بما يأمُر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، وعدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى.

وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين، الأولياء العادلين العالمين؛ حيث وافَق مرضاة الله في معاملة كل أحد بما يليق بحاله.

الفائدة  الثالثة: بيان الهدف من  ذكر القصص هو  العبرة والعظة.

قال تعالى: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) [الكهف: 83] وجعل خبر ذي القرنين تلاوةً وذكرًا للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوة حسب شأن القرآن فإنه يتلى لأجل الذكر ولا يساق مساق القصص.

قال السعدي:

فيه نبأ مفيد، وخطاب عجيب.أي: سأتلوا عليكم من أحواله، ما يتذكر فيه، ويكون عبرة، وأما ما سوى ذلك من أحواله، فلم يتله عليهم.(26)

إذًا لن يقدم لهم كل التفاصيل وكل الأحداث، وإنما سيقدم لهم أهم الأشياء التي فيها عبرة وعظة، وكلمة(مِنْهُ) تدل على ذلك، فليس هذا عرضًا مفصلاً دقيقًا شاملاً لسيرة ذي القرنين، وليست القضية فيها تفصيل واستيعاب، إنما الذي يعيننا هو مواقع العبرة والعظة، ومواقف الدروس والدلالات والفوائد، ولهذا فإن المسلم لا يبحث عن تفاصيل لا مستند صحيح لها، وإنما يكتفي بما عرضه القرآن الكريم والسنة النبوية، والتفصيلات التي أغفلها القرآن الكريم لا فائدة منها لنا، ولو كان فيها فائدة لذكرها لنا، ثم لا سبيل لنا للوقوف عليها بطريق صحيح، فلماذا نتعب أنفسنا في الجري وراءها، ومحاولة معرفتها

الفائدة  الرابعة: الناس يعطوا الأسباب الموصلة فمنهم من ينتفع ومنهم من لا ينتفع.

قوله تعالى: "فَأَتْبَعَ سَبَباً " أي: تبع السبب الموصل  لمقصوده  فإنه كان حازماً، انتفع بما أعطاه الله تعالى من الأسباب؛ لأن من الناس من ينتفع، ومن الناس من لا ينتفع، ولكن هذا الملك انتفع (فَأَتْبَعَ سَبَباً) وجال في الأرض.(27)

الفائدة الخامسة: تنشيط الهمم لرفع العوائق وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذرًا في الخمول والرضاء بالدون.بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته، حلاوة عقباه من الراحة والهناء.(28)

لقد وصف الله قوم ما بين السدين بقوله: (قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) [الكهف: 93] أي: لا يعرفون الكلام، ولا يفقهون القول؛ لأن الذي يقدر أن يفهم يقدر أن يتكلم، وهؤلاء لا يقولون كلاماً، ولا يفهمون ما يقال لهم، ومعنى: (لاَّ يَكَادُونَ..) [الكهف: 93] لا يقربون من أن يفهموا، فلا ينفي عنهم الفَهْم، بل مجرد القُرْب من الفهم، وكأنه لا أملَ في أن يفهمهم.

لكن، كيف نفى عنهم الكلام، ثم قال بعدها مباشرة: (قَالُواْ ياذا القرنين..) [الكهف: 94] فأثبت لهم القول؟

يبدو أنه خاطبهم بلغة الإشارة، واحتال على أن يجعلَ من حركاتهم كلاماً يفهمه وينفذ لهم ما يريدون، ولا شكَّ أن هذه العملية احتاجت منه جهداً وصبراً حتى يُفهمهم ويفهم منهم، وإلا فقد كان في وُسْعه أنْ ينصرف عنهم بحجة أنهم لا يتكلمون ولا يتفاهمون.فهو مثال للرجل المؤمن الحريص على عمل الخير، والذي لا يألو جَهْداً في نَفْع القوم وهدايتهم.

والإشارة أصبحت الآن لغة مشهورة ومعروفة، ولها قواعد ودارسون يتفاهمون بها، كما نتفاهم نحن الآن مع الأخرس.(29)

قال الله عن ذي القرنين (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) [الكهف: 86] ثم قال عنه (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) [الكهف: 90] ثم قال (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) [الكهف: 93]...سعى ذو القرنين وجدّ واجتهد حتى بلغ حيث انتهت طاقته و قدرته، ولم يرض بمنزلةٍ دون منزلة أحد من أهل زمانه، ولم يقف عند حد، بل سعى في الأرض حتى بلغ مغرب الشمس ثم سار بجيوشه حتى بلغ مشرقها ثم أتبع سببا حتى بلغ بين السدين، وتملّك تلك المناطق كلها حتى حكم فيها، وأثّر بفكره ومبادئه على أهلها وسيطر عليها وغدا شرطياً أعلى للعالم وحارساً لأهل الأرض، وملجأ للمظلومين، ومأمنا للخائفين...عندها طابت نفسه وتحقق حلمه...همة متفجرة وطموح يناطح السحاب...

بهذا يبني ذو القرنين في نفوسنا طموحاً عالياً وهمةً شامخة، ويرسم لنا صورة مشرقة في سماء التفوق والجد والعزم...والتنافس والتصارع من أجل السيادة والغلبة والوصول إلى مفاصل التغيير والتأثير وهي صورة المؤمن القوي...ويحطم في المقابل صور الهزيمة والخمول والكسل...التي تعشعش في نفوس كثير ممن ضعفت همتهم وخارت عزائمهم...

الفائدة السادسة: أهل الصلاح أصحاب رسالة يغرسون بذور الخير أينما حَلُّوا.

إن أهل الصلاح والإخلاص يحرصون على إنجاز الأعمال ابتغاء وجه الله، دون انتظار مقابل أو عوض دنيوي من الناس، فإن ذا القرنين الذي أيده الله قال: (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي بالرجال وعمل الأبدان والآلة التي أبني بها السد (الردم).وهذا بداية النجاح في العمل، فإن القوم لو جمعوا له خرجًا، لم يعنه أحد، ولتركوه يبني، فكان عونهم أسرع في إنجاز العمل وإنجاح المشروع.(30)

فالداعية صاحب رسالة إصلاح يؤديها في ربوع الكون، فهل يطمح في أعراض الدنيا الزائلة أم يجنح إلى هممٍ قاصرة، وقد وهبه الله تعالى من العلم والتمكين والفهم والتوفيق ما زاده طاعةً وانقيادًا وعزمًا واجتهادًا في غرس بذور الخير أينما حلَّ.(31)

فعمل ذي القرنين ممكن أن يكون مثالًا على الصدقة الجارية، لأن العمل الذي فعله ذو القرنين من منع الفساد على البشر مستمر إلى الآن، وبعد الآن، وإلى قيام الساعة، صدقة جارية، عمل سد منع الفساد، كم ألف سنة فساد يأجوج ومأجوج ممتنع عن البشرية، بسبب السد الذي أقامه ذو القرنين.

المبحث الرابع: ذكر الفوائد التربوية

الفائدة الأولى: لا تُعطِني سمكة، ولكن علِّمني كيف أصطاد

قال تعالى: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) أي جُعْلا (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فبذلوا له أجرة، ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي، وهو: إفسادهم في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع، ولا رغبة في الدنيا، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية، بل كان قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة، وشكر ربه على تمكينه واقتداره، فقال لهم: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي: مما تبذلون لي وتعطوني، وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) أي: مانعا من عبورهم عليكم.(32)

إذا أردت الإعانة  فعليك أن تُعين معونة لا تحوج الذي تعينه إلى أن تُعينه كل وقت، بل أعنه إعانة تغنيه أن يحتاج إلى المعونة فيما بعد، كأن تعلّمه أنْ يعمل بنفسه بدل أنْ تعطيه مثلاً مالاً ينفقه في يومه وساعته ثم يعود محتاجاً؛ لذلك يقولون: لا تُعطِني سمكة، ولكن علِّمني كيف أصطاد، وهكذا تكون الإعانة مستمرة دائمة، لها نَفَس، ولها عُمْر.(33)

الفائدة الثانية: تغيير الواقع ليس بالمستحيل

نستطيع أن نخرج من قصة ذي القرنين بسنةٍ إلهيةٍ محكمةٍ، وهي أن تغيير الواقع أمر لا عسر فيه إذا كان هناك جيل قادر على الأخذ بزمام المبادرة مع تقدير الأمور قدرها في ضوء المعطيات والأدوات المتاحة، وليس بعد ذلك إلا عون الله وتوفيقه طالما أن نية الإصلاح متحققة.فهؤلاء القوم المستضعفون الذين كانوا دون السدين، لم يقدروا على تغيير واقعهم المرير، الذي ذاقوا فيه الويل والثبور على يد يأجوج ومأجوج، فقد ظل ينتظرون المخلص لهم من شرهم، حتى جاءهم ذو القرنين، وأغلب الظن أن الأوامر التي وجهها ذو القرنين لهؤلاء القوم (فأعينوني، آتوني زبر الحديد، انفخوا، آتوني أفرغ عليه قطرًا) كانت بمثابة تحريك لهمهم وتحفيزًا وإشراكهم في تغيير هذا الواقع؛ ليعلموا أن هذا التغيير كان بمقدورهم وبين أيديهم مقوماته، بيد أنهم لم يلتفتوا إليها، وظلوا ينتظرون من يلفتهم إليها ويشعرهم بوجودها، مع أنها موجودة كل يوم، وأغلب الظن أن هذه الأوامر تحمل في طياتها نعيًا عليهم؛ لأنهم ظلوا قابعين تحت وطأة هذا الواقع، ولم يحاولوا أن يغيروه بما في أيديهم من وسائل وإمكانات، بيد أننا نقول أن هذا ظنًّا من الظنون لا يقوم دليل عليه، ونستطيع أن نقول إنهم لو التفتوا إلى هذا كله يبق لهم المحرك وهو الإيمان الذي أتى به ذو القرنين، والذي صنع مع بقية المقومات هذا التغيير المرجو.

الفائدة الثالثة: تعريف الغير ثمرة العمل المهم، ليعرفوا قدره فيظهروا شكره.ولذا قال (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي).(34)

الفائدة الرابعة: الإعلام بالدور الأخرويّ، وانقضاء هذا الطور الأوّليّ، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمديّ.ولذا قال (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي).(35)

المبحث الخامس: ذكر الفوائد الفقهية

الفائدة الأولى: مشروعية حبس أهل الفساد وإيقاف فسادهم.

قال الله تعالى: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) [الكهف: 94]

قال القرطبي: في هذه الآية دليلٌ على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدون، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربًا ويحبسون أو يكلفون (ينكلون) ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه.(36)

فإن ذا القرنين بنى سدًا حبس يأجوج ومأجوج عن الخروج للإفساد، قالوا: وكذلك من هو معروف بالإفساد، يخرج من بيته للإفساد يخرب بين اثنين، بين جارين، بين زوج وزوجته، بين أب وابنه، يخرب علاقات تجارية بين شريك وشريكه، هذا يفسد فقط، يتلف يعتدي يغتصب، قالوا: هذا يسجن إذا ما يندفع شره إلا بالسجن يسجن.

والعقوبات في الشرع أنواع: الحدود، والقصاص، والتعزيرات.

والحبس نوع من التعزيرات وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.(37)

الفائدة الثانية: مشروعية الجُعَالة للقيام بالمهام من الأعمال(38).

قال تعالى: (قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) [الكهف: 94]

يَعْنِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَالًا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ، حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًا.فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِعِفَّةٍ وَدِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ وَقَصْدٍ لِلْخَيْرِ: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أَيْ: إِنَّ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّمْكِينِ خَيْرٌ لِي مِنَ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) [النَّمْلِ: 36].(39)

والجعالة لغة: قال ابن منظور: والجُعْل والجِعال والجَعِيلة والجُعالة والجِعالة والجَعالة؛ الْكَسْرُ وَالضَّمُّ: مَا جَعَلَهُ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ.(40)

وتعريفها شرعًا: بأنها التزامُ عوض معلوم، على عمل معيَّن معلوم، أو مجهول يَعسُر ضبطه‏.‏

وقد دل على جوازها الكتاب والسنة والإجماع

فمن الكتاب  قوله تعالى: ﴿ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ﴾ [يوسف: 72]

قال ابن كثير: قوله: " (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) [يوسف: 72]، هذا من باب الجعالة.(41)

فذكر الله الجعالة في شرع من قبلنا ولم ينكرها، فدل على جوازها، ، كيف وقد جاء فيه ما يؤيده كما في الدليل الآتي.(42)

ودليلها من السنة النبوية حديث أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ  مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ)، ثُمَّ قَالَ: (قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا)(43)

والشاهد قوله: (حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا) فدل الحديث على جواز الجعالة على أعمال القرب، فغيرها من باب أولى.

ومن الإجماع: قول ابن قدامة: وجملة ذلك أن الجعالة في رد الضالة والآبق وغيرهما جائزة.وهذا قول أبي حنيفة، ومالك والشافعي.ولا نعلم فيه مخالفًا.

ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإن العمل قد يكون مجهولا، كرد الآبق والضالة ونحو ذلك، ولا تنعقد الإجارة فيه، والحاجة داعية إلى ردهما، وقد لا يجد من يتبرع به، فدعت الحاجة إلى إباحة بذل الجعل فيه، مع جهالة العمل.(44)

المبحث السادس: ذكر الفوائد في باب المعاملات

إن القرآن الكريم مليءٌ بالكنوز لمن تأمله، وتمرس الغوص في معانيه، وهو كالبحر الزاخر بالياقوت، كلما غصت في معانيه، كلما ظفرت بالمعاني السامية، والمعارف العالية الرفيعة، التي تنظم حياة العباد، وتهديهم إلى الرشاد.

والمتأمل في قصة ذي القرنين يجد أنها قد اشتملت على أمرين مهمين في تنظيم أمور العباد والبلاد، ألا وهما: أسس القيادة الناجحة(45)، وبيان القرآن في استعمار البلاد.

وبيان ذلك فيما يلي: -

أولا: أسس القيادة الناجحة من قصة ذي القرنين (46)

ذو القرنين نموذجٌ رائعٌ ومثالٌ واقعيٌّ للقائدِ الراشدِ، والحاكمِ العادلِ، والفاتحِ المؤيَّد، الذي يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب؛ فيبلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ فلا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلةً للكسب المادي، واستغلال الأفراد وابتزاز الشعوب، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه..إنما ينشر العدل في كل مكان يحلُّ به، ويساعد المتخلفين المستضعفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التغيير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق.(47)

وحينما نتوقف عند قصة ذي القرنين، نجد أسس القيادة والإدارة ماثلة أمام ناظرينا، تدلنا على أهم القواعد التي ينبغي أن تنطلق منها عملية القيادة والإدارة، و المهارات المختلفة الواجب توافرها في القائد الناجح، والمدير الفعال، ومن ذلك ما يلي: -

 القائد والإيمان بالله تعالى:

إن القائد القوي الناجح في قيادته هو الذي تنبع قوته من إيمانه بالله عز وجل، فمنه يستمد القوة، ومنه يستمد العون، وعليه يتوكل، فهو يجعل من الله عز وجل مركزًا لحياته، فإيمانه بالله سبحانه هو الذي يرسم له منهجه في العمل، وتعامله مع الآخرين، ولكن لماذا؟ لأن القائد المسلم صاحب رسالة في هذه الحياة نابعة من منهج الله عز وجل، ومن خلال قيادته يعمل على تحقيقها على أسس وضعها الله عز وجل لصالح البشرية وعمارة الأرض "فذو القرنين عبد من عباد الله الصالحين، مكنه الله في الأرض، وآتاه من كل شيء سببًا فأتبع سببًا.رسالته وتنقلاته في أنحاء المعمورة كانت للدعوة في سبيل الله عز وجل والعمل الصالح، وقيادة الأمم لما فيه صالحها، وهذا ما وضح من رحلته إلى (مغرب الشمس)، كذا، إلى (مطلع الشمس)، وإلى بقعة من الأرض يسميها القرآن الكريم (بين السدين).ولقد اتسم حديثه دائمًا بذكر الله عز وجل، والثناء عليه سبحانه، فلقد بدأ حديثه إلى شعب (دون السدين) بقوله: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) [الكهف من الآية: 95].وقال عندما انتهى من إقامة الردم بضخامته وإعجازه: (هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي) [الكهف من الآية: 98]، وفي هذا ما يشير إلى قوة إيمانه بالله سبحانه، وإرجاع كل أمره إلى الله العليم الحكيم"

لقد تكررت لفظةٌ واحدةٌ "خمسَ مرات" على لسان ذي القرنين في قصته، وهذا يعكس لنا شيئاً من نفسيّته وروحه، ولغته التي يتعامل بها وحقيقة واقعه، أَدخل تلك الكلمة في سياقات متنوعة، وقالها في مواطن مختلفة، ألا وهي كلمة "ربِّي"، ليُشعر بعبوديتهِ التامةِ لله تعالى وافتقاره إليه، وأنه هو وحده مربيه و المنعمِ عليه وهو الذي منحه تلك المنزلة الرفيعة، وبلغه إياها.

قالها حينما حكم أهل المغرب فأوحى إليهم بها أنه عبدٌ مطيعٌ لأمر سيده، فقال: " ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا"، ثم قالها في موطن عز وشرف حين ارتفعت الأعناق إليه طالبين إليه بناء السد فقال: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) [الكهف: 95] وبعد أن أتم مشروعه وأكمل بناء السد، والنفوس كلها ممتنةٌ له مسرورةٌ بخدمته ونجاح خطواته، أرجع الفضل كله في ذلك إلى الله تعالى وعدّه من شواهد رحمة الله تعالى، ليربط القلوب بالله: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) مستغلاً لحظات النجاح تلك في تعبيد الخلق لله تعالى، وتلك هي الغاية العليا لتفوقنا ونجاحنا وتصدرنا، إن كنا نعي دورنا حقا...

قال القاسمي رحمه الله: " ومن فوائد القصة: الإعلام بالدور الأخرويّ، وانقضاء هذا الطور الأوّليّ، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمديّ.ولذا قال فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي.(48)

إننا بحاجة دائما لأن نتذكر أننا مهما بلغنا في العلم والمجد والعلو مبلغاً رفيعًا، فإننا لا نخرج عن طور عبوديتنا لله تعالى والافتقار إليه، بل ما كان ذلك لنا إلا بتوفيق الله ومعونته ورحمته "هذا رحمة من ربي "، وكلما زاد العبد رفعةً ونجاحًا..ازدادت مِنّة الله عليه، فازداد انكساراً وذلةً لله تعالى وعبَّد النفوس معه لله تعالى، وهي علاقة مطردة متى ما اختلت خُشي على ذلك المرء أن يكون قد استُدرج عياذاً بالله.

قال ابن القيم: " فَإِن تَمام الْعُبُودِيَّة هُوَ بتكميل مقَام الذل والانقياد، وأكمل الْخلق عبوديةً، أكملهم ذلًا لله، وانقيادًا وَطَاعَةً..."(49)

القائد والأمانة:

إن كان القائد المسلم يستمد قوته من إيمانه بالله سبحانه وتعالى، فمن صفاته أنه قوي بالله عز وجل، فإن الأمانة صفة أساسية يجب أن تتوفر في القائد الناجح أو المدير الفعال.فلقد وُكِل إلى ذي القرنين أمانة التعامل والتصرف مع القوم عند مغرب الشمس من قِبَل الله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا لقدرته على تحمل المسئولية، وأمانة ما وكل إليه قال الله تعالى: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) [الكهف من الآية: 86].كذلك عندما شرع في بناء الردم كان أمينًا على ما في أيدي القوم من ثروات، فعندما عرضوا عليه جَعْلَ خَرْجٍ له نظير إقامته سدًّا لهم؛ لم يطمع فيما بأيديهم، ولكن قال معقبًا: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) [الكهف من الآية: 95].وكان أمينًا على ما في أراضيهم من ثروات ومعادن، فرغم أن معه الجند الكثير؛ إلا أنه أرادهم أن يكتشفوا بأنفسهم ما في أرضهم من ثروات معدنية وخامات فقال لهم: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) [الكهف من الآية: 96]، وقال: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) [الكهف من الآية: 96]، وكأني أراه يحثهم بقوله: اذهبوا إلى أرضكم...ثيروا الأرض.؟..اكتشفوا ما في باطن أرضكم من ثروات ومعادن، ولا يطَّلع عليها أحدٌ غيركم.وكان أمينًا على أرواحهم فشرع على الفور يقيم لهم ردمًا يحميهم من قوم يأجوج ومأجوج، وذلك بمعاونتهم له بقوة، تلك هي الأمانة التي هي روح القيادة والإدارة وأساسها، والتي يرضاها الله عز وجل فيمن يلي أمر الجماعة.

إن على الملك، إذا اشتكى إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن، دفاعًا عن الوطن العزيز، وصيانةً للحرية والتمدن، من مخالب التوحش والخراب، قيامًا بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين.(50)

قال تعالى: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) [الكهف: 95]

قال ابن العربي: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلِكَ فُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِحِمَايَةِ الْخَلْقِ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهِمْ، وَسَدِّ فرجتهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم التي تفي عَلَيْهِمْ، وَحُقُوقِهِمُ الَّتِي تَجْمَعُهَا خِزَانَتُهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَنَظَرِهِ، حَتَّى لَوْ أَكَلَتْهَا الْحُقُوقُ، وَأَنْفَذَتْهَا الْمُؤَنُ، لَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَيْهِ حُسْنُ النَّظَرِ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:

الْأَوَّلُ: أَلَّا يَسْتَأْثِرَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ.

 الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ فَيُعِينُهُمُ.

 الثَّالِثُ: أَنْ يُسَوِّيَ فِي الْعَطَاءِ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ، فَإِذَا فَنِيَتْ بَعْدَ هَذَا وَبَقِيَتْ صِفْرًا فَأَطْلَعَتِ الْحَوَادِثُ أَمْرًا بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فَأَمْوَالُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَتَصْرِيفٍ بِتَدْبِيرٍ.

 فَهَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَالَ فِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مَا يَحْذَرُونَهُ مِنْ عَادِيَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَالَ: لَسْتُ أَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا أَحْتَاجُ إِلَيْكُمْ." فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ" أَيِ اخْدِمُوا بِأَنْفُسِكُمْ مَعِي، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدِي وَالرِّجَالَ عِنْدَكُمْ، وَرَأَى أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا أُجْرَةً نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَيَعُودُ بِالْأَجْرِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ التَّطَوُّعُ بخدمة الأبدان أولى.وضابط الأمور لَا يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ إِلَّا لِضَرُورَةٍ تَعْرِضُ، فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ، الْمَالُ جَهْرًا لَا سِرًّا، وَيُنْفَقُ بالعدل لا بالاستيثار، وَبِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ لَا بِالِاسْتِبْدَادِ بِالْأَمْرِ.وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.(51)

القائد والتواضع والعفة

القادة يجب أن يعظموا أهداف المنظمة، وينكروا ذاتهم في سبيل الجماعة لينالوا ثقة الآخرين واحترام مرؤوسيهم لهم.ولقد ضرب لنا ذو القرنين المثل الأعلى في هذا بقوله: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) [الكهف: 95]

فذو القرنين لا يُذكر لأنه ملك، ولكن يذكر لأعماله الصالحة.

قال ابن كثير: يَعْنِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَالًا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ، حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًا.فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِعِفَّةٍ وَدِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ وَقَصْدٍ لِلْخَيْرِ: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أَيْ: إِنَّ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّمْكِينِ  خَيْرٌ لِي مِنَ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) [النَّمْلِ: 36] وَهَكَذَا قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَبْذُلُونَهُ، وَلَكِنْ سَاعِدُونِي (بِقُوَّةٍ) أَيْ: بِعَمَلِكُمْ وَآلَاتِ الْبِنَاءِ.(52)

وكأنى به يقول لهم: لم آت إليكم من أجل المغنم، ولكن جئت من أجلكم متطوعًا، أطلب العون منكم بقوة، ساعدوني لأجعل بينكم وبينهم ردمًا، يحميكم ويحمي ذرياتكم من بعدكم.ثم انظر إلى تواضعه الجمّ؛ وبعد أن أتم العمل الخالد والمعجز، رد الأمر إلى الله سبحانه وتعالى: (قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98]، إنه الممكّن في الأرض، يطلب العون ليبني الردم، وينصهر معه الشعب، ثم لا يغتر بعمله تواضعًا لله عز وجل.

لقد جمع ذو القرنين إلى جانب العلم النافع والخبرة الدقيقة والمهارة الفائقة والإمكانات الهائلة؛ التواضعَ الرفيعَ والإيمانَ العميقَ والنفْسَ الراضية العفيفةَ، والأياديَ السخيةَ النظيفةَ، والأريحية والشَّهامة: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)).

لم يستغل حاجتهم في تجريدهم من الممتلكات والثروات، كما تفعله في عصرنا الحاضر الأمم الغالبة " المتحضرة " مع الشعوب المقهورة " النامية " من نهب ثرواتهم وحصد خيراتهم وجني ثمارهم! والتآمر على بقائهم تحت وطأة الجهلِ ونير الاستبداد.

ما فعل ذو القرنين كما تفعل تلك الدول التي ترهق الشعوب الفقيرة بالديون المركَّبة، تطوِّقُ بها أعناقهم وتُلهب بها ظهورَهم، وتنتزعُ ولاءَهم وخنوعهم! وترغِمُ أنوفَهم.(53)

فالقائد عليه  التعفف عن أموال رعيته، والزهد في أخذ أجرة، في مقابلة عمل يأتيه، ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته.(54)

ثانيًا: ذو القرنين والمنهج القرآني في استعمار البلدان

الاستعمار هو مصطلح عربي فصيح يُستخدم للبناء والإعمار والنهوض؛ قال تعالى: ﴿ وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61]؛ ومعنى الاستعمار في الآية هو: طَلَبُ العِمارة.

أما الاستخدامُ المعاصرُ له فهو يعني: احتلالَ الدول القوية للدول الضعيفة، وقتل أهلها وتشريدَ مَن لم يُقتل منهم، وتدميرَ بلادهم وسرقةَ خيراتهم وإبقاءَهم تحت طائلة الذُّلِّ والفقر والمرض، وعرقلةَ نهوضهم علميًّا وأدبيًّا وطبيًّا...وغير ذلك.

حين تُمعنُ النظر قصة ذي القرنين، فتبدأُ القصةُ بالتساؤل عنه، وسرعان ما يأتي الجواب الربانيُّ ببيان شأنه: ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 84]؛ أي إنه بلغةِ زماننا: أعطاه الله أسبابَ السيطرةِ والسَّطوةِ على البلدان واستعمارِها، فهل استعمرها كما تُستعمر البلدان الآن؟

لننظر في الآيات الجليلات بُغية العثور على جوابٍ لهذا السؤال.

الاستعمار في قصة ذي القرنين على ثلاثِ مراحل، في كل مرحلة منها دروس مختلفةٌ، واستعمارٌ من نوع فريدٍ.

الاستعمار الأول: كان حين تَوَجَّه نحو مغرب الشمس؛ أي: نحو أقصى نقطة في الأرض من الممكن أن يصلها، فبلغها وَوَجَدَ أن الشمسَ تَغرُبَ في منطقة طينية يخال للناظر كأنَّ الشمس تدخل عينًا حمئة فتغيب.وهذه المنطقة مما سبق أن استولى عليها الظلمة، فَأَلْهَمَ اللهُ ذا القرنين بأنَّه مخوَّلٌ في تصرفه، إمَا أنْ يعذبهم، وإمَّا أنْ يَعفوَ عنهم، فصدر الحكم من المستعمِر العادل: ﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ [الكهف: 87 - 88].

وهكذا نجد أَرِيجَ العدالةِ وعبيرها يفوحان من كلماته، فهو مستعمِرٌ حقيقيٌّ، يُريدُ أنْ يَنشر العدلَ في البلد المظلوم، ويُزيحَ الظلمة، ويُعطيَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وماذا بعد ذلك؟ هل يبقى ذو القرنين حاكمًا في هذه البلاد التي حررها من العبودية والطغيان، يحكمهم بنفسه، ويتمتع بخيراتهم؟

كلا، لم يفعل ذلك، بل تركهم يَحكمون أنفسَهم بأنفسهم بعد أنْ بيَّنَ لهم أُسَسَ العدالةِ في الحُكم من غير أن يمدَّ يده إلى ثرواتهم وخيراتهم، ومِن ثمَّ شدَّ الرِّحال بما آتاه الله مِن أسباب القوة والمَنعَة والعلم وحبِّ الاستكشاف للدنيا، وبرفقته قوةٌ عسكريةٌ ذاتُ عِدة وعُدَدٍ، فاستمرَّ بالمَسير يَنشُر الخيرَ حيثما حلَّ، حتى بلغ مطلع الشمس، وهو محل الاستعمار الثاني الذي نروم تأخير الكلام عنه.

الاستعمار الثالث: بين السدين:

استعمر ذو القرنين في رحلته الثالثة بلادَ ما بين السدين، ووجد هنالك أناسًا يتكلمون لغتهم الخاصة ولا يفهمون لغة غيرهم، ولكن ذا القرنين بما آتاه الله من علم وحكمة استطاع أن يفهمهم، وعلم أنهم مظلومون، وظُلَّامُهم قومٌ ينتظرون خَلف الجبال حتى يأتي موسمُ الحصاد فيهجمون عليهم ويأخذون جميع ما زرعوا، فيقتلون ويحرقون ثم يرحلون، وهذا ديدنهم في كل عام، حتى أجهدوا القوم، فرأى الضعفاء في ذي القرنين الملاذ الآمن، والفرج المنتظر، فعرضوا على ذي القرنين المال مقابل أن يخلصهم من ظلم يأجوج ومأجوج.

 وهنا تظهر شخصية ذي القرنين الرجل المؤمن الصالح الذي اختاره الله من بين عباده وأكرمه غاية الإكرام بكل ما يحتاجه وتشتهيه نفسه، فلم يتكبَّر ولم يتجبَّر ولم يطمع في سفاسف الدنيا، بل بقي همُّه الأكبر إسعادَ الناس وإزالةَ المشقةِ من حياتهم، فعمل لهم ذو القرنين ما أرادوا، ولكن بأيديهم ليعلِّمَهم كيف يَعملون، وكيف يمكن أن يتخلصوا من الظلم؛ ﴿ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴾ [الكهف: 96].

ثم كان يضعُ اللمسات الأخيرة بيديه ليكمل لهم العمل على أتمِّ وجه، فكان السدُّ معجزةً في البناء والإتقان، ونحن هنا لسنا بصدد معرفة كيفية بناء السدِّ ومواده وطبقاته وغير ذلك، لكن ما يهمنا هنا هو أن نتعلم من ذي القرنين أن من آتاه الله القوة الجسدية والعسكرية والعلم والحكمة والحُكم والمال، يجب أن يكون هذا ديدنَه فيبحث في البلدان عن المظلومين والفقراء والمعدمين ليكون لهم عونًا، وأن يدبِّرَ لهم أمور حياتهم ويعلمهم كيف يعيشون، وأن يأخذ حقَّ المظلوم من الظالم، ثم يغادرهم إلى غيرهم، وكما قيل قديمًا: بَدَلَ أن يصطاد لهم سَمَكَةً يُعَلِّمُهُمْ كيف يصطادونها، وهذا ما فعله ذو القرنين معهم.

وبعد الرحلة الأخيرة لذي القرنين آن لنا أن نعود إلى

 الاستعمار الثاني والمحطة الثانية التي وقفنا عندها، والتي تركنا الحديث عنها لنعود إليها بعد أن فهمنا شخصية هذا البطل أكثر، وتدبرنا صنيعه مع الأمم.

قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 90، 91].

والحديث القرآني عن هذه المرحلة جاء مقتضبًا وتلميحًا فقط، وبالرغم من كلِّ ما قيل ونقل من أحاديث وحكايات، وأحيانًا خرافات، فإنَّ كلَّ ما ذكر لا يتعدَّى كونه تخمينات واجتهادات، فالحقيقة القرآنية هي أنهم قوم لم يجعلِ الله لهم من دون الشمس سترًا، فهل كان انعدام الستر لانعدام الملابس أو الأشجار أو البناء أو الجبال؟ هذا ما لا يمكن الجزم به.

أما ما يمكن الجزم به هو أن هؤلاء القوم كانوا يتأذون بالشمس، وأن ذا القرنين أعانهم في ذلك، وفكَّ كُربَتَهُم، وهذا يُعلم قياسًا على عمله في المرحلة الأولى والأخيرة

أما حقيقةُ عمله وكيفيته فهذا ما لا يعلمه إلا الله، ولو كثرت فيه الأقاويل؛ لأن الله تعالى قد نسب علم ذلك إلى نفسه بقوله: ﴿ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 91]؛ أي: إن علمه محيط به، ولا ينفذ منه إلى أحد من العالمين، فلا داعيَ أن نستعين بالخرافات والأساطير؛ لأنها لا تهمنا، ما يهمنا هو أن الاستعمار يكون بمساعدة كلِّ محتاج، وقضاء حاجته له دون أجر أو منة عليه، فالأعمال لله ومن أجل رضاه.(55)

فهذا مثل فيه عبرة للدول القوية التي يجب عليها المحافظة على الشعوب الضعيفة، والإبقاء على ثرواتها دون أخذ شيء منها، منعا من الإسهام في إضعافها، وأخذا بيدها نحو الأفضل، وإغاثتها وإنقاذها من التخلف والضياع، فإن ذا القرنين ملك الدنيا أبى أن يأخذ شيئا من أموال أولئك الأقوام، بالرغم من بناء السد الحصين.(56)

المبحث السابع: ذكر الفوائد اللغوية

تضمنت قصة ذي القرنين على كثير من الفوائد اللغوية لكن أقتصر منها على فائدتين:

الفائدة الأولى: الفرق بين الخَبَر والخُبْر

الخَبَر مذكور في قصة موسى عليه السلام، قال تعالى (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) [النمل: 7]

إن موسى  عندما سار بأهله في الصحراء عائدًا إلى مصر، ضل الطريق، ثم رأى نارًا من بعيد، فتوجه إليها لعله يجد شخصًا، يخبره بالطريق ويدله عليه، إنه يطمع أن يجد عنده خَبَرًا.

أما الخُبْر فلم يذكر إلا في سورة الكهف، قال الخضر لموسى عليه السلام: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)[الكهف: 68]

وقال هنا عن ذي القرنين  (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف: 91]

والفرق بين الخبر (بالفتح) والخبر (بالضم)

الخَبَر: (هو العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر).

أما الخُبْر: (فهو المعرفة ببواطن الأمر).

يعني: أنه إذا كان يتعلق العلم بالأخبار الظاهرة، والأشياء الظاهرة، والأمور الظاهرة، فهو الخَبَر.

أما إذا كان يتعلق العلم بالأمور الباطنة، وخفايا الأشياء وأسرارها ولطائفها وألغازها، فهو الخُبْر.

ولم يذكر " الخُبْر " إلا في سورة الكهف، لأنها سورة العلم بالمغيبات بإذن الله وسورة كشف خبايا  الأمور وأسرارها ودقائقها.

فموسى عليه السلام سيرى من الخضر أشياءً وأفعالا ً، لن يعرف حقيقتها، ولن يعرف خفاياها، ولهذا سينكرها  (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) [الكهف: 68]

وذو القرنين سيقوم بأعمال قد يجهلها كثيرون، وما في ضميره وقلبه ونيته مجهول من قبل الناس، لكن الله محيط به، عالم به، مطلع عليه.(57)

الفائدة الثانية: الفرق بين (اسْطَاعُوا) وبين (اسْتَطَاعُوا)

قال تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) [الكهف: 97]

قال ابن عاشور: واسْطاعُوا تَخْفِيفُ اسْتَطاعُوا، وَالْجمع بينهما تَفَنُّنٌ فِي فَصَاحَةِ الْكَلَامِ كَرَاهِيَةَ إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ.

وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُبْتَدَأَ بِفِعْلِ اسْتَطاعُوا وَيُثَنَّى بِفِعْلِ اسْطاعُوا لِأَنَّهُ يَثْقُلُ بِالتَّكْرِيرِ، كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ آنِفًا (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)[الْكَهْف: 78] ثمَّ قَوْله: (ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)[الْكَهْف: 82].

وَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) أَيْ: هَذَا تَفْسِيرُ مَا ضِقْتَ بِهِ ذَرْعًا، وَلَمْ تَصْبِرْ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهِ ابْتِدَاءً، وَلَمَّا أَنْ فَسَّرَهُ لَهُ وَبَيَّنَهُ وَوَضَّحَهُ وَأَزَالَ الْمُشْكَلَ قَالَ: (مَا لَمْ تَسْطِعْ)  وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْإِشْكَالُ قَوِيًّا ثَقِيلًا فَقَالَ: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) فَقَابَلَ الْأَثْقَلَ بِالْأَثْقَلِ، وَالْأَخَفَّ بِالْأَخَفِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) وَهُوَ الصُّعُودُ إِلَى أَعْلَاهُ، (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) [الْكَهْفِ: 97]، وَهُوَ أَشَقُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ لَفْظًا وَمَعْنَى وَاللَّه أَعْلَمُ.(58)

المبحث السابع: الإعجاز العلمي في قصة ذي القرنين

(مادة بناء السد)

حصلت المهندسة المصرية ليلى عبد المنعم على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من الحكومة السويدية لابتكارها خرسانة مسلحة لا تؤثر فيها الزلازل أو حتى صواريخ توماهوك، وهو ما اعتُبر فتحاً كبيراً في مجال حماية المنشآت الاقتصادية والسياسية الحساسة وقت الحروب والكوارث الطبيعية، وصرحت الباحثة أنها استفادت من آيات سورة الكهف التي تحكي قصة ذي القرنين: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) [الكهف: 96 - 97]، فذو القرنين وضع الحديد على الحجارة التي يبني بها وجعل بينهما الحطب والفحم حتى إذا ساوى بين جانبي الجبل قال انفخوا حتى إذا جعل الحديد كالنار أفرغ النحاس المذاب على الحديد المحمَّى فصار شيئاً واحداً؛ فما اسطاعوا أن يظهروه لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا له نقباً أي خرقاً لصلابته وسماكته، وهذه القاعدة القرآنية كما تقول الباحثة لا توجد في أي مبانٍ في العالم حتى في الأهرامات المصرية؛ لأن الخرسانة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم لا يقدر على ثقبها أو نقبها إلا الله، وابتكارها يقدم تركيباً من حوائط البيتومين مع الحديد المنصهر ويتم استخدام الأسفلت مع الحديد بدلاً من الأسمنت، ثم تُدعم به المنشآت التي يراد حمايتها من الزلازل أو الصواريخ.(59)

وفيما يتعلق برأي الإسلام في الآيات التي استندت إليها الباحثة يقول الدكتور زغلول النجار: إن ما توصلت إليه الباحثة هو لمحة من لمحات الإعجاز القرآني في العلم الذي يتكشف لنا يوماً بعد يوم.وأضاف: إن الباحثة استمدت سر تركيبتها من قصة ذي القرنين الذي ألهمه الله استخدام مادة القطران التي اختلف الفقهاء حول تعريفها، فقال عنها البعض إنها من النحاس المنصهر، بينما عرَّفها البعض الآخر بأنها أحدى مشتقات البترول.وأضاف عليها ذو القرنين قطع الحديد المنصهر لتكوين مادة صلبة يستحيل طرقها ثم بنى فوقها السد لحماية القوم من يأجوج ومأجوج.

وأكد الدكتور زغلول النجار: أن السد من علامات الساعة وسيظل قائماً حتى قيام الساعة ومكانه مجهول ولن يُعرف حتى يظهر يأجوج ومأجوج.

وتمنى الدكتور زغلول النجار، أن تستفيد الجهات المعنية من هذه التركيبة الجديدة وتطبقها في عمليات البناء في عصرنا الحالي.(60)

المبحث الثامن: دفع ما يوهم التعارض في آيات في قصة ذي القرنين

الآية الأولى: قول الله تعالى(تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)

ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ وَأَنَّ السَّمَاءَ مُحِيطَةٌ بِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّمْسَ فِي الْفَلَكِ، وَأَيْضًا الشَّمْسُ أَكْبَرُ مِنَ الْأَرْضِ بِمَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ فَكَيْفَ يُعْقَلُ دُخُولُهَا فِي عَيْنٍ مِنْ عُيُونِ الْأَرْضِ.

والجواب على ذلك  من وجوهٍ: -

 الوجه الأول: رآها في نظره عند غروبها، كأنها تغرب في عين مظلمة، وإن لم تكن هي في الحقيقة كذلك.وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس ماء فإنه يراها كأنها تشرق منه وتغرب فيه، كما أن الذي يكون في أرض ملساء واسعة، يراها كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها.

وَلِهَذَا قَالَ: (وَجَدَهَا) أَيْ فِي نَظَرِهِ وَلَمْ يَقُلْ: فَإِذَا هِيَ تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة.(61)

الوجه الثَّانِي: (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) (الكهف: 86) أي: خُيّلَ له أنها تغرب في العين، كما يخيل ذلك لكل من وقف على ساحل البحر وَقْتَ الغروب فإنه يرى الشمس كأنها تغيب في البحر؛ ولذلك نسب القرآن الأمر إلى وجدان ذي القرنين؛ فقال: (وَجَدَهَا) (الكهف: 86) ولم يقل مثلاً: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس رآها وهي تغرب في العين) أو نحوه مما يفيد أنها تغرب فيها حقيقة.(62)

الوجه الثالث: حروف الجر ينوب بعضها عن بعض

من المعروف في كتب اللغة أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، بمعنى أن هناك توسعًا في استعمالها، بل إن في اللغة توسعاتٍ كثيرة في غير حروف الجر أيضًا، ولْنأخذ حرف الجرّ "فى" (الموجود فى الآية) لنرى ماذا يقول النحاة في استعمالاته: فهم يقولون إنه يُسْتَخْدَم في عشرة معانٍ:

1.الظرفية: وهي إما مكانية أو زمانية وقد اجتمعتا في قوله تعالى: (ألم  غُلِبَتِ الرُّومُ  فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم4: 1).أو مجازية: نحو (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) ومن المكانية (أدخلت الخاتم في إصبعي، والقلنسوة في رأسي).

2.المصاحبة، نحو قوله تعالى (ادخلو في أمم) أي معهم.

3.التعليل، نحو قوله تعالى (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فيه) وقال -صلى الله عليه وسلم- " أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها"  أي بسبب.

4.الاستعلاء، نحو قوله تعالى (لأصلبنكم في جذوع النخل)

5.مرادفة الباء: كقول الشاعر:

ويركب يوم الروع منا فوارس                     يصيرون في طعن الأباهر والكلى

والشاهد قوله: يصيرون في طعن، حيث جاءت (في) بمعنى الباء.

6.مرادفة (إلى) نحو قوله تعالى (فردوا أيديهم في أفواههم) أي مد الكفار أيديهم إلى أفواه الرسل ليمنعوهم من الدعوة إلى الهدى والنور.

7.مرادفة(من).

8.المقايسة: وهي الداخلة بين مفضولٍ سابقٍ، وفاضلٍ لاحقٍ، نحو قوله تعالى (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).

9.التعويض: وهي الزائدة عوضاً من (في) أخرى  محذوفة، كما في قولك دفعت (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت)، والمقصود أن كلاً منهم يضع طرف إصبع واحدة من أصابعه عند فتحة الأذن، لا في داخلها.

10- التوكيد: وَهِي الزَّائِدَة لغير التعويض أجَازه الْفَارِسِي فِي الضَّرُورَة.(63)

ومن هنا كان من السهل أن ندرك معنى قول القرطبي نقلا عن القتبي فى الآية المذكورة: "وَيَجُوز أَنْ تَكُون الشَّمْس تَغِيب وَرَاءَهَا (أى: وراء العَيْن الحَمِئَة) أَوْ مَعَهَا أَوْ عِنْدهَا، فَيُقَام حَرْف الصِّفَة مَقَام صَاحِبه".(64)

الآية الثانية: قول الله تعالى (لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً).

فإن قيل: كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام، بعد أن وصفهم الله تعالى بقوله: (لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً)؟

فالجواب من وجوه:

الوجه الأول: قيل: كلّم عنهم مترجمٌ؛ ويدل عليه قراءة ابن مسعودٍ: لا يكادون يفقهون قولاً، قال الذين من دونهم: يا ذا القرنين (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوج).

الوجه الثاني: أنَّ (كاد) معناه المقاربة؛ وعلى هذا، فلا بدَّ من إضمارٍ، تقديره: لا يكادون يفقهون إلاَّ بمشقةٍ؛ من إشارة ونحوها كما يفهم الخرس.(65)

الآية الثالثة: قول الله تعالى (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)

وبين قوله -صلى الله عليه وسلم-(فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ ردم يَأْجُوج ومأجوج هَكَذَا)(66)

فالجواب من وجوه:

 الوجه الأول: أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِ أَبْوَابِ الشَّرِّ وَالْفِتَنِ وَأَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ مَحْضَةٌ وَضَرْبُ مَثَلٍ فَلَا إِشْكَالَ.

الوجه الثاني: وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) أَيْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِأَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ خَبَرٍ مَاضٍ، فَلَا يَنْفِي وُقُوعَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بإذن الله لهم في ذلك قدرًا وَتَسْلِيطَهُمْ عَلَيْهِ بِالتَّدْرِيجِ قَلِيلًا قَلِيلًا حتَّى يَتِمَّ الأجل، وينقضي الأمر الْمَقْدُورُ فَيَخْرُجُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) [الأنبياء: 96]

 وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ الْآخَرَ أَشْكَلُ مِنْ هَذَا وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَائِلًا: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: " إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنِي فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وهو كهيئة يوم تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون  المياه، وتتحصن الناس فِي حُصُونِهِمْ فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ وَعَلَيْهَا كَهَيْئَةِ الدَّمِ، فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا  فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا ".

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لتسمن وتشكر شُكْرًا مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ "(67)

فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شُعَاعَ الشَّمْسِ مِنْ وَرَائِهِ لِرِقَّتِهِ

 فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مَحْفُوظًا وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فقد استرحنا من المؤنة(68).

وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ صَنِيعَهُمْ  هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ اقْتِرَابِ خُرُوجِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ.أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) أَيْ نَافِذًا مِنْهُ فَلَا يَنْفِي أَنْ يَلْحَسُوهُ وَلَا يَنْفُذُوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عن أبي هريرة فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ أَيْ فُتِحَ فَتْحًا نَافِذًا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(69)

---

(1) التفسير الموضوعي لسورة الكهف: أحمد بن محمد الشرقاوي (ص: 89)

(2) التحرير والتنوير (16/ 18)

(3) زهرة التفاسير (9/ 4577)

(4) التفسير الموضوعي لسورة الكهف (ص: 90)

(5) تفسير الشعراوي (14/ 8975)

(6) جامع البيان (15/ 384)

(7) تفسير ابن كثير (5/ 194)

(8) مع قصص السابقين في القرآن: صلاح الخالدي ص 530

(9) تيسير الكريم الرحمن (ص: 486)

(10) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 234)

(11) التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 575)

(12) التحرير والتنوير (16/ 39)

(13) التحرير والتنوير (16/ 40)

(14) محاسن التأويل (7/ 67).

(15) تيسير الكريم الرحمن (ص: 485)

(16) التفسير القرآني للقرآن: عبد الكريم يونس الخطيب (8/ 703)

(17) التفسير الموضوعي لسورة الكهف (ص: 90)

(18) محاسن التأويل (7/ 67).

(19) تفسير العثيمين: الكهف (ص: 128)

(20) تفسير ابن كثير (5/ 193)

(21) تفسير الشعراوي (14/ 8979)

(22) تفسير الشعراوي (14/ 8981)

(23) مسلم (49)

(24) شرح النووي على مسلم (2/ 22)

(25) شرح النووي على مسلم (2/ 24)

(26) تيسير الكريم الرحمن (ص: 485)

(27) تفسير العثيمين: الكهف (ص: 126)

(28) محاسن التأويل (7/ 68)

(29) تفسير الشعراوي (14/ 8988)

(30) التفسير المنير للزحيلي (16/ 31)

(31) التفسير الموضوعي لسورة الكهف (ص: 95).

(32) تيسير الكريم الرحمن (ص: 486)

(33) تفسير الشعراوي (14/ 8990)

(34) محاسن التأويل (7/ 69)

(35) محاسن التأويل (7/ 69)

(36) تفسير القرطبي (11/ 59)

(37) يراجع في ذلك: أحكام السجن ومعاملة السجناء في الإسلام للدكتور حسن أبو غدة، ضوابط الحَبْس وآثاره في الشَّريعة الإسلاميَّة  دراسة فِقهيَّة مقارنة

(38) أيسر التفاسير للجزائري (3/ 287)

(39) تفسير ابن كثير (5/ 196)

(40) لسان العرب (11/ 111)

(41) تفسير ابن كثير (4/ 401)

(42) البيان في مذهب الإمام الشافعي (7/ 407)

(43) البخاري(2276)

(44) المغني لابن قدامة (6/ 93)

(45) القيادة هنا ليست خاصة في شخصٍ، ولكن كل من ولي أمرًا ما فهو قائدٌ ومسئولٌ عنه لابد أن يراعي الله في ذلك عملًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) البخاري(893)، مسلم(1829) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.

(46)  راجع في ذلك: أسس القيادة من قصة ذي القرنين موقع طريق الاسلام، تخطيط وإدارة المشاريع: ذو القرنين نموذجا م.عبد الرحمن بن سليمان الهزاع

(47) التفسير الموضوعي لسورة الكهف (ص: 97)

(48) محاسن التأويل (7/ 69)

(49) مفتاح دار السعادة (1/ 289)

(50) محاسن التأويل (7/ 68)

(51) أحكام القرآن لابن العربي (3/ 243).

(52) تفسير ابن كثير (5/ 196)، وانظر جامع البيان للطبري (15/ 403)

(53) التفسير الموضوعي لسورة الكهف (ص: 95)

(54) محاسن التأويل (7/ 68)

(55) قصة ذي القرنين والمنهج القرآني في استعمار البلدان د0 شيلان محمد علي

(56) التفسير المنير للزحيلي (16/ 31)

(57) مع قصص السابقين في القرآن؛ صلاح الخالدي ص531

(58) تفسير ابن كثير (5/ 188) وانظر: الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، جامعة المدينة (ص: 388)، مع قصص السابقين في القرآن؛ صلاح الخالدي ص540

(59) مجلة البيان عدد (201) جمادى الأول  1425هـ/ يونيو- يوليو  2004م

(60) المجتمع 13/5/2005م

(61)  مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (21/ 496)، البداية والنهاية (2/ 126)، محاسن التأويل (7/ 73)، التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 571)، التفسير المنير للزحيلي (16/ 21)

(62) مجلة المنار (11/ 281)

(63) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 223)

(64) تفسير القرطبي (11/ 50)

(65)  تفسير البغوي  (3/ 214)، تفسير الزمخشري (2/ 746)، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (21/ 499)، اللباب في علوم الكتاب (12/ 562)، لباب التأويل في معاني التنزيل (3/ 177)

(66) البخاري(3346)، مسلم(2880) عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: (لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ)

(67)  أخرجه أحمد (10632) وابن ماجه (4080)  وأبو يعلى(6436 ) والترمذي (3419) وابن حبان (6829) وغيرهم  من طريق قتادة، قال: حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة به.وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1735 )

(68) قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: (تنبيه): أورد الحافظ ابن كثير هذا الحديث من رواية الإمام أحمد رحمه الله تحت تفسير آيات قصة ذي القرنين وبنائه السد [تفسير ابن كثير (5/ 198)]وقوله تعالى في يأجوج ومأجوج فيه: * (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) * ثم قال عقبه: " وإسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه، لإحكام بنائه وصلابته وشدته ".

قلت: نعم، ولكن الآية لا تدل من قريب ولا من بعيد أنهم لن يستطيعوا ذلك أبدا، فالآية تتحدث عن الماضي، والحديث عن المستقبل الآتي، فلا تنافي ولا نكارة بل الحديث يتمشى تماما مع القرآن في قوله " * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) *.وبعد كتابة هذا رجعت إلى القصة في كتابه " البداية والنهاية "، فإذا به أجاب بنحو هذا الذي ذكرته، مع بعض ملاحظات أخرى لنا عليه يطول بنا الكلام لو أننا توجهنا لبيانها، فليرجع إليه من شاء الوقوف عليه.سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها  حديث( 1735 ) (4/ 314)

(69) البداية والنهاية (2/ 132)

عدد المشاهدات 8831